الشيخ محمد صالح أبو زنادة
متوسط القامة ممتلئ الجسم واسع العينين تشوب بياضه حمرة خفيفة يطلق لحيته وعارضيه، كان يرتدي الجبة والعمامة الحجازية في العهد الهاشمي وأوائل العهد السعودي ثم أصبح يرتدي العباءة العربية والغترة البيضاء دون عقال.
ولد الشيخ محمد صالح أبو زنادة بمدينة جدة عام 1314 هـ وتلقى تعليمه في مكتب صادق ومكتب صادق هذا يعتبر هو أول تطوير في الدراسة من الكتّاب إلى المدرسة النظامية وفيه تعلم الشيخ محمد سرور الصبان وكثير من رجالات جدة الذين ولدوا في الربع الأول من القرن الرابع عشر، وفي مطلع شبابه عمل كاتبا للحسابات في بيت آل عاشور التجاري وهذا البيت كان في عهده من أجمل بيوت جدة ولا يزال من أجمل وأفخم البيوت القديمة في جدة وهو في امتداد شارع قابل بجوار مسجد المعمار وقد بناه آل الصبان في اوائل القرن الثالث عشر وهو قريب من قصر نصيف المشهور بجدة ولعله بنى تقليدا لهذا القصر أو محاولة لتقليده في ذلك الزمان والقصر الآخر الذي يشبه قصر نصيف هو قصر الجوخدار في حارة اليمن بناه الشيخ محمد نور جوخدار رئيس وكلاء مشايخ الجاوة في جدة نقول إن منزل آل عاشور هذا آل اليهم بالشراء من آل الصبان وكان آل الصبان من أكبر تجار الجلود في مكة وجدة وقد أدركتهم وهم يجمعون جلود الذبائح ويدبغونها دباغة ابتدائية ثم يصدرونها للبيع في أسواق عدن، وكان لهم بيت كبير في مكة وآخر في القنفذة وكان الحاج سرور الصبان والد معالي الشيخ محمد سرور الصبان رحمهم الله يدير بيتهم التجاري في القنفذة ثم في جدة وحينما باع ابن الصبان الكبير هذا المنزل في جدة استعاده الحاج سرور لملكية أبناء الصبان ولكنهم باعوه مرة أخرى إلى آل عاشور وهذا البيت لا يزال موجودا وقد باعه ورثة عاشور إلى أحد قدماء التجار الهنود في جدة ولا يزال البيت يعتبر من أجمل البيوت التي تمثل فن البناء القديم محتفظا بجماله وهندسته وقوته كأجمل ما يكون عليه البناء مع أنه مضى عليه ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن أو أكثر، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ محمد صالح أبو زنادة لنقول أنه عمل في مطلع حياته كاتبا في بيت آل عاشور التجاري ثم انتقل للعمل في بيت الشيخ إبراهيم الفضل في جدة ثم انتدب للعمل في مدينة بومباي وكان للشيخ إبراهيم الفضل بيت تجاري كبير في جدة وآخر في مدينة بومباي وكان أحد كبار التجار العرب في الهند، وكان يعمل في تجارة اللؤلؤ كما علمت من ابن شقيقته وزوج ابنته المرحوم الشيخ إبراهيم السليمان بن عقيل السفير السعودي الأسبق في القاهرة، ثم عاد بعد ذلك إلى جدة بداية تأسيس أول شركة للسيارات في العهد السعودي فعين مديرا لها بجدة وكان الشيخ محمد صالح قد افتتح كذلك عمله التجاري الخاص إلى جانب عمله في إدارة الشركة السعودية للسيارات وكان يعمل في استيراد الارزاق كالدخن والشعير من موانئ جيزان والقنفذة وموانئ اليمن الأخرى، ولم تستمر الشركة السعودية للسيارات وقتا طويلا بعد تعرضها للمشاكل الكثيرة فانحلت ولكن الشيخ محمد صالح أبو زنادة أنشأ لنفسه شركة خاصة للسيارات وأطلق عليها اسم شركة (قاصد كريم) ثم أصبح عضوا في نقابة السيارات الأولى بجدة حين تأليفها وحين توحيد شركات السيارات جميعها في شركة واحدة اختير الشيخ محمد صالح أبو زنادة مديرا لفرع الشركة الموحدة في جدة والتي أطلق عليها اسم (الشركة العربية للسيارات) كما انتخب عضوا بمجلس إدارة الشركة لسنوات طويلة ولعله من المستحسن أن نذكر الآن طرفا من تاريخ دخول السيارات إلى البلاد والمشاكل الكثيرة التي تعرض لها كثير من المشتغلين بها وكيف تطور الأمر إلى الوضع الحاضر.
