محمد علي زينل رضا
معتدل الجسم وسط في الرجال لا بالطويل ولا بالقصير، مستدير الوجه أبيض اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، يضع على عينيه نظارة ذهبية ويرتدي الجبة والعمامة الحجازية وقد احتفظ بلباسه هذا حتى في زياراته الكثيرة إلى أوربا بعد أن افتتح مكاتب بها لأعماله التجارية الواسعة، قوي الشخصية وهبه الله مهابة وأسبغ عليه محبة فإذا رأيته هبته وأحببته في وقت واحد ولا عجب في ذلك فقد هيأه الله تعالى بتوفيقه للزعامة بما وهبه من صفات البذل في سبيل العلم من مال كثير وجهد عظيم استمر معه منذ نشأ إلى أن توفاه الله تعالى وقد أشرف على التسعين من عمر طويل قضاه في خدمة العلم والدين.
ولد الحاج محمد علي زينل رضا بمدينة جدة في أول القرن الهجري سنة 1300 هـ في ظل والده الحاج زينل علي رضا وكان هو وأخوه الحاج عبد الله علي رضا من أكبر تجار مدينة جدة وأبرزهم وتعلم القراءة والكتابة في دار والده على أيدي بعض علماء عصره كما بدأ دراسته اللغة الإنجليزية والفارسية كذلك على أيدي من يعرفونها ممن يعملون في بيت والده التجاري وكان مجاله الطبيعي بعد هذا العلم المحدود أن يعمل في تجارة أبيه وعمه موظفا يتدرج في الأعمال ويتمرن عليها حتى يستطيع أن يمسك زمام الأمور حين يشتد ساعده ولكن محمد علي زينل كان شغوفا بالعلم منذ الصغر وخاصة بعلوم الدين ولم يجد في مدينة جدة ما يشبع نهمته ويسد جوعته فاستأذن من أبيه في السفر إلى مصر والالتحاق بالجامع الأزهر وهو أكبر مصدر لتلقي علوم الدين في عصره، ولكن والده الذي كان يرغب في تهيئة ابنه للعمل التجاري له يوافق على هذه الرغبة، كما أنه كان راغبا في بقاء ابنه محمد علي بجانبه وهو أكبر أبنائه ولكن حب محمد علي زينل للعلم والدراسة استحوذ على فكره وأخذ بمجامع قلبه فما هو إلا أن حزم أمره وترك مدينة جدة دون علم والده، وذهب إلى مصر وبدأ الدراسة فعلا بالجامع الازهر، ولكن الحاج زينل الذي لم يطق فراق ابنه تبعه إلى مصر وأعاده إلى بلده، ورأى محمد علي نفسه مرة أخرى في مدينة جدة وقد حيل بينه وبين ما يرغب من تعليم، رأى نفسه كما حدثني رحمه الله في جدة وهو شاب في العشرين أو دونها وكان يصف حال العلم والتعليم في أوائل القرن الرابع عشر قال عن:
نشوء فكرة مدارس الفلاح
كان يقوم الجمَّال من مكة المكرمة بأحماله ومعه ورقه بها اسم الرجل الذي له البضاعة فيدخل من باب مكة إلى أن يصل إلى الخاسكية - قلب شارع الملك عبد العزيز الآن - فلا يجد من يحسن قراءة الورقة التي بيده إلى أن ييسر الله من يقرأها بعد الجهد والتعب فيستدل على صاحب الأحمال وينزلها لديه قال وكانت في مدينة جدة كلها مدرسة واحدة هي - المدرسة الرشدية - كان موقعها أمام مسجد الباشا وقد هدمت بعد خرابها وتقرر إبقاء الأرض دون بناء توسعة للشارع - وكانت هذه المدرسة تعلم اللغة العربية بالتركية - كان هذا في أواخر العهد العثماني - وحين انتشار حركة التتريك التي كانت تمارسها جمعية الاتحاد والترقي التركية - قال الحاج محمد علي وهالني الأمر ووجدت أنه لا بد من عمل شيء لتغيير الحال وتعليم الأولاد القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة