محمد جميل حسن
طويل فارع، حنطي اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، يضع على عينيه نظارة طبية، وكان له زي متميز عن الزي العادي لملابس الشباب من أمثاله فلقد كان يلبس القصير من الثياب تحتها سروال أشبه بالبنطلون السابغ كما كان يرتدي الكوت الطويل ولعله سافر إلى الهند فأعجبه الزي السائد هناك ولقد لاحظت أن كثيرا من الشبان الذين سافروا إلى الهند عادوا إلى الحجاز وهم يرتدون زيا مشابها لهذا مع اختلاف في بعض التفاصيل.
ولد الأستاذ محمد جميل حسن سنة 1322 هـ بمكة المكرمة وتعلم في مدارسها وأرجح أنه تعلم في مدرسة الفلاح لأنه عمل بعدها أستاذا فيها وقد عرفت الأستاذ محمد جميل حسن مدرسا بمدرسة الفلاح بجدة في النصف الأول من الأربعينات وبالتحديد خلال الحرب الهاشمية السعودية وكان الأستاذ محمد جميل حسن نمطا فريدا من الناس له شخصية مستقلة تحدث عن نفسها فلم يكن يكثر الاختلاط بزملائه المدرسين والأساتذة ما بين الحصص وإنما كان يصطحب معه كتابا يعكف على قراءته في أوقات الفراغ فإذا دخل إلى الفصل ساد النظام وبطل الهرج ووقف الجميع تحية له فيحييهم مشيرا بالجلوس وهو نفسه الذي عودنا على هذا النظام فاتبعناه طائعين، وكانت الحصة التي يقضيها في التدريس حصة جادة إذا صح هذا التعبير فالرجل كان متمكنا من العلوم التي يدرسها فيشرحها شرحا جيدا ويفيض في هذا الشرح ويوجه الأسئلة إلى بعض الطلاب ليعرف مدى استيعابهم لما ألقى إليهم، وقد يكون كل هذا الذي ذكرت من الأمور التي يتميز بها كثير من الأساتذة ولكن الظاهرة الفريدة التي تميز بها محمد جميل حسن عن غيره من المدرسين أنه كان يلقي الدروس الوطنية على طلابه فيعرفهم بتاريخ بلادهم وأمجادها وما يجب أن يفعلوه لاسترجاع ما سلب وإعادة ما اغتصب، ولم يكن الرجل مدرس تاريخ ولكنه كان مدرس جغرافيا "علم تقويم البلدان" وكنا نتلقى هذا العلم على أيدي مدرسين قبله وبعده فكان حديثهم منحصرا في تقسيم البحار والأنهار والجبال والوديان وحدود الممالك والدول، ولكن محمد جميل حسن كان نمطا آخر غير هذا.
كانت الخرائط الجغرافية معلقة في الجدار أمام التلاميذ وكان الأستاذ محمد جميل حسن يقف أمام هذه الخرائط فيتحدث الحديث المعتاد عن تقسيم البلاد بحارها وأنهارها وسهولها وجبالها والقارات وحدودها وما إلى ذلك، ولكنه سرعان ما يدخل في الحديث التاريخي الذي يصل به إلى دروس الوطنية التي خالطت قلبه وملأت شعوره وجوارحه.
أذكار أنه كان أول من حدثنا عن فلسطين وكان هذا في النصف الأول من الأربعينات وكانت تحت الانتداب الإنجليزي ولم يكن اليهود فيها ألا أقلية ولكن أطماعهم فيها كانت معروفة فكان يضع يده على موضع فلسطين في الخريطة ويتحدث عن تاريخها وأطماع اليهود فيها ويقول هذه القطعة السليبة من بلاد العرب لابد أن تعاد إلى أهلها، هذا الجزء الغالي من أرضنا الحبيبة تتكالب عليه قوى الشر مؤيدة بالاستعمار الإنجليزي الغاشم ولا يكتفي بذلك فإذا به يحدثنا عن تاريخ فلسطين منذ الفتح العربي إلى تسلم الفاروق مفاتيح الدينة المقدسة، ثم ينحدر إلى صلاح الدين واسترجاعه لبيت المقدس ووقعة حطين وكنا نصغي مشدوهين إلى مدرس الجغرافيا الذي تحول درسه إلى درس عظيم في التاريخ، وإلى خطاب حماسي في حب الأوطان.