لقد ذكرنا في حلقات سابقة أن السيارات كانت ممنوعة منعا باتا في العهد الهاشمي إذ أن الملك الشريف الحسين بن علي كان يعتبر أن هذه السيارات تهدد اقتصاد البلاد وتنزح ثروتها إلى الخارج على اعتبار أن السيارات صناعة أجنبية وتحتاج في تشغيلها من وقود وصيانة إلى مستوردات أجنبية كقطع الغيار والبنزين والزيوت والإطارات وما إليها كما أنها ستحتاج في قيادتها وصيانتها إلى القوى البشرية الأجنبية ولهذا فهو يعتبر أن الجمل هو الوسيلة الاقتصادية المثلى للبلاد في ذلك الزمان فهو حيوان وطني والجمال الذي يقوده وطني كذلك وصناعة الشقادف (الهوادج) التي كانت تنقلها الجمال صناعة وطنية تعمل فيها أيد وطنية كثيرة وهو يضمن للبادية وهى تمثل السواد الأعظم من الشعب وسيلة ارتزاق يجب ألا تحرم منها، هذه هي الأفكار التي كانت لدى الشريف الحسين والتي بسببها منعت السيارات من دخول البلاد فلما انتهى العهد لهاشمي كان رأي جلالة الملك عبد العزيز هو الأخذ بمبدأ التطور ومسايرة العصر خصوصا وأن المملكة واسعة الرقعة كبيرة المساحات وهذا هو التفكير الصحيح بطبيعة الحال فسمحت الحكومة باستيراد السيارات وأسست لذلك الشركة السعودية للسيارات كما ذكرنا برئاسة الشيخ سليمان قابل في جدة كما قامت الحكومة بتأسيس عدة شركات باسمها لأغراض النقل الحكومي ثم ساهمت في نقل الحجاج كذلك، وانطلق الناس من كل حدب وصوب يشترون السيارات وكان محل جلاتلى هنكى وشركاه الإنجليزي في جدة يجمع كل وكالات السيارات تقريبا باستثناء الفورد فقد كان وكيلا لشركة جنرال موتورز لسياراتها المختلفة كما كان وكيلا لشركة دودج وهي من إنتاج شركة كريزلر أما شركة فورد فقد كان وكيلها المستشرق الإنجليزي المسلم سانت جون فيلبي والذي سمى نفسه فما بعد عبد الله فيلبي وبعد فترة من الزمن أصدر جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله أمرا باختصار دخول السيارات على شركة فورد والكفرات على ماركة قوديير التي كان وكيلها فيلبي المذكور والتي أسس لها شركة تجارية باسم الشركة الشرقية ويبدو أن جلالته رأى السيارات الأخرى ولا وكلاء رسميون لها يعاني مشتروها من نقص قطع الغيار وأقنعه عبد الله فيلبي بقصر الاستيراد على شركة فورد المهم أن هذا الامتياز بقى لشركة فورد ولكفرات قوديير بضع سنوات إلى أن طلب المسؤولون في الشركة العربية للسيارات إلغاءه محتجين باستغلال الشركة الشرقية لهذا الامتياز فوافق جلالته على ذلك في الحال وأصبح الاستيراد مسموحا به لجميع أنواع السيارات والإطارات بلا استثناء.
