محمد الطويل
قصير القامة، معتدل الجسم، أشقر الوجه واللحية، أزرق العينين، أقنى الأنف، أصلع الرأس، أنيق اللبس، كان يرتدي الجبة والعمامة الحجازية، ثم تحول عنها إلى العباءة والعقال، ذو سمت وهيبة، وقد استحوذ بكرمه وهمته على قلوب الناس فكان زعيما محبوبا، كما نال ثقة الحكام فكان رجل الدولة في العهد الهاشمي، وأحد كبار الرجال الذين تسند إليهم المهام في عهد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز.
لم أستطع الحصول على تحديد دقيق لولادة المرحوم الشيخ محمد الطويل وكل ما نستطيع أن نذكره أنه ولد في أوائل القرن الرابع عشر الهجري وكان في مطلع شبابه موظفا بدائرة الجمارك في جدة في العهد العثماني، وحينما قام الغفور له الملك حسين بن علي بالثورة على الحكومة العثمانية عام 1334 هـ كان الشيخ محمد الطويل من أبرز الرجال الذين نالوا ثقته فكان ناظرا لعموم الرسوم في جدة، وقد أطلق عليه لقب الناظر - نسبة إلى هذا المنصب الرفيع إذ ذاك، وكانت موارد الدولة الهاشمية في ذلك الوقت تعتمد على الرسوم الجمركية وكان جمرك جدة الذي يتولى رئاسته الشيخ محمد الطويل هو أهم موارد الدولة لأن جدة كانت ولا تزال أكبر موانئ الحجاز، وكان مقر الحكومة في مكة، ولكن الموارد كلها تأتي من جدة سواء من الرسوم الجمركية التي تمثل القسم الأعظم من هذه الموارد، أو من الضرائب التي كانت تجبى على وسائل النقل التي تتمثل في الجمال سواء ما كان منها خاصا بنقل البضائع أو الحجاج، وكان الشيخ محمد الطويل أشبه ما يكون بوزير كبير في عهد الدولة الهاشمية فإلى جانب رئاسته للواردات المالية الضخمة، كان يتولى تموين الحكومة بما تحتاجه من أرزاق ومستلزمات وكان الشيخ محمد الطويل بحكم منصبه الكبير وجاهه العظيم مقصودا من الناس، وكان الرجل كريما عالي الهمة شهما ذا نجدة ومروءة فكان بيته مفتوحا للناس ويده مبسوطة لهم ورفده موصولا لكل طالب، فأحبه الناس وتعلقوا به، والتفوا حوله، ولم يكن يبذل للناس من ماله فحسب وإنما كان يبذل لهم من جاهه كذلك، حدثني من أثق بروايته أن الشيخ محمد الطويل كان يتوجه إلى مكة لمقابلة الشريف حسين بن علي بين وقت وآخر حسب متطلبات منصبه، وكان أهل مكة يترقبون مقدمه حيت ينزل في بيت باناجه - في باب علي - هذا البيت هدم وأدخل مع غيره في التوسعة الجديدة للمسجد الحرام فإذا قدم وفدوا عليه بحاجاتهم وكان أكثر هذه الحاجات طلب وساطته لدى الشريف للعفو عن الغرامات وإطلاق المساجين وكان الشريف الحسين رحمه الله مشهورا بصرامته وشدته في هذه الأحكام، وفي إحدى زياراته لمكة تجمع لديه حصيلة من هذه الوساطات فجمع أوراقها وكتب معها رقعة موجهة للشريف قال فيها ما معناه - إن ما حباني به جلالتكم من عطفه وما شرفني به من خدمته جعلني مقصدا للناس ومحل حسن ظنهم وإني أقدم لجلالتكم ما قدم به على الناس من مطالب فإن رأيتم أن تكرموني بالعفو عنهم فليس هو بكثير على جلالتكم قال الراوي وقد استجاب الشريف لهذا الطلب فأطلق المسجونين وعفى عن الغارمين وفي عام1342هـ هاجر الكثيرون من أهل مكة إلى جدة بعد أن دخل الجيش السعودي مدينة الطائف، ولم تكن هذه الهجرة منظمة فكان الناس يفدون بعائلاتهم وينزلون في بيوت من يعرفون من أهالي جدة ولكن البعض لم يكونوا يعرفون أحدا، كما أن منهم من كانت تنقصه وسائل النقل فكان البعض منهم يفد ماشيا أو يستعمل وسائل غير مريحة وما أن علم الشيخ محمد الطويل بذلك حتى استنفر الرجال لاستقبال القادمين من مكة في ضاحية الرغامة وزود المكان بالماء والدواب والأغطية ثم تولى اسكان القادمين وإنزالهم في بيوت الأهالي الذين كانوا يتسارعون إلى تلبية نداء النجدة والمروءة.
