السيد محمود أحمد
أسمر اللون واسع العينين أقنى الأنف متوسط القامة، أقرب إلى النحافة منه إلى الامتلاء، تزين وجهه لحية سوداء تشمل الشارب والعارضين، يرتدي العباءة ويسدل على رأسه شالا أبيض بدون عقال، وهو الزي الذي يتميز به رجال الدين والقضاة.
ولد السيد محمود أحمد سنة 1308 هـ بالهند وقدم مع والده إلى المدينة وهو في الثامنة من العمر، وتعلم بالمدرسة الإعدادية بالمدينة في العهد العثماني، وتخرج منها سنة 1325 هـ، وتابع دراسته في المسجد النبوي الشريف في حلقات الدروس على العلماء الذين كانت تملأ حلقاتهم رحاب المسجد الشريف.
وظائفه
عمل كاتبا بالمحكمة الشرعية بالمدينة المنورة في العهد العثماني، وفي العهد الهاشمي رقي بأمر ملكي إلى وظيفة رئيس الكتاب فيها.
ثم عين قاضيا بمدينة جدة عام 1349 هـ ولكن صحته توعكت فاستقال من وظيفة القضاء وعاد إلى المدينة المنورة بعد عامين قضاهما في جدة.
وبعد عودته إلى المدينة عين كاتبا للعدل بالمدينة المنورة، وفي عام 1364 عين عضوا في رئاسة القضاة بأمر ملكي.
ثم عين عضوا في المجلس الإداري وترأس مجلس الأوقاف بالمدينة المنورة، كما ترأس المجلس البلدي بها.
التجارة والتطوير
المدينة المنورة كما هو معروف بلد زراعي، تقوم حياة سكانه على الزراعة، وعلى استقبال الوافدين إليه لزيارة المسجد النبوي الشريف، والسلام على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكانت الزراعة في المدينة المنورة تعتمد على الوسائل القديمة في ري المزروعات حيث تستخدم الحيوانات في سحب المياه من الآبار لري الزرع، وشاهد الشاب السيد محمود ذلك، ولكنه كان إلى جانب عمله في المحاكم الشرعية وفي دوائر القضاة متفتح الذهن راغبا في إدخال التطوير المفيد، وكان قد تعلم اللغة الإنجليزية وكاتب بعض المصانع في انجلترا بحكم عمله التجاري الذي بدأه فقام باستيراد طلبات سحب المياه المزودة بمكائن رستن، وجرى تركيب أولى المكائن في المدينة المنورة فأحدث هذا العمل ثورة في طرق الري التي كانت مستخدمة، واتجه القادرون من أصحاب البساتين والزراع إلى استخدام هذه الآلات في ري مزارعهم، فكانت نقلة عظيمة في الري، استخدمت فيها الآلة بدلا من الحيوان.
وكان السيد محمود أحمد هو رائد هذا العمل العظيم في المدينة المنورة.
ولم يكتف محمود أحمد بهذا، ولكنه وقد رأى ما تفعله الآلة استورد أول آلة لطحن الحبوب، بعد أن كانت المطاحن تدار كذلك بالحيوانات فحلت الآلة محلها، وكان هذا تطورا آخر أدخله محمود أحمد على حياة المدينة المنورة.
والصيف في المدينة المنورة شديد الحرارة تصل الحرارة فيه إلى أعلى الدرجات فتتجاوز الأربعين درجة في الظهر والأصيل، وهي في أشد الحاجة إلى الوسائل التي تخفف هذه الحرارة على الناس، واستورد السيد محمود أحمد أول مصنع للثلج في المدينة المنورة، فكان بحق رائدا من الرواد أدخل الآلات في حياة الناس فاستغنوا بها عن استعمال الحيوانات، وأدخل الرفاهية الضرورية بإيجاد الثلج ميسورا في المدينة المنورة يقبل الناس على شرائه واستعماله لمقاومة الحرارة الشديدة في الصيف.
قد يقول البعض، ولكنه بإدخاله هذه الآلات في المدينة المنورة ربح ربحا عظيما وجوابي على ذلك، أن الربح حلال طيب، وان هذا لا يطعن في ريادته في هذا المجال.
وقد يتمحك المتمحكون وما أكثرهم فيقولون أنه احتكر استيراد هذه الآلات وتحكم في أسعارها.
وجوابي على هذا أن المصانع التي تنتج الآلات سواء لتوليد الكهرباء أو لرفع المياه أو لإدارة المطاحن، أو لصنع الثلوج تعد بالمئات أن لم تكن بالآلاف فلماذا لم يتقدم غيره للبحث عن هذه المصانع ويستورد منها كما استورد محمود أحمد ويثري كما أثرى؟
وهنا يظهر الفارق بين العامل المجد، وغيره من الناس.
وبعد هذه المقدمة التي رأيتها ضرورية بين يدي البحث أصل إلى السبب الأعظم الذي دفعني للكتابة عن محمود أحمد ووضعه بين أعلام الرجال الذين أكتب عنهم وأترجم لهم في هذا الكتاب وما سبقه من أجزاء.
