الشيخ محمد علي ملطاني
طويل فارع، حنطي اللون، مستطيل الوجه، واسع العينين، له لحية متكاملة خفيفة، يلبس العباءة العربية ويضع على رأسه غترة بيضاء في الصيف أما في الشتاء فيعتم بعمامة من الصوف، وكان يشد وسطه بحزام خفيف من القماش وكان يحمل ساعة معدنية مربوطة بخيط أسود إلى عروة الثوب لتستقر بين ثنايا هذا الحزام فهو في لباسه هذا يمثل طبقة الأعيان من رجال الحارة الذين أخذوا بنصيب من عادات المتحضرين من أهل المدينة واحتفظوا في نفس الوقت بشارات زعماء الحارة وتقاليدهم والواقع أن الملابس في النصف الأول من القرن الهجري الرابع عشر كانت تمثل الطبقة التي ينتمي إليها المرء تمثيلا يكاد أن يكون دقيقا فبالنسبة لطبقة التجار يلبس الثوب من الشاش الرفيع في الصيف ويشد الوسط بشال من القرمسود غالبا ما يكون مشغولا من صنع الشام وهو من الحرير الخالص ويكون هذا الحزام رفيعا رقيقا وفوق التوب تلبس الشاية من الكتان الأبيض وفوقها الجبة والعمامة الحجازية المعروفة أما في الشتاء فتكون الجبة من الصوف وأحسن أصنافه نوع اسمه "الانقوري" وفي هذا الحزام توضع الساعة "الراسكوف" والتي تشد إلى عروة الثوب بسلسلة من الذهب وربما كانت الساعة ذهبية كذلك، كما يوضع بين ثنايا الثوب كيس من القماش من نوع قماش الجبة فيه بعض النقود الفضية أما طبقة الأفنديات من أبناء التجار فيلبسون الثوب وفوقه الكوت ويضعون على رؤوسهم أو على الأصح على أكتافهم شالا مشغولا إما من اللاس وهو قماش كذلك من الحرير أو هو من البريسمي وهو من الإبريسم الذي كان يصنع في تركيا أو في سوريا ويكون داكن اللون مشغولا وغالي الثمن، وفوق الثوب كوت من نفس القماش يوضع فيه القلم الذهبي والساعة وذلك قبل انتشار ساعات اليد وبينما ينتعل الرجال الحذاء الحجازي الذي يصنع محليا في جدة ومكة والذي كان يتزين بشيء من القصب وأحسن أنواعه يسمى "أبو خرزين" فإن الشبان يلبسون الأحذية الجلدية الواردة من الهند فإذا ترك هؤلاء الشبان عهد الدراسة لبسوا الجبة فوق الكوت والعمامة الحجازية بدلا من الشال فالفارق بينهم وبين الكبار هو تميز الأولين بالشاية وحزام الوسط وتميز الآخرين بالكوت دون حزام للوسط فإذا انتقلنا إلى الطبقة الشعبية الوسطى وجدنا أن الثوب يكون من قماش متين وغالبا ما يكون ملونا كما أن السروال الذي يرتديه التجار والأفنديات طويل سابغ يغطي العقبين مشغول الأطراف تشده دكة كذلك مشغولة بينما يكون السروال الشعبي قصيرا إلى حد الركبة والحزام الذي يشد الوسط عريض من الصوف المشغول وغالبا ما يكون أخضر اللون أو أحمره ويجيء الشال الذي يوضع على الكتف من نفس النوع أما الرأس فتوضع عليه كوفية صغيرة لا تغطي إلا الجزء الأوسط من الرأس بينما تكون هذه الكوفية لأبناء الطبقة الوسطى وأبناء الذوات سابغة كبيرة تغطي الرأس جميعه وتميل على الجبين، ويغلب حفاء الأقدام على الطبقة الشعبية الفقيرة وإذا كان منهم من يلبس الأحذية فهي من الأحذية المحلية التي تصنع في مكة وجدة فإذا وصلنا إلى زعماء الطبقة الشعبية كالعمدة ومن يتصلون به من أعيان هذه الطبقة وجدنا أن لباسهم هو كما وصفناه ويزيد على ذلك عمامة كبيرة على الرأس إما من البغدادي في الصيف أو الصوف المشغول في الشتاء ثم مصنف أو حمودي وهو قماش متين مخطط يوضع على الكتف ويمسكون في أيديهم عصا من العصى الغليظة التي تسمى (الشون(هذا بالنسبة للباس أهل الحجاز أما الجاليات الأجنبية فكانت تتميز بملابسها الخاصة التي تدل على جنسياتها والواقع أن الحديث عن الأزياء وخاصة في النصف الأول من العام الهجري الرابع عشر طويل ومتشعب ولا تتسع له هذه العجالة.
