صالح محمد جمال
متوسط القامة ممتلئ الجسم في غير إسراف، أبيض البشرة، واسع العينين، أقنى الأنف يطالعك بوجه دائم الابتسام، تزينه لحية لطيفة مخضوبة، بعد أن سرى إليها الشيب.
ولد الشيخ صالح محمد جمال كما قرأت في مذكراته الشخصية عام 1338 هـ في مكة المكرمة وأدخله أبوه مدرسة الفائزين ولكن الطفل الصغير ترك المدرسة مرتاعا بعد أن رأى القسوة التي يعامل بها بعض المدرسين تلاميذهم وكان الضرب في تلك الأيام عادة تكاد تعم جميع المدارس، الضرب بالعصا أو بالمسطرة على كف اليد، أو وضع الرجلين في الفلكة لمن يعتبرهم المدرسون مستحقين لعقوبة أكبر.
ولم ير أبوه بدا من إغرائه وتحبيب المدرسة إليه فوعده بقرش كامل يأخذه يوميا إن هو ذهب إلى المدرسة التحضيرية القريبة من منزلهم وانتظم فيها، وفعل الاغراء فعله في نفس الطفل الصغير، ولعل اختلاف وجوه المدرسين وربما طريقة تعاملهم مع التلاميذ، وقرب المدرسة من المنزل كانت من الأسباب التي سكنت روع التلميذ الصغير وحببت إليه المدرسة والمدرسين.
قضى صالح محمد جمال ثلاث سنوات في المدرسة التحضيرية، انتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية فقضى بها عامين حيث شجعه بعض أساتذته فيها إلى الانتقال إلى المعهد العلمي السعودي الذي أنشئ كمدرسة ثانوية في مكة المكرمة، وبقي في المعهد العلمي سنتين، واضطر أن يقطع دراسته بالمعهد، ليخرج إلى المجال العملي بعد أن اضطرته ظروفه العائلية إلى ذلك.
كان والد صالح جمال تاجرا ميسور الحال يتجر في بعض المواد الغذائية مع شريك له وفسد الأمر بين الشريكين، وتعثرت البقالة فأثرت على الوالد، واضطر صالح جمال أن يقطع دراسته المتقطعة ابتداءً، ليلحق بوظيفة في بيت المال في مكة المكرمة كاتبا للوفيات بمرتب مقداره واحد وعشرون ريالا في الشهر، وهكذا ترك المدرسة وهو في السادسة عشر من العمر ليدخل في سلك الوظائف والموظفين.
كانت الحياة رخيصة وتكاليفها هينة، وكان المرتب الصغير مفيدا للأسرة وعونا لها على تكاليف الحياة، وخلال ستة أعوام تدرج كاتب الوفيات في المحكمة الشرعية الكبرى إلى كاتب ضبط أول، ثم إلى كاتب ضبط ثان، ثم أصبح مساعدا لرئيس كتاب المحكمة الكبرى، وتدرج الراتب حتى وصل إلى ستين ريالا في الشهر.
وكان الكاتب الشاب موضع ثقة رؤسائه من القضاة فقربوه إليهم، وأولوه اهتمامهم وكان بحكم عمله في كتابة ما يدور في الجلسات بين المتخاصمين، وما يوجهه القضاة من أسئلة، وما يعلقون عليه من إجابات يحيط بسير القضايا في المحكمة.
يقول صالح جمال عن القضاة الذين عمل معهم:
وقد اختصني منهم بالتعليم السيد/ محضار عقيل الذي كان إذا استوت القضية وآن أوان الحكم يمتحنني سائلا: ما هو الحكم الآن … ؟
وكان الشيخ محمد زكي البرزنجي هو الآخر يطلعني على النص في كتاب الكشاف أو المنتهى وهما الكتابان المعتمدان للحكم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في المحاكم.
يقول صالح جمال: وهذا ما أهلني بعد ذلك أن أشير إلى مستند الحكم من النصوص حينما كنت أعد صحيفة الحكم.