على الأقل ولم يكن مسموحا بافتتاح المدارس أو الكتاتيب في ذلك العهد، ولكن هذه العقبات جميعها لم تكن لتحول بين الرجل العظيم وما يريد قال فاستأجرنا مقعدا في بيت ذاكر بحارة الشام - المقعد هو المجلس الذي كان يوجد في مدخل كل بيت لاستقبال الرجال وجلوس صاحب المنزل به في ذلك الحين - واتفقنا مع أحد الفقهاء على تدريس الأولاد مبادئ القرآن الكريم والكتابة وتعليمهم صغار السور بين المغرب والعشاء قال الحاج محمد علي وقد اخترنا هذا الوقت لنختفي عن عيون الدولة حيت لم يكن مصرحا لنا بهذا العمل ولأول مرة وجدنا أن هناك مخاطر في خروج الأولاد للدراسة وعودتهم تحت جنح الظلام فاتفقت وأصدقائي عبد الرؤوف جمجوم ومحمد صالح جمجوم، ويحيى سليم ومحمد صالح نوار أن يذهب كل منا إلى منازل الأولاد (بعد الاتفاق مع آبائهم) لنأخذهم إلى هذه المدرسة الصغيرة ثم نعيدهم إلى منازلهم بعد انتهاء الدروس، وهكذا كان فكان هؤلاء الشبان وجميعهم في مطلع الشباب يذهبون إلى بيوت الأولاد لإيصالهم إلى المدرسة ثم يعودون بهم بعد العشاء ليوصلوهم إلى أهليهم بأمان.
تخذوا الظلام إلى الضياء وسيلة … والفجر يولد في الدجى فيشيب
قال وكنا قد تقدمنا إلى الحاكم التركي بطلب التصريح لنا بافتتاح مكتب لتعليم القرآن الكريم وقد حصلنا أخيرا على هذا التصريح فأصبحت المدرسة تمارس نشاطها في وضح النهار وأخذنا نشجع الكثيرين على إرسال أولادهم إليها، وكان ما يأخذه الحاج محمد علي زينل من مرتب شهري لقاء عمله في مكتب أبيه التجاري عشر روبيات يذهب جميعه في نفقات هذه المدرسة الصغيرة وبدأ يفكر في إيجاد موارد أكبر لتغطية نفقات المدرسة ومواجهة ما يحلم به من تكبيرها وتوسيع أغراضها ومن أهم ذلك إيجاد مبنى أكبر وأوسع، وفي ذلك الوقت عرض مبنى مدرسة الفلاح الحالي بباب مكة للبيع وكان هذا المبنى بموقعه وبنائه الحديث وكثرة غرفه هو أصلح مكان للمدرسة التي يحلم بها هذا الشاب العظيم.
تبرع زوجته بحليها وجواهرها
وأخذ الرجل يفكر في الطريقة التي يستطيع بها توفير المال اللازم وهو لا يملك منه شيئا وأخذت الفكرة بمجامع قلبه حتى أرقت جفنه وأقضت مضجعه ورأت زوجه - السيدة خديجة بنت عمه الحاج عبد الله علي رضا - ما هو عليه من تفكير فسألته عما يشغله فأسر إليها بالأمر ولم يكن من هذه السيدة العظيمة الكريمة إلا أن قدمت كل ما تملك من مجوهرات وحلي لزوجها ليبيعه ويشترى به البناء المطلوب، وهكذا كانت هذه المكرمة العظيمة من تلك السيدة العظيمة سببا في شراء المبنى الكبير لمدرسة الفلاح في شهر شوال 1323 هـ.
هبة تطوق كل أنثى عزة … ان كاثرتنا بالهبات وهوب
ولعله من المناسب هنا أن نذكر للتاريخ أن الجامعة المصرية - جامعة فؤاد الأول - أو جامعة القاهرة أخيرا حين تأسيسها كانت تفتقر إلى المال فتقدمت إحدى الأميرات المصريات إلى الجامعة بمصوغاتها ومجوهراتها فوهبتها للجامعة وقد أشادت الصحف المصرية إذا ذاك بهذا الحدث، نقول إن هبة السيدة خديجة بنت الحاج عبد الله علي رضا لشراء مدرسة الفلاح كانت قبل ذلك، وكان سبقها بهذه الهبة من الأعمال الجليلة التي تدل على سمو نفس صاحبتها جزاها الله خير الجزاء.