نعود بعد هذا إلى الشيخ محمد علي ملطاني رحمه الله فنقول إن الرجل كان زعيما محبوبا لدى معارفه بحق فهو يعرف الكثيرين من الطبقة الوسطى والشعبية بحكم نشأته بينهم كما أن مواهبه رشحته لصداقة عظماء الرجال في عصره وخاصة من كان بيدهم الحل والعقد فكان هو واسطة هؤلاء الناس لديهم لقضاء حوائجهم، وقد عرفته في منتصف الخمسينات حينما عملت بمكتب الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بمكة المكرمة فعرفت رجلا لماحا بارع الذكاء رغم ضآلة تعليمه ولكنه كان عظيم الخبرة بالحياة والناس وكان يخاطب الناس على قدر كقوم ويتفانى في خدمتهم بل ولا يتأفف من ذلك.
كان يحضر إلينا في مكتب الشيخ محمد سرور عصر كل يوم تقريبا وبيده قائمة بطلبات الناس هذا يريد إركابا بالبريد وكانت سيارة البريد الوسيلة الوحيدة للسفر سواء إلى مكة أو المدينة أو الطائف وكانت تابعة للشركة العربية للسيارات فلم تكن هناك أتوبيسات أو تاكسيات وإنما كان الناس يركبون في سيارات البريد والمحظوظ منهم من يجد محلا له بجوار السائق أما بقية الركاب فيتخذون مقاعدهم داخل الصندوق مع طرود البريد وأكياسه نقول إن الشيخ محمد علي ملطاني يحضر إلينا عصر كل يوم وبيده قائمة بطلبات الناس ابتداء من طلبات الإركاب إلى طلبات المساعدة إلى تعقيب المعاملات إلى غير ذلك من مختلف الأغراض والطلبات، وأذكر أنه حضر إلي يوما وكنت مشغولا وكان المكتب يغص بالزائرين ورأى بعضهم كيف أطال الشيخ ملطاني الكلام معي وهو بنظر في القائمة وأنا أخبره بما تم إنجازه من الطلبات السابقة، وبما وعد به الشيخ محمد سرور أو أشار به في الطلبات الأخرى فقال لي أحدهم بعد أن ذهب الشيخ ملطاني لقد أخذ هذا الرجل من وقتك الكثير فهلا اختصرت الحديث معه؟ فإن غيره من الجالسين ينتظرون على أحر من الجمر قلت إن الرجل لم يطلب شيئا لنفسه وإنما كان يسعى في طلبات الناس فهو لسان من لا يستطيع إيصال حاجته، أو يمنعه الحياء أو يقعد به المرض أو الحاجة فسكت والواقع أن صلتي بالمرحوم الشيخ محمد علي ملطاني امتدت إلى أن توفاه الله وعلى كثرة ما كان يسعى لقضاء حاجات الناس لم أره يوما يطلب شيئا لنفسه أو يسعى إلى منفعة وكان الرجل مضيافا له بيت مفتوح في الطائف صيفا يستقبل فيه الضيوف من معارفه الكثيرين كما كان يسافر إلى المدينة كل عام فتكون داره في المدينة المنورة مفتوحة للناس ليل نهار وكان الرجل مغرما بألعاب الورق والطاولة والبجيس وغيرها وكان بارعا فيها فكان يسهر بعض الأحيان إلى الهزيع الأخير من الليل وربما صلى الفجر ثم نام، ومع إسرافه في هذا اللهو البريء فقد كان رجلا كاملا غير هامل.