كانت البلاد العربية كلها باستثناء الجزيرة العربية تحت الاستعمار الغربي في ذلك الوقت فكانت مصر والعراق والأردن وفلسطين والخليج تحت الحكم الإنجليزي، وكانت سوريا ولبنان والمغرب العربي كله تحت الحكم الفرنسي، وكان محمد جميل حسن يتحدث عن هذه البلاد جميعها وعن مكافحتها للاستعمار ولكنه يطيل ويفيض إذا وصل حديته إلى فلسطين وكأنه رحمه الله كان يتنبأ أن هذه البلاد جميعها ستحظى باستقلالها وأن العقبة الكبرى ستكون هي فلسطين، ولا أريد أن أطيل فلقد كان الرجل شعلة متقدة من الحماس والنضال وكان ملما إلماما تاما بالمادة التي يدرسها وكثيرا ما ذكرنا بأمجاد المسلمين والعرب وفتوحاتهم في أوروبا ولست في حاجة إلى أن أقول إننا كنا نترقب الحصص التي يدخل فيها علينا وأننا نتحول جميعا إلى آذان صاغية وقلوب متفتحة تموج بالعواطف والأحاسيس وكان الرجل على صلة بالملك الشريف علي بن الحسين أيام حكمه وكان يرى دائما في القصر ولعله كان على صلة بالأسرة الهاشمية كلها فلقد كان واضحا في أحاديثه معرفته بالملك فيصل الأول ملك العراق، والملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن رحمهما الله، وكان يوما يلقي علينا درسه المعتاد وإذا بنا نسمع ضجيجا وأصوات طلقات نارية، فانفلت الأستاذ محمد جميل حسن من القاعة لينظر ما الخبر؟ وكان الجنود المرتزقة الذين استقدمهم الملك علي بن الحسين للدفاع عن مدينة جدة وهم من الدروز يتظاهرون مطالبين بصرف مرتباتهم التي انقطعت عدة شهور فلم يكن من محمد جميل حسن ألا أنه خرج إليهم منفردا وتحدث إلى رؤسائهم فانقطع صوت الرصاص وخفتت الضجة ومضوا مواصلين مسيرتهم في هدوء، ولقد سمعته بعدها يحدث مدير المدرسة والأساتذة الذين التفوا حوله أنه أفهم رؤساء المتظاهرين أنهم يمرون أمام مدرسة تضم المئات من التلاميذ وأنه لا حاجة لإطلاق النيران في هذا المكان بالذات فاستمعوا لنصيحته وهو موقف يدل على الشجاعة والإقدام.
وعلى ذكر الجنود المرتزقة نذكر أن هؤلاء الجنود كانوا من الدروز الذين يسكنون في أراضي سوريا ولبنان وفلسطين، وكان الملك الحسين بن علي حينما غادر جدة بعد خلعه وتولية ابنه الملك علي ذهب إلى العقبة وكان ابنه الملك عبد الله بن الحسين يرسل إليه هؤلاء الجنود المرتزقة لترحيلهم إلى الحجاز وكان قائد هؤلاء الجنود ضابطا سوريا اسمه تحسين الفقير وكان الدفاع عن مدينة جدة مقسما على ثلاث فئات الدروز واليمنيين والمتطوعين من أبناء البلاد وكان يحيط بمدينة جدة سور من الأسلاك وكانت كل فئة تتمركز في ناحية من النواحي وقد باع الملك علي شارع قابل كما أسلفنا في حلقة سابقة لمواجهة مصاريف الحرب بأبخس الأثمان، وحينما تظاهر الدروز في المرة التي أشرنا إليها اعتصموا بمسجد عكاش في قلب مدينة جدة ذهب إليهم كبير جدة المرحوم الشيخ محمد الطويل وتعهد لهم بتسديد استحقاقاتهم وباع المنزل الوحيد الذي كان يملكه لسكنه الخاص وأوفى لهم بجميع حقوقهم وأعادهم إلى بلادهم، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الأستاذ محمد جميل حسن فنذكر طرفة عنه سبق أن ذكرتها في كتابي حبات من عنقود والطرفة بعنوان"رجل في التراب ورأس في السحاب".