وبعد شراء مبنى المدرسة بدا لمحمد علي جليا أن من الضروري العمل على إيجاد موارد مالية كافية للمدرسة، فالمدرسة كل مدرسة كما هو معلوم كالمزرعة تبدأ فصلا واحدا ثم تنتهي إلى فصول عديدة بحسب تدرج قدرة الطلاب على الاستيعاب وهكذا قرر محمد علي الهجرة إلى الهند طلبا لمجال أوسع من الرزق والعمل وسافر إلى الهند تاركا المدرسة في رعاية أصدقائه وزملائه وفى مقدمتهم الشابان عبد الرؤوف ومحمد صالح جمجوم وقد حدثنا الحاج محمد علي شخصيا عن هذه الفترة، فترة البداية في مهجره بالهند قال كنت محتاجا إلى المال الذي أبدأ به العمل وكان صديقي يحيى سليم يعرف ذلك فحسن لوالده أن يرسل معي مبلغا من المال لأرسل لهم به بعض البضائع بعد وصولي إلى الهند قال محمد علي وقد انتظر الشيخ سليم وقتا طويلا حتى وصلت إليه البضائع المطلوبة وكان ابنه يحيى سليم مطلعا على كل شيء.
ملك اللؤلؤ في العالم
وفى الهند اشتغل محمد علي زينل بتجارة اللؤلؤ حيث كان يشترى اللآلئ في مواسم الغوص من الموانئ الخاصة بذلك وهي البحرين والكويت ودبي في الخليج ثم يصنف هذه اللآلئ حسب أحجامها بعد ثقبها وصقلها في عقود وأساور وحلقان ويبيعها حسب أصنافها وأحجامها في العواصم الأوربية العالمية فكان له مكتب في لندن وآخر في باريس بالإضافة إلى مكاتبه في بومباي بالهند وفي موانئ الخليج حتى أصبح من أشهر العاملين في هذا العمل وأطلق عليه ملك اللؤلؤ في العالم، وكان العهد العثماني قد انتهى في الحجاز وبدأ العهد الهاشمي وتمكن محمد علي بما أفاء الله عليه من خير من التوسع في التعليم بمدارس الفلاح فأسس مدرسة الفلاح بمكة المكرمة سنة 1330 هـ بعد مدرسة الفلاح في جده كما أسس مدرسة الفلاح في بومباي سنة 1350 هـ ومدرسة الفلاح في عدن ومدرسة الفلاح في دبي سنة 1347 هـ ومدرسة الفلاح في البحرين وكان يزمع تأسيس مدرسة الفلاح في المدينة المنورة كذلك إلا أن ذلك لم يتم وقد حدثني الشيخ محمد صالح جمجوم وكيل مدارس الفلاح في جدة ومكة أن مقدار ما كان ينفقه الحاج محمد علي زينل على المدرستين في مكة وجدة سنويا وصل إلى ثلاثة عشر ألف جنيه من الذهب، واستمر في هذا الإنفاق ما يقرب من ثلاثين عاما وحينما بدأ العهد السعودي في جدة كانت مدارس الفلاح تقريبا هي المدارس الوحيدة في مكة وجدة التي اشتهرت بحسن إدارتها وجودة برامجها التعليمية وكان متخرجوها هم الأساس الذي قام عليه بناء الإدارة الحكومية فكانوا يشكلون القسم الأكبر من موظفي الدولة كما كانوا يمسكون بالأعمال الكتابية في البيوت التجارية في المدينتين كما اشتغل الكثيرون منهم بالتدريس في مدارس الفلاح نفسها وفي المدارس الحكومية الأخرى في بداية العهد السعودي.
