فرج يسر
لم أعرف الرجل حتى أستطيع التعريف به، ولم أدرك زمانه، وإن كنت أدركت بعض آثاره، فدفعني هذا إلى تلمس أخباره، ولقد كان ما عرفت من أخباره لا يروي ظمأ الباحث المتشوق إلى تتبع آثاره الشخصية التي يرغب في تقديمها إلى الناس، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولهذا فإنني أروي هذا القليل الذي استطعت جمعه من أخباره، على أمل أن أضيف إليه ما قد يصل إلي من القراء الكرام، أو أجده في ثنايا الكتب التاريخية في مستقبل الأيام.
قالوا: كان فرج يسر من رجالات مدينة جدة في القرن الثالث عشر، وربما يكون قد أدرك السنوات الأولى من القرن الرابع عشر الهجري، وكان يملك أسطولا من السفن الشراعية، تقطع البحر الأحمر ثم تخوض لجج المحيط الهندي لتعود محملة بما تحتاج إليه من البلاد من مختلف البضائع التي تشمل المأكول والملبوس وما بين هذا وذاك من أصناف، وكان أسطول فرج يسر من السفن عظيما، قالوا: إنه احتفل بزواج ابنه فأوقد المصابيح في مائة سفينة حشدها في ميناء جدة، فكانت مظاهرة بحرية لم تشهدها المدينة في تاريخها الطويل.
وسواء بلغ تعداد أسطول فرج يسر هذا العدد أو يبلغ فإنه كان علما في مدينة جدة في زمانه، وكان عالي الهمة حسن التفكير.
كانت السفن الشراعية تمخر عباب البحر في أوقات معينة من العام، تسافر من ميناء جدة تحمل صرر الذهب إلى بيوت التصدير في الهند، ثم تعود محملة بما يحتاجه الحجاز كله بل وغير الحجاز من أنواع البضائع. فلقد كانت الهند في ذلك الزمان هي مخزن العالم وسلة طعامه، وكانت الصلات التجارية بين الحجاز والهند عظيمة، حتى أن كثيرا من البيوت التجارية في الحجاز، فتحت فروعا لها في الهند، لتصدير البضائع وخاصة الأرزاق مثل: الأرز، والسكر، والشاي، والحبوب، والأقمشة مثل: البفتة، والدوت الذي يسمونه في الحجاز السليطي أو الخام الذي تستعمله البادية في الثياب، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
بيت الحاج زينل وعبد الله علي رضا، وقد انتقل البيت إلى الباكستان بعد تقسيم الهند.
بيت الحاج سليم خنجي - بيت الشيخ إبراهيم الفضل.
وكان لآل الجمجوم فرع في الهند في بعض الأوقات يديره المرحوم الشيخ عبد العزيز جمجوم، كما كان هناك مركز الحاج محمد علي زينل رضا مؤسس مدارس الفلاح - رحمه الله - الذي كان مختصا في تجارة اللؤلؤ ثم شمل عمله المجوهرات، ولعل الشيخ إبراهيم الفضل كان يعمل كذلك في تجارة اللؤلؤ، وذلك قبل ظهور اللؤلؤ الصناعي.
خلاصة القول: أنه كان للتجار العرب وجود ظاهر في الهند في ذلك الزمان. كما كانت هناك بيوت تجارية هندية يتعامل معها التجار في الحجاز أمثال: التاجر الهندي الشهير عبد الله بهاي وغيرهم.
ولم تكن البواخر البخارية في ذلك الزمان السحيق تدخل ميناء جدة، وكان اعتماد التجار هو على السفن الشراعية التي يمتلكها الحجازيون، وكان فرج يسر واحدا من أكبر ملاك السفن الشراعية في ذلك الزمان.
كانت السفن الشراعية تغادر ميناء جدة محملة بصرر النقود الذهبية والفضية وتعود محملة بالبضائع كما ذكرنا، وكانت رحلات هذه السفن في الأوقات التي يكون فيها المحيط الهندي هادئا، إذ كان ربابنة هذه السفن يتجنبون السفر في أوقات الفيضان، ولهذا فإن السفن بقادتها وعمالها يبقون في مدينة جدة في فصل الشتاء الذي يتعطل فيه سير السفن الشراعية في البحر الهندي المحيط.
وكان بين هؤلاء العمال الذين يسافرون في هذه السفن النجارون والدهانون، لأن كل سفينة تحتاج إلى نجار لإصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل في هذه الرحلات الطويلة في البحر، وإلى دهان أو أكثر لدهن هذه السفن المصنوعة من الأخشاب صيانة لها من التآكل، وكان فرج يسر يشغل هؤلاء العمال في بيوت جدة فيقوم النجارون بعمل النوافذ والأبواب، والسقوف، وكان البناء في ذلك الزمان يعتمد على الخشب كمادة أساسية، وكانت البيوت تتميز بالرواشين الكبيرة والنوافذ العالية التي تصنع من الأخشاب، وكان الدهانون يعملون كذلك في دهن هذه الشبابيك والسقوف والأبواب بالبوية.
ولقد قيل لي: إن هؤلاء العمال كانوا من الصينيين المهرة، فاستطاع العمال المحليون نقل الصنعة عنهم وإلى هنا فإن فرج يسر لا يعدو أن يكون رجل أعمال ناجح، أتاح لبلده وجود أسطول شراعي كبير يساهم في جلب حاجات البلاد من الأرزاق والملابس وغيرها وهو عمل طيب يستحق التقدير، ولكن الرجل لم يقتصر على هذا.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى فرج يسر فنقول: إن من آثاره في مدينة جدة مسجدا يحمل اسمه حتى اليوم ويقع هذا المسجد في شارع الذهب وهو الشارع الموازي لشارع الملك عبد العزيز وهو مفتوح تقام فيه الصلوات الخمس حتى هذا اليوم، وذكر الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أن له مسجدا آخر خارج مدينة جدة كذلك.
وبعد فإن اسم فرج يسر يدل على أنه مولى، فلقد كان الناس في الحجاز يطلقون الأسماء الجميلة على عبيدهم وجواريهم، فيسمون الرجال بأسماء: فرج، وجوهر، وألماس، وياقوت، وسعيد، ومسرور، ويسمون النساء بأسماء: بشرى، وسعيدة، ومبروكة، ودام الهناء، ودام السرور، وبخيتة وما إلى ذلك، وهم يطلقون هذه الأسماء الجميلة على الرقيق تيمنا بهم، ولقد انتهى عهد الرقيق ولله الحمد إلى غير رجعة.
أقول: إن اسم فرج يسر يدل على أنه كان مولى ابن مولى، وهذا لا يحط من مقامه في نظري ولا في نظر العقلاء والمنصفين، فلئن كان فرج يسر مولى فلقد كانت أعماله أعمال السادة بل الكبراء من السادة والمصلحين.
قالوا: ولقد توفي فرج يسر فقيرا مريضا لا يملك ما يعينه على حياة الفاقة والمرض، ولا نعرف سببا لما أصاب الرجل من الفقر بعد الغنى، فالأخبار عنه كما ذكرت قليلة ومتناثرة، ولكنى أرجح أن ظهور السفن التي تسير بالبخار وترددها بين موانيء البحر الأحمر والمحيط الهندي قد سبب الكساد لأسطول فرج يسر من السفن الشراعية، فكانت معاناته من الفقر في ختام حياته، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم تصل إلى علمنا.
رحم الله فرج يسر وجزاه خير الجزاء على ما قدم من عمل صالح إنه سميع مجيب.