وقبيل نهاية الحرب السعودية الهاشمية هاجر الشيخ محمد الطويل بعائلته إلى مدينة اسمرا وقد أوشكت الحرب على النهاية وبدا أن البلاد كلها ستدين بولائها لجلالة المغفور له الملك عبد العزيز وكان الطويل بوصفه من أكبر رجالات العهد السابق يخشى أن يكون لهذا الأمر تأثير عليه في العهد الجديد فبقي خارج البلاد حتى أذن المغفور له الملك عبد العزيز بالعودة إلى وطنه فعاد إلى مدينة جدة مكرما آمنا على نفسه وماله وكانت عودته مقترنة بدخول السيارات إلى الحجاز فقد كان الشريف حسين يحرم دخولها واستعمالها ويصر على استعمال الجمل كوسيلة للنقل سواء للحجاج أو البضائع واجتمع لفيف من تجار جدة وكلهم من أصدقاء المرحوم الشيخ محمد الطويل وألفوا شركة للسيارات سميت (شركة القناعة للسيارات) وعينوا الشيخ محمد الطويل رئيسا لها وخصص له مرتب شهري مقداره ستون جنيها ذهبا في الشهر، وكان هذا المرتب كبيرا جدا في ذلك الحين، وكان معروفا أن الغرض من ذلك هو تكريم الشيخ محمد الطويل وتأمين كفايته من المال حتى لا تتغير عليه الأمور والأحوال، ثم استقدمه جلالة الملك عبد العزيز إلى الرياض وأبقاه فترة ثم ما لبث أن أذن له بالعودة إلى جدة مع موكب جلالته واستقبله الناس استقبالا عظيما وعاد مرة أخرى إلى عمله في رئاسة شركة القناعة للسيارات، وفي شركة القناعة للسيارات اتصلت أسبابي بأسباب المرحوم الشيخ محمد الطويل فقد كنت كاتبا بإدارة حسابات الشركة وكان هو رئيسها وقد أتاح لي ذلك الاطلاع على جانب من كرم الرجل إذ كانت ترد إلى الرقع بخطه الجميل يمنح بها أصحاب الحاجات من مرتبه حتى أنه أصبح بعد فترة من الزمن مدينا للشركة بمبلغ كبير من المال.
ولم تطل الأيام بالشيخ محمد الطويل في شركة القناعة للسيارات فقد اختاره جلالة الملك عبد العزيز لإدارة جمارك وماليات الإحساء والمنطقة الشرقية، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله ذا فراسة في الرجال وهكذا قام الشيخ محمد الطويل بتأسيس الجمارك ووضع الأسس لتنظيم الأموال وكان يفد كل عام إلى جدة لزيارة أهله فيفد الناس للسلام عليه وتمتلئ داره بالمهنئين والزائرين طيلة بقائه حتى يعود، ومضت سنوات ثم اختاره جلالة الملك عبد العزيز ليكون مستشارا له ضمن مجلس المستشارين الذي كان يسمى مجلس الربع ولكن الشيخ محمد الطويل ما لبث أن استأذن من جلالة الملك عبد العزيز طالبا السماح له بتأسيس شركة نجد للسيارات وحصل على امتياز للشركة بالنقل بين الحجاز ونجد وقام فعلا بتأسيس الشركة المذكورة ولكنها ولدت ضعيفة فلم يكتب لها البقاء إذ كان مساهموها من أصحاب السيارات الذين لم ينضموا إلى الشركة العربية للسيارات حين توحيدها ولم تتوفر لها الإمكانيات المالية والادارية التي تضمن حسن سيرها فتمت تصفيتها، وعاد الشيخ محمد الطويل إلى جدة وقد خلا من كل عمل حكومي أو أهلي، ولكنه أشغل نفسه بخدمة الناس، فقد فتح بيته لاستقبال أصحاب الحاجات وخاصة من الأرامل الضعيفات فكان بيته يؤوي الكثيرات منهن، وكان يستقل سيارته كل صباح إلى مختلف الدوائر الحكومية ليقضي حوائج الناس، فكان هو لسان من لا يستطيعون إيصال أصواتهم إلى رؤساء الدوائر من عائلة فقدت عائلها وتعثرت أوراق المتوفى بين أدراج الموظفين أو بين براثن الروتين وكثيرا ما سعى إلى إطلاق السجين وإغاثة الملهوف، أما الأرامل الضعيفات فقد نصب من نفسه مدافعا عنهن وكثيرا ما تحول بيته إلى محكمة صغيرة يستعين فيها بمن يختار من الناس فيحل الكثير من المشكلات العائلية المستعصية بإصلاح ذات البين أو الفراق بإحسان، وكان يستخدم ماله الخاص في هذا السبيل، حتى أصبحت هذه الشؤون مشغلة له طيلة النهار وصدرا من الليل، وحتى أصبح من المعتاد أن يرى ضحى كل يوم وهو يؤم الدوائر الحكومية فينجز أمور الناس ويقضي حوائجهم حيث كان يقابل دائما بالترحيب والإكبار.
ونشب المرض العضال في دم الرجل الكبير فتوجه للاستشفاء بمدينة فينا بالنمسا وصاحبه إلى هناك بعض محبيه وأدركته المنية غريبا عن وطنه فقد صرعه الداء ونعته الصحافة فتدفق الناس على منزله يعزون ابنه الأستاذ يوسف الطويل وبنتيه السيدتين نور وانجي الطويل وطال انتظار الناس لوصول الجثمان فكانوا يترددون يوميا للاستفسار عن موعد وصوله مما اضطر ابنه الأستاذ يوسف الطويل إلى نشر ما يرده من أنباء في الصحف يوميا وأخيرا وصل الجثمان وكان أهل جدة جميعا يشتركون في تشييع الرجل العظيم مما جعلهم يصلون عليه في الخلاء أمام الثكنة العسكرية في جدة قريبا من مقبرة حواء التي استقر بها جثمانه بعد طول سعي في الخير، وبعد عمل دائب في خدمة الناس وكانت وفاته في ليلة الخميس 27 ربيع أول سنة 1381 هـ بالنمسا ودفن بمدينة جدة بتاريخ 4 ربيع ثاني ستة 1381 هـ تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن ثوابه في جنات الخلود
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 314 - 319.