لمحمود أحمد مكرمة صنعها وأخفاها عن الناس ويأبى الله تعالى إلا أن يظهرها فالعمل الطيب كالعطر الزكي الرائحة لابد أن ينم عن نفسه، فتظهر آثاره ويشتمه الناس عطرا شذيا.
في عام 1369 كان السيد محمود أحمد يتولى رئاسة مجلس الأوقاف في المدينة ورأى أن المكائن الكهربائية التي تضيء المسجد النبوي الشريف في حاجة إلى تقوية فاستأذن الملك عبد العزيز يرحمه الله أن يسمح له باستيراد مكينة كهرباء لتقوية الإضاءة، وبعد حصوله على الإذن الملكي استورد على حسابه مكينة كهربائية بقوة مائتي كيلووات، مع كافة مستلزماتها من تمديدات وكوابل، واستورد معها مائتي مروحة هوائية ومصابيح الفلوراسنت، وتم تركيب هذه المكنة، كما ثم تركيب المراوح والمصابيح الفلوراسنت لتقوية الإضاءة بالمسجد النبوي الشريف.
وقد أخبرني من أثق بروايته أن السيد محمود أحمد كتم هذا العمل عن الناس فلم يعلن عنه في الصحف، ولم ينشر خبره بين الناس، وإنما بقي مكتوما في دائرة ضيقة بين السيد محمود وموظفي الأوقاف الذين تسلموا المكينة الكهربائية والمراوح والمصابيح عمل هذا ابتغاء مرضات الله تعالى، ورغبة فيما عنده، وتعبيرا عن حبه العظيم للرسول صلوات الله وسلامه عليه وتعلقا بمسجده الشريف، وقد رأيت بهذه المناسبة أن نستكمل الحديث عن إضاءة المسجد النبوي الشريف بالكهرباء فأقول:
إضاءة المسجد النبوي بالكهرباء
في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ذكرت عن إنارة المسجد النبوي الشريف بالكهرباء ما يلي:
كانت الإضاءة في المسجد النبوي تعتمد على قناديل الزيت التي لا تزال بقاياها معلقة في العوارض الحديدية بين أعمدة المسجد، كما كانت الشموع توقد في المسجد للإضاءة إلى جانب القناديل.
وأول من أضاء المسجد النبوي الشريف بالكهرباء هو السلطان عبد المجيد الثاني العثماني الذي بعث مكينة كهربائية لإضاءة المسجد، وكان بدء الإنارة فيه بالكهرباء يوم 25 شعبان 1326 للهجرة، وهو يوم الاحتفال بافتتاح سكة حديد الحجاز بالمدينة المنورة.
ويقول السيد حبيب محمود أحمد رئيس مجلس الأوقاف الأعلى بالمدينة المنورة عن هذه المكينة أنها كانت من مصنع رستن الإنجليزية وأنها كانت تدار بغاز الفحم، وقد وردت هذه المكينة مع كافة اللوازم للإضاءة، وأنه تم بناء محطة توليد الكهرباء شمال المسجد الشريف في المنطقة المعروفة بدار الضيافة، وبعد إكمال التمديدات والتجهيزات أضيء المسجد النبوي الشريف بالتيار الكهربائي لأول مرة، ثم ألحق السلطان ذلك بمحرك آخر من مصنع تانجي الإنجليزي، وكان المحركان يتناوبان على العمل.
وذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز:
أن الحاج الشاوي الجزائري - ويسميه السيد حبيب أحمد - ابشاري الجزائري، أهدى للمسجد النبوي الشريف مكينة جديدة لإضاءته بعد أن ظلت المكائن المرسلة من السلطان العثمانية تعمل أكثر من ربع قرن وتم وصول المكينة المهداة من الحاج ابشاري أو الشاوي سنة 1353 للهجرة.
وكذلك أهدى الوزير المصري الأسبق أحمد حمزة مكينة كهربائية رائعة للمسجد النبوي الشريف بعد وصول المكينة التي أهداها الحاج الجزائري، فيكون مجموع المكائن الكهربائية إلى ذلك الوقت أربع مكائن كهربائية.
وفي عام 1369 هـ أهدى السيد محمود أحمد المكينة الكهربائية التي قدمنا الحديث عنها، وفي عام 1374 هـ قامت الدولة بإنشاء محطة خاصة لإضاءة المسجد النبوي الشريف ضمن مشروع التوسعة الأولى للمسجد النبوي الشريف، والتي كانت نواة لتأسيس شركة كهرباء المدينة المنورة.
وبهذا الإيضاح التفصيلي نكون قد استكملنا إيراد ما يتعلق بإضاءة المسجد النبوي الشريف بدءا من سنة 1326 هـ إلى إنشاء المحطة الكهربائية الخاصة به من قبل الحكومة السعودية سنة 1374 هـ، ثم تأسيس شركة كهرباء المدينة المنورة.
وفاة السيد محمود أحمد
مرض السيد محمود أحمد مرضا طويلا، وقاوم كل المحاولات التي بذلت معه للعلاج في خارج المدينة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في 24 ربيع الثاني سنة 1392 هـ، ودفن بها كما كان يتمنى رحمه الله رحمة واسعة، أنه سميع مجيب.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الرابع – ص 215 - 218.