يقول صالح جمال: وهو ما لم يسبقني إليه أحد من كتاب المحكمة في ذلك الزمان، ولا تزال تلك الصكوك مسجلة بسجلات المحكمة الكبرى في أوائل الستينات وموقعة بختمي الذي أحتفظ به إلى الآن.
هذه الوظيفة التي قام بأعبائها صالح جمال أكسبته ثقافة لم يكن ليحصل عليها لو لم يتقلد هذه الوظيفة، ولو لم يكن هو شخصيا مستعدا استعدادا نفسيا للتعلم والتدريب، وقد بقي يعمل في المحكمة الكبرى عشر سنوات انتقل بعدها في سنة 1365 هـ للعمل في الأمن العام مديرا للمستودعات، فأتيحت له الفرصة لأن يضيف إلى عمله الوظيفي عملا آخر سيكون له أثر كبير في تكوين شخصيته في قابل الأيام.
وفاة صالح جمال
كنت مدعوا مع أصحاب شركات نقل الحج إلى اجتماع مع معالي وزير الحج والأوقاف الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع ضحى يوم السبت 25 ذي القعدة 1411 هـ، وفي قاعة الجلوس بالوزارة، وجدت المرحوم الأستاذ/ صالح محمد جمال حاضرا لمقابلة الوزير في عمل يتعلق بحجاج المغرب وكانت المفاجأة سارة لكلينا، فكلانا مشتاق للقاء الآخر، وجلسنا جنبا إلى جنب نتحدث ثم دعي إلى مقابلة الوزير، وحينما انتهت المقابلة دعيت مع أصحاب شركات نقل الحجاج للدخول إلى قاعة الاجتماعات.
وغادرنا صالح جمال مودعا إلى مكة، وقبيل المغرب هتف لي أحد الأصدقاء معزيا في وفاة صالح جمال، أثر حادث مروري في طريق مكة، لقد شاء الله أن يقود سيارته، وكان قد تخلى عن قيادة السيارة منذ أعوام وأعوام.
ووقع القضاء الذي لا مفر منه، وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في الثالثة والسبعين من العمر يرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
توجهت إلى داره في مكة معزيا، وفوجئت بالشوارع المحيطة بمنزله في حي الزاهر مكتظة بالسيارات، وبحركة المرور وقد توقفت، فترجلت من السيارة وسرت إلى المنزل الذي كانت الجماهير تتدفق عليه، وشققت طريقي إلى حيث يجلس أهله وفي مقدمتهم شقيقه ورفيق دربه الصديق العلامة الأديب الأستاذ/ أحمد محمد جمال، وأبناؤه الدكاترة طارق وحسن وياسر صالح جمال، والأستاذ/ فائز، وماهر، وبقية أهله وأصهاره.
كان الناس وقوفا في صفوف طويلة متراصة الأمر الذي حدا بآل جمال إلى الجلوس من كثرة ما أصابهم من الإرهاق، وكان سيل المعزين لا ينقطع.
لقد حضرت مكة كلها تعزي في صالح جمال وشارك محبوه وأصدقاءه في المدن الأخرى في الحضور من جدة والطائف وغيرها.
كان هذا الحشد الكبير هو أعظم تعبير عن فداحة المصاب في الرجل الفقيد وكان كل هؤلاء المعزون بهذا الحضور الكبير يعبرون عن المكانة التي كان يحتلها صالح جمال في نفوسهم من المحبة والتقدير.
لقد أحب صالح جمال الناس منذ نعومة أظفاره، وعبر عن هذا الحب بقلمه ولسانه وبعمله وإنجازاته فأحبه الناس وأوسعوا له مكانا في قلوبهم، وأثنوا عليه الثناء كله.
رحم الله صالح جمال، فقد كان مثالا للخلق والصدق.
جهر بالحق في شجاعة ورجولة، وعمل للوطن في دأب واخلاص، وقضى حياته في إعانة المحتاجين، وتيسير أمور الناس ما استطاع، رحمه الله رحمة واسعة، وأحسن جزاءه إنه سميع مجيب.
يوجد له ترجمة مطولة في كتاب أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الرابع – ص 75 - 86.