ابن عبدون ( ... - 299 هـ) ( ... - 912 م)
محمد بن عبد الله بن ثور بن عبدون الرعيني ولاء، القيرواني الحنفي، أبو العباس، قاضي القيروان، فقيه أصولي مشارك في بعض العلوم، قال المالكي في رياض النفوس: «كان إماما علامة بمذهب العراقيين يتفقه لأبي حنيفة» تخرج بالقاضي سليمان بن عمران تلميذ أسد بن الفرات وبرع في العلوم الشرعية، وفي الكلام.
وقد أولاه ابراهيم الثاني قضاء افريقية، وفي البيان المغرب 1/ 121 ان جده كان طحانا وكان يكتب اسمه محمد بن عبد الله الرعيني، ويستفاد منه أنه تولى القضاء بعد عزل أحمد بن طالب بن سفيان وموته سنه 275، وقام بأعباء خطة القضاء نحو الثلاثين شهرا، وكان الأمير محبا فيه شديد الاعجاب به لفطنته وذكائه، وكان يحضر مجالس المناظرة برقادة.
لما خرج ابراهيم الثاني إلى صقلية، وخلفه ابنه أبو العباس عبد الله في إمارة أفريقية أوصاه بابن عبدون وقال له: «احفظه لي» فاغراه بعض جلسائه وقال للأمير أبي العباس: قد كان أبوك دفع إليه ألفي دينار لعمل أبواب جامع القيروان فبعث الأمير في طلبه من تونس إلى القيروان، وأخذ ابن عبدون من ماله ألفي دينار فلما دخل على الأمير قال له: «ائتنا بحساب المال الذي انفق في أبواب الجامع» فأجابه ابن عبدون: «اعز الله الأمير لست بصاحب ديوان تحاسبني» وأخرج كيسا من كمه وقال: «هذه ألفا دينار من مالي فخذوها ويكون ثواب عمل الأبواب التي بالجامع لي، وقد عملت وصية أبيك بي، ومع هذا فخف الله، واحفظ أهل العلم فإن الله يحفظك» فاستحى الأمير وقال له «والله ما ترى منا إلا الخير» وصرف المال.
ولابن عبدون طرائف أورد الأخباريون كثيرا منها، وهي تدل على فرط ذكائه، قال الخشني: «كانت في القيروان طبقة تسمى بالركنية كانوا لا شغل لهم، فكان جلوسهم ومجتمعهم في ركن الجامع فلزمهم الاسم وكان الناس يدارونهم ويتقون السنتهم، وكان فيهم رجل يعرف بأبي القاسم المساجدي، كان خاصا بأبي العباس بن عبدون، وكان مقلا، وكان ابن عبدون يرفقه ويصله ويجدي عليه ويحسن إليه، فحسده سائر أصحابه من الركنية، واجتمع منهم أربعة في الادارة عليه لينقطع ما بينه وبين ابن عبدون قطيعة لا يكون بعدها وصل أبدا فأتى أحد الاربعة إلى القاضي ابن عبدون فجلس عنده وحادثه، ثم أخطر عن ذكر الصحبة والصداقة وقلة الوفاء، ثم قال له: «ما الذي حدث بينك وبين المساجدي»؟ فقال ابن عبدون: ما أعلم انه كان حدث في ما بيني وبينه شيء فما الخبر؟ فجعل الرجل يحيد له عن أن يخبره بشيء فلما كان بعد ذلك بيوم أتاه الثاني فجلس إلى ابن عبدون، وادار الحديث، ثم خرج إلى ذكر المساجدي فقال: قد كان المساجدي لك صديقا، وكنت إليه محسنا، ثم كان من أمره ما كان، فتحرك ابن عبدون وجعل يستقصيه عن حقيقة هذا الخبر، وذكر أنه لا علم له بشيء من ذلك فانزوى الرجل عنه وانقبض وحلف ألا يخبره اجلالا له وإعظاما، فلما كان في اليوم الثالث أتاه الثالث منهم والرابع فجلسا وتحدثا ثم قال له أحدهما ما ينبغي لأحد أن يثق بأحد، قد كان المساجدي لك وكنت له على أفضل حال ثم قد خرج فيك إلى ما خرج، فقال ابن عبدون: قد تكرر علي هذا الخبر من غير إنسان، وعلى غير لسان، وما أجد أحدا يخبرني بالحقيقة في ذلك فأخبرني بذلك فقد ضجرت من اكتتام الحقيقة عني في ذلك، فقال الرجل لا - والله - لا أفعل ولا استهين بك هذه الاستهانة فاستجاب الرابع وقال: لانك - والله - لا تحب القاضي ولا تنصحه إن كنت أنت لا تخبره فقال له ابن عبدون: هات، فقال الرجل: يقول المساجدي أنك خنثي وإن لك قرعة كقرعة النساء، فتلون وجه ابن عبدون، وصار يحلف ماله قرعة، ثم بلغ المساجدي فأتى منتصلا فوجد في قلب ابن عبدون مر التصديق ما قيل له عنه ما لا يعمل فيه الاعتذار ولا يمحوه التنصل فأبعده وأقصاه عن نفسه»
وعقب الخشني الراوي لهذه الرواية بكلمة قال فيها: «لعمري هذه الادارة لطيفة من الفكر وعجيبة من الحيل ولو قرع منها أدهى الناس ما خلص منها، نستعيذ بالله من حيل الماكرين، ومن أفك الكائدين».وفي معالم الايمان في ترجمة أبي إسحاق ابراهيم بن الضاء (ت 276 وقيل 250 معالم الايمان 3/ 176 ط 2/) «إن ابن عبدون لما تولى القضاء ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح من أصحاب سحنون بالسياط وطيف بهم على الجمال بغضا منه في مذهب مالك - رحمه الله - وفي أصحابه منهم أحمد بن معتّب، وأبو إسحاق بن المضاء، وأبو زيد المديني والحسن بن مفرّج مولى مهرية، ومات المديني، وأبو إسحاق بن المضاء على الحال وهما على الجمال، وكان ابن عبدون حنفيا ورجل سوء، قال ابراهيم بن أحمد الامير: لو ساعدته على مقصوده فيمن يشكو به لجعلت له مقبرة على حدة».
وهذه الحكاية المنسوبة إلى الأمير ابراهيم بن أحمد الاغلبي ينظر إليها بعين الشك والاحتراز، فقد مرّ أن هذا الامير كان يحبه وشديد الاعجاب به، ولما خرج إلى صقلية أوصى ابنه به.
وفي ترجمة جبلة بن حمّود من معالم الايمان (3/ 274 ط 2/) دارت محاورة بينه وبين جبلة بن حمود قال له جبلة: «أنت الذي ضربت أحمد بن معتب، وابراهيم الدمني، وقطعت بهم سماط القيروان، وأمرت أن ينادى عليهم هؤلاء حزب الشيطان».
وكانت وفاته بالقيروان بعد استيلاء العبيديين على أفريقية.
مؤلفاته:
كتاب الآثار في الفقه.
الاحتجاج بقول أبي حنيفة في تسعين جزءا، والظاهر أنها أجزاء صغيرة في حجم الأجزاء الحديثة.
الاعتلال لأبي حنيفة.
قصيدة رائية في التاريخ.
كتاب تراجم المؤلفين التونسيين - الجزء الثالث - من صفحة 347 الى صفحة 350 - للكاتب محمد محفوظ