البعْثات التعليميّة
ولم يكتف الحاج محمد علي زينل بما تقوم به مدارس الفلاح في كل من مكة وجدة على علو برامج الدراسة فيهما في ذلك الزمان باختيار أجود المدرسين واستقدامهم من مصر وسوريا بالإضافة إلى أفضل المدرسين الوطنيين فقد كان يفكر في إخراج جيل من الرجال المتعمقين في دراسة الإِسلام ليقوموا بأداء رسالة الإسلام الحقيقية في بلادهم ومن ثم عمد إلى اختيار أفضل المتخرجين من طلاب الفلاح وابتعثهم إلى الهند ليكونوا تحت إشرافه الخاص بعد أن أعدَّ لهم برنامجا علميا حافلا واستقدم لهم أعظم المدرسين من البلاد الإسلامية وكان يهدف بذلك إلى إعداد جيل من الدعاة الإسلاميين الواعين لرسالة الإسلام وكان يغري الطلاب بالاستمرار في الدراسة أو الابتعاث إلى الهند بترتيب مرتبات شهرية مغرية لهم وخاصة لمن يكون أهلوهم من ذوي الدخل المحدود وهكذا كانت هذه المرتبات الشهرية للطلبة ولآبائهم في السنوات الثلاث الأخيرة من الدراسة في الفلاح وهي السنوات العلمية كما أطلق عليها إذ ذاك وهي بعد الست سنوات العادية حافزا كبيرا للآباء لإِبقاء أبنائهم مستمرين في دراستهم كما كانت حافزا للموافقة على إرسال أبنائهم للاستزادة من العلم في بومباي في المدرسة التي أعدها الحاج محمد علي هناك لهذه الغاية.
الدراسة مجانية
ولست في حاجة لأن أقول إن الدراسة في مدارس الفلاح كانت مجانية لأبناء الفقراء والأغنياء على سواء ولم يكن يتكلف ولي أمر الطالب سوى شراء الكتب المدرسية في أول كل عام وكانت هذه الكتب تباع بأسعار زهيدة يسهل توفر ثمنها لكل إنسان.
انهيار تجارة اللؤلؤ
وبينما كان الحاج محمد علي زينل يواصل جهوده العظيمة في حقل التعليم كما أسلفنا وينفق المال الكثير في هذا السبيل تعرضت أعمال هذا الرجل العظيم للانهيار بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني في الخمسينات من هذا القرن الهجري وكان هذا الحدث بعد أن اشترى الحاج محمد علي أكبر كميات من اللؤلؤ في مواسم الغوص من موانئ الخليج وهكذا وجد محمد على زينل نفسه بين يوم وليلة يملك من اللآلئ الكثير الذي أنفق فيه الملايين ولكن هذه اللآلئ لا تشترى، فقد اتجه الناس إلى شراء اللؤلؤ الياباني الزائف الرخيص والذي لا فارق بينه وبين اللآلئ الأصلية من ناحية النظر في شيء وتعرض الرجل لمصائب مالية تنوء بها العصبة أولو القوة ولو لم يكن الرجل على إيمان قوي بالله وعلى سمعة عالية لدى البنوك لكانت هذه المصاعب كافية للقضاء عليه ولكنه ثبت ثبات المؤمنين، وقال وقد سلمت كل ما لديَّ من لآلئ ومجوهرات إلى البنوك تأمينا لهم لقاء ما استدنته من أموال وكانوا يقدرون الموقف فصبروا حتى يجعل الله من بعد عسر يسرا.
توقف الصرف على مدارس الفلاح
وفي هذه الظروف البالغة السوء أنى يستطيع الحاج محمد على زينل أن ينفق ما كان ينفقه على الفلاح، بل أنى له أن ينفق أي شيء وقد بلغ به الأمر ما بلغ فاضطر الرجل العظيم آسفا أن يعلن ذلك للقائمين على شؤون الفلاح وكان لهذا الأمر أبلغ الأثر في نفوس الناس عامة.
الأمة تتولى الصرف على الفلاح
فقامت الأمة مجتمعة بما كان يقوم به فرد واحد هو الحاج محمد علي زينل رضا، وقد أجمع تجار مدينة جدة أن يتقدموا للدولة بفرض رسم مقداره قرش واحد على كل طرد يصل إلى ميناء جدة ويستوفي هذا القرش لصالح مدارس الفلاح، وكان الشيخ حمد السليمان الحمدان وكيل وزارة المالية مدعوا على العشاء بمنزل الشيخ عثمان باعثمان أحد أعيان جدة ومدير العين العزيزية فيما بعد - فتقدموا إليه مجتمعين بهذا الطلب الذي وافق عليه في الحال وأصبحت حصيلة هذا الرسم تستوفى في جميع جمارك المملكة وتؤدى لمدارس الفلاح ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا القرش يضيفه التجار على تكلفة بضائعهم وهم يستردونه بطبيعة الحال ضمن هذه التكلفة حين البيع فهو ليس منحة من فئة معينة وإنما هو مشاركة عامة من الأمة كلها في الإنفاق على مدارس الفلاح.