مصنع الخيام
فكان له بيت في القرارة جهة المروة يتخذ منه مكتبا وإدارة لمصنع الخيام ولعله كان أول من صنع الخيام بمكة المكرمة وكنت أزوره في هذا الكتب فأجد العمال الذين أحضرهم وجميعهم من أهل مكة المكرمة يعكفون على صنع الخيام وكان يشتري لهم القماش الجيد المتين ويصنعون الخيام الكبيرة والصغيرة ويؤجرها في زمن الحج وقد استأجرت منه بعض الخيام الكبيرة في حج أحد الأعوام وأدركنا المطر في عرفات وكان مطرا عظيما فأظلتنا الخيام دون أن تنزل منها قطرة ماء بينما كانت بعض الخيام المصنوعة في مصر أو الهند لا تظلل المحتمين بها ولو أن الشيخ محمد علي رحمه الله توسع في مشروعه هذا وحسنه واستعان فيه ببعض الآلات الحديثة لكان لنا مصنع أو مصانع كثيرة للخيام الجيدة بدلا من استيراد عشرات الألوف منها كل عام.
والشيخ ملطاني كان رجلا أنيس المجلس حاضر البديهة وقد رويت في كتاب حبات من عنقود بعض الطرائف عنه أوردها فما يلي:
واحدة من أعداء الله تكفي
كان المرحوم الشيخ محمد علي ملطاني يجمع الكثير من حميد الخصال، فلقد كان محبا للخير مشاء في خدمة الناس، وكان يحضر إلينا يوميا في مكتب الشيخ محمد سرور الصبان ومعه قائمة بطلبات الناس، هذا يريد له إركابا إلى المدينة أو الطائف، وهذا يعقب له على معاملة بوزارة المالية وذلك يحتاج إلى مساعدة أو وظيفة، وتوثقت صلتي به رحمه الله حتى أصبحت أعتمد عليه في كثير من أموري الخاصة، وكان رجلا عاملا يجمع إلى الجد في العمل أنس المحضر، ومحبة الناس وكان منزله في الطائف أو في المدينة المنورة مجمعا للأصدقاء والأحباب من جميع الطبقات.
وكان قديرا على إرضاء النزعات المختلفة بأساليب غاية في اللطف وحسن المخرج وله طرائف عجيبة أذكر منها أن إحدى بناته ولدت ولدا وأرادت هي وزوجها أن يسمياه أحد الأسماء الحديثة في ذلك الوقت كفاروق ولطفي وفؤاد وما إلى ذلك، وأراد جد الطفل لأبيه أن يسمى باسمه وكان هذا الجد هو الشيخ حامد مؤمنة، وتدخل الشيخ محمد علي رحمه الله بوصفه جد الطفل لأمه وهنا تظهر براعته في إرضاء جميع الأطراف مع تحقيق ما يريد، واجتمع الناس لحضور التسمية وكان السيد محمد السقاف رحمه الله الذي كان معروفا في أوساط مكة المكرمة يقوم بمراسم التسمية ونهض الشيخ محمد علي وقال (نعمل قرعة) وأحضر أوراقا صغيرة مكتوبا فيها الأسماء المقترحة ودعى السيد السقاف لاختيار أحدها وفض السيد الورقة فإذا الاسم المكتوب بها هو حامد اسم جد الطفل وتهلل وجه الجد وأشرق، وقال الشيخ محمد علي بلهجته المعروفة للسيد السقاف هيا سم الطفل حامد وتمت التسمية بين سرور الجميع، وحضر المرحوم الشيخ محمد علي في اليوم التالي وحدثني عن الأمر وهو يضحك قال أرادت البنت وزوجها أن يسميا طفلهما الأول بأسماء الملوك ولم يراعيا شعور جد الطفل وهو أحق بالمراعاة فقلت لهم سنعمل القرعة وكتبت الأوراق جميعها باسم الجد وهو حامد ودعوت السيد السقاف لاختيار الاسم وكان الاختيار واحدا لا مفر منه وهكذا حققت رغبة الجد دون أن أشعر الآخرين بأن هذا الاسم قد أملي عليهم، قلت ولكن ماذا لو رجعوا إلى الأوراق فوجدوها جميعا باسم واحد؟ قال لقد مزقت الأوراق كلها حالما أعلن الاسم لئلا يعود إليها أحد.