إن إقبال الناس على شراء السيارات دون سابق خبرة بإدارتها وصيانتها قد حدثت عنه مشاكل من عدة جهات الأولى هي استقدام إعداد كبيرة من السائقين والميكانيكيين من مهندسين وسائقين وعمال صيانة من السودان والهند وعدن وكانت تصرف لهم المرتبات الضخمة بطبيعة الحال لأنهم تركوا أوطانهم وأهليهم فكان لابد من تقديم الإغراءات الكبيرة لهم، وكانت هذه السيارات محتاجة إلى قطع الغيار التي لم تكن متوفرة في البداية بالشكل الكامل، كما أن البلاد لم تكن قد عرفت الطرق المزفتة أو المعبدة فكانت السيارة الجيدة تقطع طريق مكة جدة في ساعتين وكثيرا ما تتعرض للتعطيل في الرمال المتحركة في منطقة الحديبية وكانت تسمى في ذلك الزمان - زقاق حدة - حيث كانت السيارات تغرز في هذه المنطقة وهي منطقة رمال متحركة ويقضي السائق والمسافرون ساعات في إخراجها من الرمال ودفعها إلى منطقة صلبة، أما طريق المدينة المنورة فكانت السيارة الجيدة تقطعه في يومين كاملين إذا لم تتعطل في الشفيا وآبار ابن حصاني أو سبخة رابغ ولكن الأجور التي كانت مقررة على الحجاج كانت مغرية إذ كانت الأجرة تبلغ خمسة عشر جنيها ذهبا لنقل الحاج إلى المدينة المنورة وإعادته إلى مكة وكان المطوفون يتولون التعاقد مع أصحاب السيارات سواء أكانوا أفرادا أم شركات ولكثرة التنافس بين أصحاب السيارات انخفضت الأجرة أو تأجل استلامها إلى ما بعد الموسم وقد لا تدفع كلها أو بعضها فيما بعد فأصبحت العملية خاسرة تماما وفقد كثير ممن أقدموا على هذا العمل ثرواتهم والبعض باع عقاره أو مجوهرات عائلته ليضعها في السيارات، وحينما تفاقم الأمر اضطرت الحكومة للتدخل فأسست النقابة العامة الأولى للسيارات وجرى تحديد الأجور بمعرفة الدولة كما أن نظام النقابة كان بنص على أن تكون شركة السيارات مكونة من عشرين سيارة كبيرة كحد أدنى وأن يتم دفع الأجور في النقابة التي تتولى هي إحالة الحجاج على الشركات حسب تعداد مقاعد كل شركة وكانت هذه البداية هي أول عمل تنظيمي جيد لشركات السيارات وكان هذا في النصف الثاني من الأربعينات وأوائل الخمسينات ثم رأت الدولة أن المصلحة تقضي بتوحيد الشركات جميعها في شركة واحدة فتم ذلك بعد جهود مضنية وتألفت الشركة العربية للسيارات وأصبحت صاحبة امتياز النقل للحجاج والبريد لسنوات طويلة وحينما تعرضت الشركة للمتاعب وعجزت عن نقل الحجاج مما اضطر الحكومة إلى التدخل سنويا لإنقاذ الحجاج في عرفات ومزدلفة ومنى أصدرت الدولة في عام 1372 هـ قرارا بالسماح للسعوديين أفرادا وشركات بالاشتراك في نقل الحجاج وحددت العدد الأدنى للشركة بمائة سيارة كحد أدنى وعلى أثر ذلك تأسست الشركات الحالية للسيارات ولا تزال تقوم بعملها في نقل الحجاج حتى الآن.
مستشفى أبو زناده
نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ محمد صالح أبو زناده فنقول أن للرجل مبادرات تلفت النظر فلقد كان من أوائل الذين قاموا بتأسيس المستشفيات بمدينة جدة وإن كان هذا المستشفى لم يستمر طويل وقت فلقد قام الشيخ محمد صالح أبو زناده في عام 1370 هـ بتأسيس مستشفى خاص في شارع الملك عبد العزيز مما يلي باب شريف وكان قد قام بإنشاء بنايات في هذا الشارع وتم افتتاح المستشفى بالفعل وكان يديره أطباء ألمان ولكن هذا المستشفى كما ذكرت لم يستمر طويل وقت بسب اختلاف الشيخ محمد صالح أبو زنادة مع بعض شركائه على إدارة المستشفى فتحول إلى فندق بعد أن استمر أربعة أعوام وافتتح فيه أول فندق باسم فندق الحرمين الذي أسسه السيد حسين العطاس ولا يزال هذا المبنى مستعملا كفندق بهذا الاسم حتى اليوم هو والمبنى الصغير المجاور له.