الدولة تتولى تغطية مصاريف الفلاح
ولقد قامت الدولة فيما بعد مشكورة بتغطية مصاريف مدارس الفلاح في كل من مكة وجدة وأصبح هذا القرش الذي كان يستوفى باسم الفلاح عائدا لمصلحة التعليم كله باسم (قرش المدارس) لأن هذا القرش لم يعد يكفي لسد متطلبات الإنفاق على الفلاح بعد تطور التعليم فيها وتوسعه ليشمل المراحل الثلاث مثل مدارس وزارة المعارف وهكذا شملت الدولة أخيرا مدارس الفلاح برعايتها فأصبحت تعامل معاملة المدارس الحكومية سواء بسواء.
محمد علي زينل لا يقبل التبرع للفلاح
ولعله من الخير ونحن نستعرض حياة الحاج محمد على زينل وتاريخ الفلاح أن نذكر هنا أنه كان لا يقبل تبرعا من أي إنسان، فحينما كان قادرا على الإنفاق أنشأ مدارس الفلاح وأنفق عليها من حر ماله واستمر في هذا الإنفاق حتى عجز عنه تماما فتركه للأمة كلها تتولى الأمر نيابة عنه وهكذا كان ولقد حدث أن قدم الحاج محمد علي زينل إلى الحجاز في إحدى زياراته المعتادة التي كانت تتم كل بضعة أعوام مرة، أقول قدم إلى الحجاز في الستينات وكانت مدارس الفلاح معروضة للبيع في مكة المكرمة وكانت مدارس الفلاح تشغل مبنيين في القشاشية بمكة المكرمة قرب باب علي - من أبواب المسجد الحرام - وكانت هذه المباني مملوكة لأولاد الشريف علي باشا أمير مكة الأسبق، وكان معلوما يومها أن ثمن هذين المبنيين هو مائة ألف ريال وإني أنقل هنا من كتابي حبات من عنقود ما سبق أن كتبته عن هذا الأمر قبل سنوات:
سأبني رجالا
كنت عضوا في مجلس إدارة الشركة العربية للتوفير والاقتصاد بمكة المكرمة، وكان رئيس المجلس الصديق المرحوم الشيخ عبد الله باحمدين، وذات ليلة حضر إلينا الشيخ عبد الله في المجلس وقال هو بادي التأثر، لقد علمت اليوم أن البناية التي تشغلها مدرسة الفلاح بالقشاشية معروضة للبيع وأن ثمنها يبلغ مائة ألف ريال، وإنني لا أتصور ماذا يكون حال التلاميذ وحال المدرسة بعد أن تباع بنايتها؟ ثم استطرد قائلا ألا يوجد مائة شخص من خريجي مدارس الفلاح في مكة وجدة يستطيع كل منهم أن يدفع ألف ريال فيجمعون قيمة المدرسة ويقدمونها هدية للحاج محمد علي زينل رئيس مدارس الفلاح الموجود حاليا بين ظهرانينا، قلنا إن ذلك واجب لا مناص منه وأن خير هدية تقدم للحاج محمد علي وقد اعتذر عن قبول حفلات التكريم هي قيمة بناية هذه المدرسة التي غذاها بعقله وماله وجهده طوال ثلاثين عاما أو تزيد ثم قلت للمجتمعين، إن لدينا إلى جانب جمع التبرعات لشراء المدرسة وسائل أخرى بعضها في يدنا هنا في مجلس إدارة الشركة، فإن لدينا بندًا للأعمال الخيرية مخصصا له بموجب نظام الشركة خمسة في المائة من صافي أرباح الشركة سنويا، وفي يدنا أن نصدر قرارا في الحال باعتماد المخصص جميعه لمدارس الفلاح، كما أننا نستطيع أن نفعل مثل ذلك في الشركة العربية للسيارات وفي شركة الطبع والنشر، وكل منكم له صلة بهاتين الشركتين من قريب أو بعيد، وإذا رغبتم فإنني سأشرح للشيخ محمد سرور وهو رئيس