السيد محمد طاهر الدباغ
أبيض الوجه تخالط بياضه حمرة، أقنى الأنف، ممتلئ الجسم أقرب إلى الطول منه إلى القصر، تزين وجهه لحية اختلط سوادها بالبياض، ثاقب النظرة شديد الذكاء تلوح في وجهه مخايل الشهامة عرفته وهو يرتدي العباءة العربية والعقال بعد عودته إلى المملكة من مهجره في الخمسينات من هذا القرن.
ولد السيد محمد طاهر الدباغ بالطائف عام 1308 هجرية وتلقى علومه الابتدائية بمكة ثم بالإسكندرية ثم عاد إلى مكة وتلقى العلم على أيدي علماء عصره بالمسجد الحرام حتى حصل على إجازة التدريس واشتغل به في المسجد الحرام مدة من الزمن ثم التحق مدرسا بمدرسة الفلاح حتى أصبح مديرا لها وفي عام 1336 هـ انتقل إلى مالية جدة وأصبح رئيسا لها ومعتمدا للمعارف بمدينة جدة وتوابعها في عهد الملك الشريف حسين بن علي يرحمه الله وفي عهد الملك علي بن الحسين عام 1343 هـ إلى 1344 هـ تولى وزارة المالية، وللسيد محمد طاهر الدباغ موقف تاريخي مشهود فقد كان هو الذي أبلغ الشريف الحسين بن علي بلسان المجتمعين في الخزنة بجدة، وهي مكتب القائم مقام، وكانت أمام باب جديد قريبا من ميدان البيعة في الوقت الحاضر نقول أن السيد محمد طاهر الدباغ كان هو الذي تحدث إلى الشريف الحسين بن علي في مكة تليفونيا وأبلغه بأن المجتمعين وهم أهل الحل والعقد قد قرروا عزله عن العرش وتولية ابنه وولي عهده الشريف علي بن الحسين ملكا على الحجاز، وقد وردت هذه القصة بتفاصيلها في كتاب المرحوم الأستاذ خير الدين الزركلي (ما رأيت وما سمعت) ولقد كان الشريف الحسين كما يعرف معاصروه معروفا بالصرامة والجبروت وكان ينزل بطشه وعقابه لأتفه الأسباب فالإقدام على إبلاغه بقرار أهل الحل والعقد إقالته من الملك وتنصيب ابنه بدلا عنه ليس بالأمر السهل وإنما هو من عظائم الأمور التي تدل على تمتع صاحبها بالشجاعة المفرطة، التي تؤهله للاضطلاع بعظائم الأمور.
هجرته إلى الخارج
من هذه الحادثة يتبين لنا أن السيد محمد طاهر الدباغ كان من الرجال البارزين في العهد الهاشمي ولقد هاجر بأسرته جميعا من الحجاز بعد أن دان الحجاز بالولاء لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله وعلمت من السيد طاهر أنه توجه أولا إلى الهند ثم تنقل بعدها في مختلف البلاد العربية والإسلامية مشتغلا بالتدريس إلى أن أصدر جلالة الملك عبد العزيز نداءه المشهور إلى رجال العهد الهاشمي المهاجرين في الخارج يدعوهم إلى العودة إلى بلادهم ليعملوا تحت لوائه في سبيل خدمتها والنهوض بها إلى ما يطمح إليه الجميع من رقي وتقدم.
عودته إلى المملكة
وكان السيد محمد طاهر الدباغ من أوائل من استجاب لهذه الدعوة الكريمة من المهاجرين كما عاد في نفس الوقت كل من المرحوم الشيخ عبد الرؤوف الصبان، والشيخ محمد صادق، وكانوا جميعا ينشرون مقالات في جريدة صوت الحجاز توضح استجابتهم للنداء واستعدادهم للخدمة في المجال الذي يختاره لهم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، وقد رأيت السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله يوم عاد في لباس الإحرام عشية يوم عرفة في مخيم الشيخ محمد سرور الصبان في عرفات في حج عام 1354 هـ.
مديرية التعليم العامة
وقد أسند جلالة الملك عبد العزيز إلى السيد محمد طاهر الدباغ إدارة التعليم في المملكة وكانت إدارة بسيطة فجعلت مديرية عامة، ولقد كان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله ذا فراسة في الرجال يعرف أقدارهم ويستفيد من قدراتهم وكان بهذا الاختيار قد أعطى القوس باريها فانطلق السيد محمد طاهر رحمه الله بالمعارف الانطلاقة الكبرى التي كانت النواة الطيبة للنهضة التعليمية في المملكة.