وذات يوم كنا مسافرين من مكة إلى الطائف مع معالي الشيخ محمد سرور وكان المرحوم محمد علي ملطاني معنا، ووصلنا إلى السيل وتناولنا عشاءنا بها، ويبدو أن الشيخ محمد سرور كان راغبا في المبيت تلك الليلة بالسيل ولاحظ الشيخ محمد علي ملطاني ذلك فقال أليس الأولى أن نواصل السير فنبيت في بيوتنا بالطائف؟ ونظر إليه الشيخ محمد سرور وقال له مداعبا أتنوي الزواج الليلة؟ فضحك رحمه الله وقال واحدة من أعداء الله تكفي وكان يعني بهذا ومعذرة إلى القارئات الكريمات أن زوجة واحدة تكفيه فما له وللثانية وواصلنا سفرنا إلى الطائف ومضت بضعة أيام علمت بعدها أن الشيخ الملطاني أعرس في تلك الليلة بالطائف وأن واحدة من أعداء الله كما وصفها أو من أحبائه كما يصفها غيره لا تكفي - وقلت له مداعبا لقد فعلتها - وكتمت الأمر عنا حتى ونحن رفاقك في السفر، فضحك ثم قال إنك تعلم أن لي سبعا من البنات ليس لهن أخ ولقد تزوجت الزوجة الثالثة آملا أن يرزقني الله منها أخا لهم.
ولم تمض عدة شهور حتى انتقل الشيخ محمد علي إلى رحمة الله تعالى مأسوفا عليه من محبيه الكثيرين وكانت الزوجة الجديدة حاملا وبعد وفاته وضعت بنتا أخرى، رحم الله الشيخ محمد علي ملطاني فلقد كان يمثل الرجل المكي الأصيل بما طبع عليه من خلق يجمع بين الجد والفكاهة، وكان واسطة عقد الأصدقاء يوسع لهم من نفسه وداره ويختصهم بالسعي في شؤونهم مع أنس المحضر، ولطف المدخل وعدم الإدلال بشيء مما يفعل رحمه الله.
انتهى ما نقلناه بنصه من كتاب حبات من عنقود المطبوع عام 1387 هـ.
شارع المطاني
وقبل أن نختتم الحديث عن المرحوم الشيخ محمد علي ملطاني نذكر أنه كان يملك بيتا كبيرا في مدينة الطائف أمام باب شبرا وقد قام بهدمه وأنشأ في موضعه شارعا به حوانيت كثيرة على الجانبين وبنى في واجهته منزلين يطلان على باب سبرا ولعله بنى في مؤخرته مثلها وكان يسعى رحمه الله إلى جعله شارعا لمهنة من المهن ولكن الوفاة أدركته فجأة قبل أن يتحقق له ما أراد فقد توفي بعد الانتهاء من عمارة الشارع مباشرة وقد علمت فيما بعد أنه أصبح شارعا للخياطين أو خلافهم وهو عمل جريء وجيد اختتم به الشيخ محمد علي رحمه الله حياته المعاملة الطيبة.
هذا وكانت وفاة الشيخ محمد علي ملطاني رحمه الله بالطائف في النصف الأول من الستينات عن عمر بقرب من الخمسين تغمده الله برحمته الواسعة وأسكته فسيح جناته.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 341 - 348.