السيد أحمد الفيض آبادي
أسمر اللون، متوسط القامة، ينم بريق عينيه عن ذكاء وقاد، قوي العزم، اشتعل رأسه شيبا قبل أن يبلغ المشيب، خفيف اللحية التي يختلط فيها البياض بالسواد، بسيط المظهر، يرتدي ثوبا من القماش الأبيض، ويعتمر قلنسوة حجازية ملتصقة بالرأس، تفيض نفسه بالرغبة في الإصلاح والمحبة للناس، مشغول الفكر بالعمل العظيم الذي نذر نفسه لتحقيقه رغم المصاعب والعقبات.
الاسم والنسب
ولد السيد أحمد الفيض آبادي بقرية "بانكرمو" التابعة لفيض آباد بتاريخ 21 ربيع الثاني 1293 هـ، ويرجع نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، حيث هاجر جده الأعلى السيد نور الحق إلى الهند في عهد السلاطين الغزنويين واستقر بقرية "الله داربور" من أعمال فيض آباد التي استوطنتها أسرته جيلا بعد جيل، حتى نزح منها حفيده حبيب الله إلى الحجاز، وحبيب الله هو والد السيد أحمد الفيض آبادي.
تعليمه
التحق أحمد الفيض آبادي بمدرسة حكومية في قرية تانده، حيث كان والده مدرسا بها، ونجح الطالب أحمد وكوفئ بإعانة مالية شهرية من قبل القائمين بأمر المدرسة تشجيعا له.
ثم التحق بمدرسة ديوبند الجامعة في سنة 1315 هـ حين بلوغه الثانية والعشرين من العمر، وبعد تخرجه بعام واحد هاجر والده من الهند إلى المدينة المنورة بأسرته وجاء الشاب أحمد الفيض آبادي إلى المدينة المنورة مع أسرته، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى الهند حيث بقي بها أربعة أعوام، وفي عودته إلى الهند اتصلت أسبابه بالسيد أحمد الكنكوهي طيلة عامي 21، 22، ولازمه ملازمة الظل وأفاد من هذه الصحبة رياضة النفس على الأخلاق الفاضلة.
كان السيد أحمد على علم باللغات فقد كان يتكلم اللغتين الفارسية والأردية إلى جانب إتقانه للغة العربية مع إلمام بمبادئ اللغتين التركية والانجليزية.
وكان يتقن الخط والكتابة، وكتابته بقلم النسخ آية في الجمال، وأجمل منها كتابته بقلم التعليق الفارسي.
أسرته
وينتمي السيد أحمد إلى أسرة اشتغلت بالعلم والتعليم فوالده عمل رئيسا للمدرسين في مدرسة صفي بور بالهند، ثم تنقل في البلاد والأعمال حتى ألقى عصا التسيار ببلده - بانكرمو - فعين مدرسا بإحدى مدارسها واقترن بابنة عمه وهو مقيم بها، وبها ولد أبناؤه صديق، وأحمد الفيض آبادي، وشقيقه حسين، ومن هذه البلدة هاجر إلى المدينة المنورة
وشقيقه السيد حسين أحمد، الذي وصل إلى المدينة برفقة والده كان مشتغلا في بدء حياته بالعلم والتعليم.
كانت له حلقة بالمسجد النبوي الشريف وتتلمذ على يديه الكثيرون من علماء المدينة المنورة وشعرائها منهم. على سبيل المثال، الشيخ عبد الحفيظ كردي عضو المحكمة الكبرى بالمدينة المنورة وأحد شعرائها، وأحمد البساطي نائب القاضي، ثم أحد مدرسي القسم العالي بمدرسة العلوم الشرعية، ومنهم بشير الابراهيمي الزعيم الجزائري الذي وصل إلى المدينة مهاجرا من بلده، بعد أن احتلته فرنسا وأصرت على اعتبار الجزائر اقليما فرنسيا.
وحسين أحمد هو الذي نصح الابراهيمي الزعيم الجزائري وزميله عبد الحميد باديس بالعودة إلى بلدهما قائلا لهما ما معناه.