الشركات العربية جميعها الموقف كله وآخذ موافقته عليه، ونكون بهذا قد جمعنا قسما هاما من المبلغ المطلوب من أيسر طريق ثم نلجأ بعدها إلى جمع التبرعات، استحسن المجتمعون جميعا الفكرة ورحبوا بها وكلفوني أن أتحدث إلى الشيخ محمد سرور نيابة عنهم فيها، وأعددت تقريرا مفصلا أوضحت فيه المبالغ التي يمكن جمعها من الشركات العربية وشرحت فيه الأمر شرحا وافيا، وقدمته في اليوم التالي للشيخ محمد سرور وقرأ التقرير بإمعان ثم قال: إنني موافق على كل ما جاء في هذا التقرير، ولكن هل تحدثتم إلى الحاج محمد علي وأخذتم موافقته؟ قلت: إننا نريد أخذ موافقتك أولا ثم نتحدث إليه، قال: إنني موافق فخذوا موافقته وأخبروني، واتصلت بإخواننا في مجلس إدارة الشركة العربية للتوفير والاقتصاد وأخبرتهم بالأمر فقرروا انتدابي مع الأستاذ الشيخ عبد الوهاب آشي والأخ السيد هاشم زواوي لمقابلة الحاج محمد علي زينل وأخذ موافقته على الأمر، وعهدنا إلى السيد هاشم بالاتصال بالحاج محمد علي وتحديد موعد معه للمقابلة، واتصل بي السيد هاشم في اليوم التالي وقال: الاجتماع بعد صلاة الظهر مباشرة في بيت الآشى بالقشاشية، (هذا البيت هدم وأدخل ضمن التوسعة الأولى للمسجد الحرام) وذهبت إلى الموعد وبعد دقائق حضر الحاج محمد علي وشرحت له الفكرة بحذافيرها، وأشرق وجه الرجل العظيم وتهلل وهو يستمع إلي ثم قال: لقد فكرت يوما من الأيام أن أشتري محلا كبيرا هنا في القشاشية أشيد فيه بناء المدرسة وأحيطه بدكاكين تكون موردا للمدرسة نفسها، ولكن وقد حالت الظروف دون تحقيق هذا الطلب عزيت نفسي قائلا: إنني سأبنى رجالا، وإني لأحمد الله تعالى أن جاء اليوم الذي رأيتكم فيه يا أبنائي، يا أبناء الفلاح تغارون على مدرستكم وتفكرون في شراء المبنى الذي يضم التلاميذ بعد أن علمتم أنه معروض للبيع وأنكم تخشون عليهم من الضياع .. ثم أردف قائلا: أن أفكاري في الواقع تتلاقى معكم، وإنني هنا على اتصال بمالك الدار في هذا الشأن وأن لدي مبلغا أحضرته من الهند لهذه الغاية، هذا ولم أر في حياتي رجلا ساحر الحديث كالحاج محمد علي زينل - مد الله في عمره - هذه الحلقة نشرت قبل وفاته رحمه الله، لم أجتمع إليه مرة إلا وانطوى الوقت وهو يتحدث وأنا أستمع، فلا نشعر بمرور الزمن ولا انقضاء الساعات، وظل يومها يتحدث عن مدارس الفلاح وكيف أنشأها وهو موظف في بيت أبيه بمرتب عشر روبيات في الشهر الواحد، وكيف كان وصحبه يأخذون التلاميذ من بيوت آبائهم بعد الغروب إلى المدرسة ثم يعيدونهم إلى دورهم في صدر الليل لأن الدراسة كانت في السر بعيدا عن أعين الدولة التركية ورقابتها، وكيف سافر إلى الهند طلبا لتدبير المال لهذه المدارس وكيف تبرعت زوجه بحليها لتساهم في شراء مدرسة الفلاح بجدة حينما عرضت للبيع ولم يكن يملك مالا لشرائها، واستمر يتحدث ونحن نستمع إليه مأخوذين ولم نشعر إلا وقد أذن للعصر ولم نتناول غداء ولم نفكر في راحة وانتبه الرجل العظيم فقال لقد أضعت