كان الأستاذ محمد جميل حسن رحمه الله أستاذا لنا بمدرسة الفلاح - بجدة وكان يعلمنا الجغرافيا والإنشاء والحساب، وكان مربيا قديرا وأستاذا مثاليا وقدوة تحتذى، وكان يختصني بكثير من الرعاية والتشجيع وكان درس الجغرافيا أو علم تقويم البلدان كما يسمونه الآن من أحب الدروس إلينا على عهد الأستاذ جميل حسن فلقد كان درسا في الوطنية والاقتصاد قبل أن يكون درسا في أسماء المدن والمالك والبحار والغابات، وإنني لأذكر كيف يفيض ويتدفق حينما كان يقف أمام خريطة البلاد العربية فيتحدث عن كل قطر منها وما تضمه أرضه من خيرات، وكيف كان يهاجم الاستعمار الذي كان ما زال رابضا على أرض أجزاء كثيرة من البلاد العربية، وكان يتجلى حنقه وسخطه حينما كان يصل إلى فلسطين فينقلب إلى خطيب مصقع وهو يومئ بعصاه الصغيرة إلى موقعها من الخريطة ويقول هذه القطعة المغتصبة من أرض الوطن العربي، هذا الجزء العزيز على نفوس الأمة العربية جمعاء لن نقبل بتسليمه لليهود، ويفيض في مثل هذه المواقف بحماس يملأ التلاميذ شعورا متدفقا من الغيرة والحمية وأعطانا الأستاذ يوما في درس الإنشاء بيتا من الشعر وطلب منا أن نشرح مقصد الشاعر منه وهذا البيت.
وكن رجلا رجله الثرى … وهامة همته في الثريا
ولم يفتح الله علينا بشيء، فهمنا أن المقصود أن يكون الرجل رجله في الثرى، ولكن ما هي هامة الهمة هذه المطلوب أن تكون الثريا؟ وحضرنا في اليوم التالي وجاء زميلنا الأستاذ عبد الكريم بكر وهو الآن من كبار موظفي الشركة التجارية العربية بجدة - وقال: لقد عرفت حل البيت قلنا هات قال: إن مقصد الشاعر أن يكون الإنسان رجله في التراب، ورأسه تدق السحاب ثم قال: إن الهامة هي الرأس والثريا هي نجم مشهور في السماء فهل تريدون أن تخلقوا معاني من غير كلمات الشاعر، وفهمنا ضمنا أنه استعان بأحد العارفين في الشعر فتوصل إلى هذه المعاني، وكتبنا جميعا ما قال الزميل عبد الكريم، أن مقصد الشاعر أن يكون الإنسان له رجل مغروسة في التراب، ورأس ملتصق بالسحاب، وقدمنا الكراسات للأستاذ وكلها مكتوبة في سطر واحد وصيغة واحدة دون تنويع أو تغيير، واعتقد الأستاذ جميل أننا نسخر منه وكان صارما بقدر ما كان مخلصا ونظر إلى كراستي واستدعاني من دون التلاميذ وقال، حتى أنت فعلتها معهم؟ وصمت حياء وخجلا وعاقب التلاميذ جميعا دون استثناء وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أتعرض فيها لعقابه فكان شعوري بالخزي من العقاب أكبر من شعوري بالعقاب نفسه.
وفي مساء هذا اليوم بالذات كنا نسير خارج البلدة وكان الأستاذ جميل حسن يقوم بنزهته المسائية وحيدا كعادته واقترب مني أحد الناس وسألني هل تعرف الأستاذ جميل حسن المدرس بمدرستكم؟ قلت نعم قال: أين يسكن؟ قلت لا أدري ولكنه أمامك وأشرت إليه فذهب إليه وتحدث معه قليلا، وعدت إلى منزلي وعدنا في اليوم التالي إلى المدرسة ولكن الأستاذ جميل لم يحضر في ذلك اليوم ولا فيما تلاه من أيام وقيل لنا أخيرا إنه سافر إلى مكة وانقضت شهور طويلة علمت بعدها أن الله تعالى اختاره إلى جواره فتأثرنا جميعا لوفاته رحم الله الأستاذ محمد جميل حسن فلقد كان أستاذا عظيما ومربيا قديرا وكان أول من علمنا الوطنية، انتهى ما نقلناه بنصه من كتابنا حبات من عنقود.
وقبل أن نختتم الحديث عن الأستاذ محمد جميل حسن نقول إنه كان من أوائل الأدباء الذين شاركوا في كتاب أدب الحجاز الذي أصدره المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان في عام 1344 هـ وله في قسم المنثور مقالان يفيضان حماسة ووطنية وقد علمت أنه بعد عودته إلى مكة المكرمة أصيب بمرض عضال وكان يقضي أيامه في المطالعة ولم يتزوج وتوفي في أواخر الأربعينات في حوالي الثلاثين من العمر تغمده الله برحمته الواسعة وأجزل ثوابه في عليين.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 333 - 339.