مدرسة تحضير البعثات
وكان أول ما فكر فيه المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ هو تنظيم الابتعاث إلى الخارج للدراسات العليا المتنوعة فأسس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة واستقدم لها الأساتذة وذلك لتهيئة الطلاب للدخول إلى الجامعات والمعاهد العليا في مصر بعد التخرج منها حيث وضعت برامجها بحيث تكون متفقة مع مناهج المدارس الثانوية في مصر وكان الطلاب الذين يكملون الدراسة في مدارس المملكة إذ ذاك يلتحقون بها في مكة المكرمة وكانت مدرسة داخلية بالنسبة للطلاب القادمين من أنحاء المملكة الأخرى سواء من مدن الحجاز أو من مدن نجد أو المناطق الأخرى في المملكة ونستطيع أن نقول للتاريخ أن مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذي احتضن كل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت والذين تخصصوا في الدراسات العليا المختلفة كالطب والهندسة والتعليم وخلافهم ومن تلامذتها تخرج الوزراء والأطباء والمهندسون والعلماء نذكر منهم على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر السادة أحمد جمجوم، الدكتور حسن نصيف، المرحوم السيد أحمد شطا، الدكتور عبد اللطيف جمجوم، الدكتور الهرساني، السيد عبد الله الدباغ. العلامة الشيخ حمد الجاسر وكثيرون غيرهم ممن لا يتسنى ذكرهم في هذه العجالة.
هذا وكان الطلبة المبتعثون من قبل يتعثرون في دراساتهم حينما يصلون إلى مصر فيتضح أنهم أقوياء في بعض المواد بينما أنهم لم يكونوا قد تزودوا بالمقدار الكافي من المواد الأخرى العلمية كالرياضيات واللغة الإنجليزية وغيرها، فكان وجود مدرسة تحضير البعثات سببا في سد هذه الثغرة ومنطلقا للنهضة التعليمية التي هيأت للبلاد النواة الأولى من المتخصصين في مختلف فروع العلوم والفنون.
دار البعثات في مصر
وكما عني المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ بتأسيس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة عني بتهيئة دار البعثات العلمية بالسعودية بالقاهرة وأسندت إدارتها إلى مديرين مشهود لهم بالكفاءة والإخلاص وأذكر منهم على سبيل المثال المربي القدير السيد ولي الدين أسعد رحمه الله، وكانت هذه الدار تضم الطلبة المبتعثين حيث يتهيأ لهم فيها المسكن والطعام ويشرف السيد ولي الدين رحمه الله ومعاونوه على إلحاقهم بالمعاهد المختلفة ويهتم بشؤونهم الدراسية والمعاشية في آن واحد مما هيأ للطلبة الجو المناسب للدراسة المنظمة الجادة التي آتت أكلها فيما بعد ثمرا جنيا ورجالا عاملين في شتى المجالات هذا وقد تم فيما بعد تأسيس دار للبعثات السعودية بالإسكندرية تولاه المرحوم الأستاذ صادق ماجد كردي وكان يرعى الطلبة السعوديين الذين يتلقون دراساتهم في جامعة الإسكندرية.
نشر المدارس في أنحاء المملكة
ولم يكتف السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بالعناية بالدراسات العليا وتهيئة أسبابها فحسب وإنما بذل جهودا جبارة في نشر التعليم في كثير من مدن المملكة فبعد أن كانت مدارس المعارف في المدن الكبرى محدودة العدد توسعت المديرية العامة للمعارف في عهده بتشجيع من جلالة المغفور له الملك عبد العزيز في افتتاح المدارس وخاصة الابتدائية، والمتوسطة فكنا نرى في كل عام زيادة ملحوظة في عدد المدارس في جميع المدن وفي كثير من القرى مما هيأ الجو المناسب للنهضة التعليمية الكبرى فيما بعد مع إدخال الإصلاحات الجذرية على مناهج الدراسة وتهيئتها لتكون متساوقة مع المدارس المماثلة في البلاد العربية المجاورة.
مدرسة الأمراء في الرياض
وقد قام المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ كذلك بتأسيس مدرسة الأمراء في الرياض أو على الأصح بتوسيعها وتنظيمها فقد كانت المدرسة موجودة من قبل ولكنها كانت في نطاق ضيق فقام بتوسعتها وتنظيمها وقد أصبحت هذه المدرسة فيما بعد تضم مختلف الطبقات ولم تكن قاصرة على الأمراء فحسب وهكذا فإن العلم مباح للجميع.
وقد بقي السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله قائما بأعباء هذا العمل العظيم لسنوات طويلة من عام 1355 إلى عام 1364 هـ ثم عين عضوا بمجلس الشورى ثم أحيل إلى التقاعد عام 1372هـ.
المرض والرحلة إلى مصر
وقد شعر السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بالمرض الذي بدأ يؤثر على بصره فسافر إلى مصر طلبا للعلاج ولكن الداء كان قد استشرى فذهب بصره ولكنه كان كالعهد به دائما شجاعا مؤمنا فتحمل المرض في صبر وإيمان ولم يكن يشكو ذهاب بصره، بل لم يكن يتحدث عن ذلك بتاتا، حدثني أحد أبنائه وكان معه في مصر قال كنا نعرف أن لا علاج للمرض الذي ألم ببصره، وكنا نكتم عنه ذلك مراعاة لشعوره قال وكنت أشعر أن الوالد يعرف من أمر مرض عينيه ما نعرف وكان لا يتحدث عن ذلك اشفاقا علينا، لقد كان رحمه الله رحيما وزعيما عظيما، ورجلا من أشجع الرجال هذا وقد أدركته الوفاة رحمه الله بالقاهرة في 18 رجب 1378هـ ودفن بها مأسوفا عليه من كل الناس الذين عرفوا فضله وجميل صفاته رحمه الله جزاء ما أسدى للأمة من خير وما عمل في سبيلها من جهد مخلص ونفع عظيم
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 270 - 276.