عليكم وقتا كبيرا ولكنى سأجتمع إليكم مرة أخرى، قلت: ولكني لم أسمع جوابا منك على اقتراحنا، أن الشيخ محمد سرور ينتظر موافقتك لنبدأ الخطوات الأولى للمشروع، قال: لا تفعلوا شيئا حتى أخبركم، وأردف سأتقابل مع الشيخ محمد سرور ثم اجتمع إليكم مرة أخرى، وانتظرنا وطال انتظارنا، وكلما قدم لزيارة الشيخ محمد سرور تعرضت له مذكرا فيعدني بأنه سيخبر الشيخ محمد سرور بما يستقر عليه رأيه، وأخيرا سافر إلى جدة ومنها إلى الهند وسألت الشيخ محمد سرور ألم تتلق شيئا من الحاج محمد علي؟ فقال في هدوء كلا: ثم ابتسم وقال: أنك لا تعرف الحاج محمد علي إنه لا يقبل تبرَّعا من أحد قلت: حتى ولا من أبناء الفلاح؟ قال لقد خبرت بنفسك الأمر فلا داعى للجواب.
مد الله في عمر مؤسس الفلاح فلقد كان وما يزال بأخلاقه العالية وعصاميته الفذة وغيرته العظيمة مدرسة كبرى تبني الرجال - (هذا ما نقلته من كتابي حبات من عنقود مما سبق نشره قبل سنوات في جريدة البلاد وهو مثل من أمثلة كثيرة تدل على أن محمد علي زينل لا يقبل تبرعا من أي جهة كانت لمشاريعه العظيمة التي أسسها وحينما عجز هو عن الإنفاق على الفلاح لم يلجأ إلى جمع التبرعات وإنما ترك المدارس وديعة في يد الأمة كلها تحتضنها دون أن يتدخل في الأمر بصورة من الصُور وهو تصرف يدل على نفس عظيمة كريمة أبيَّة.
ولقد استطاع الرجل العظيم بمرور الزمن أن يتغلب على الأزمة العظيمة التي تعرض لها وأخذ يعمل في تجارة المجوهرات في نطاق محدود، وحيما علت سنه أخذ يفكر في العودة إلى وطنه والاستقرار في الحجاز حيث تقيم أسرته الكبيرة وأحبابه الكثيرون، وكنت أراه في كل مرة يقدم فيها إلى الحجاز فأسأله عن موعد هذه العودة المرتقبة فيقول باق لي بالهند سنتان سنة تخلية وسنة تحلية، والذي ظهر لي أن ارتباطاته الكثيرة في الهند بعد أن قضى معظم عمره هناك لم تكن تسمح له بتركها، وقد علمت من شقيقته السيدة عائشة زينل التي زارته في السنوات الأخيرة من حياته أن بيته هناك كان مفتوحا للناس وخاصة للسيدات اللاتي لا عائل لهن، كما علمت أنه كان يساعد الحركات الإسلامية من ماله في صمت ما وسعه ذلك، وتعرض في أواخر حياته لمرض خطير سافر من أجله لآل زينل بعد أن استقدموا له طبيبا من انجلترا لإِجراء جراحة عاجلة كللت بالنجاح ولم تمض فترة من الزمن بعد ذلك إلا وقد أدركته المنية في مدينة بومباي، وما أن علم جلالة المغفور له الملك فيصل بالأمر حتى أمر بإرسال طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى الحجاز ولكن الحاج محمد علي رحمه الله أوصى أن يدفن حيث يقبض فدفن في مدينة بومباي بالهند وقد تركت وفاته رنة حزن وأسى لدى كل عارفيه ونعته صحف الحجاز خاصة وكتب الكثيرون عنه رحمه الله رحمة الأبرار وكانت وفاته بتاريخ 2 شعبان 1389 هـ أحسن الله جزاءه وأسبغ عليه شآبيب رحمته ورضوانه فقد كان من أعظم الرجال ..
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 278 - 292.