أن بقاءكما بالمدينة لن يفيد الجزائر بشيء، ولكن عودوا إلى بلادكم وابدأوا بتعليم القرآن الكريم في كل مكان يتيسر لكما ذلك، أن الفرنسيين لن يستطيعوا الأمر بمنع تعليم أطفال الجزائر القرآن الكريم.
وهذا القرآن هو الذي يفتح الباب للعمل لاستقلال الجزائر، وعاد الابراهيمي وعاد معه عبد الحميد باديس، وبدأ العمل لاستقلال الجزائر من كتاتيب تعليم الأطفال سور القرآن الكريم، وقد كتب الله لحسين أحمد العودة إلى الهند ليشارك في العمل على اخراج الانجليز من الهند فكان واحدا من أبرز الرجال الذين عملوا لاستقلال الهند، ونعود بعد هذا الاستطراد لنتحدث عن حسين أحمد بالمدينة.
وفاة السيد أحمد الفيض آبادي
توفي السيد أحمد الفيض آبادي عصر يوم العاشر من شوال سنة 1358 للهجرة عن عمر يناهز الخمسة والستين سنة، وكان قد أصيب بالمرض منذ وقت مضى ولكنه لم يلزم سريره إلا بعد اشتداد المرض عليه، وكان يشكو من ضغط الدم.
توفي بعد أن قرت عينه بنجاح المشروع العظيم الذي كرس حياته له فمدرسة العلوم الشرعية التي بدأت صغيرة صارت صرحا شامخا يبلغ تعداد طلابها الستمائة والمتخرجون منها يشاركون في الحياة العامة عاملين في مختلف المجالات، والمبنى الصغير تحول إلى عمارة ضخمة على الطراز الأندلسي بجوار المسجد النبوي الشريف، تستوقف الأنظار بجمالها ومتانتها.
والقسم الصناعي فيها تطور وكبر وعظمت منافعه في البلد الطيب المقدس.
حبيب أحمد يخلف عمه
أحس السيد أحمد الفيض آبادي قبل أن يدركه المرض بضرورة وجود من يخلفه على رعاية المدرسة بعد وفاته، والموت حق على العباد وكان الشاب حبيب أحمد بن أخيه السيد محمود أحمد طالبا من طلاب مدرسة العلوم الشرعية، ظهرت بوادر نجابته منذ أن كان ناشئا، فحفظ القرآن الكريم في سنة واحدة وواصل دراسته حتى تخرج من القسم العالي سنة 1358، وهو ابن عشرين سنة.
ورأى عمه السيد أحمد أن ابن أخيه حبيب هو خير من يخلفه في إدارة المدرسة ورعايتها فأنابه عنه في إدارة المدرسة وأكد هذه الإنابة بصك شرعي منحه فيه التصرف المطلق في أمورها بما يراه مناسبا لإدارتها واستمرارها فتولى إدارة المدرسة بعد وفاة مؤسسها، فأتم العمارة التي بدأها المؤسس، وعمل على تطوير الأقسام الصناعية بها بتزويدها بالآلات الحديثة، وحينما أزيل مبنى المدرسة وأدخل في توسعة الحرم النبوي الشريف، أقدم على شراء أرض قريبة من المسجد وشيد فيها المبنى الجديد للمدرسة وهو من أجمل المباني في المدينة المنورة، التي أصبحت تسير في برامجها حسب منهج وزارة المعارف، ولا تزال المدرسة تمارس مهمتها العظيمة في البلدة المقدسة وقد بلغ تعداد طلابها سنة 1410 هـ ألفا وثلاثمائة طالب
رحم الله السيد أحمد الفيض آبادي وجزاه خير الجزاء بما بذل من جهد في نشر العلم في مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ووفق الله السيد حبيب لإكمال العمل العظيم الذي بدأه المؤسس والذي يقوم عليه من بعده خير قيام.
يوجد له ترجمة مطولة في كتاب أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الرابع – ص 11 - 23.