كهرباء وثلج أبو زنادة
وكما قام الشيخ محمد صالح أبو زناده بإنشاء المستشفى في عام 1370 هـ قام في عام 1360 هـ باستيراد مكينة كهربائية وأسس لها مبنى في شارع الملك عبد العزيز بجوار بنك الرياض حاليا وكانت هذه المكينة تمد الشارع كله بالكهرباء ثم امتدت إلى شوارع أخرى، كما أنه أسس في هذا المبنى مصنعا للثلج وورشة كهربائية وكان الشيخ محمد صالح أبو زناده ينفذ هذه المشاريع بأيدي الايطاليين الذين هاجروا من أريتريا خلال الحرب العالمية الثانية إلى جدة واتصلت أسبابهم بأسبابه فاستفاد الرجل بفكره الثاقب من خبرتهم في تنفيذ الأعمال الجديدة التي أقدم عليها وقد استمرت كهرباء أبو زنادة في العمل إلى أن تأسست كهرباء جدة وحصلت على امتياز الإنارة في مدينة جدة كلها فاضطر الشيخ محمد صالح أبو زنادة إلى إيقاف العمل في الإنارة ويبدو أنه كذلك أوقف العمل في مصنع الثلج والورشة الكهربائية بعد ذلك، على أي حال إن إقامة مشروع للكهرباء ولو كان صغيرا يعتبر في ذلك الزمن مبادرة لها مدلولها فالبلد كانت محرومة من الإنارة الكهربائية وكان الإقدام على مشروع كهذا له معوقاته الكثيرة وفي مقدمتها المعوقات الفنية إن صح هذا التعبير وكذلك المعوقات المالية فالتجار العاديون يرغبون في استثمار أموالهم في بضائع يقومون هم بتوريدها وبيعها، ويتركون المشاريع الصناعية كالإنارة وما شابهها للدولة أو للشركات التي تؤلفها الدولة وهكذا كان بالفعل فبالنسبة لكهرباء جدة فإن وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان كلف شركة بكتل الامريكية بالقيام بالمشروع الابتدائي لكهرباء جدة ثم تحول إلى شركة مساهمة وتسلمه مجلس إدارة سعودي وبالنسبة لكهرباء مكة فحينما تقدم آل الجفالي إلى جلالة الملك عبد العزيز بطلب الامتياز للمشروع كان جلالته يشفق عليهم من تبعاته ومشاكله ولكنهم أقدموا عليه بحماس الشباب فكان لهم ما أرادوا .. أن الغرض من ذكر هذا كله أن الإقدام على مثل هذه الأعمال قبل أربعين عاما أو أكثر كان يدخل في باب المجازفات أكثر منه في باب الأعمال المربحة، والشيخ محمد صالح أبو زناده أفاد من الربح فيما أقدم عليه من مشروع الإنارة وفى غيره من المشروعات دون شك ولكنه كان في زمنه كالرائد الذي يكتشف الطريق وهذه البادرات وأمثالها هي عندي موضع التقدير لأنها تدل على الشجاعة وبعد النظر وكان عمل الشيخ محمد صالح أبو زنادة وأمثاله يكون كاملا لو أنه حول مشروعه الصغير إلى مشروع كبير بعد أن رأى كثرة الإقبال عليه وبوادر النجاح تلوح أمامه فلو أنه استعان بالجهات الفنية المتخصصة في الخارج وألف شركة للإنارة وتقدم بها إلى الدولة في ذلك الزمن لكان السابق ولبقيت له كهرباء جدة كما فعل آل الجفالي وقد أصبحوا عنصرا هاما في أغلب شركات الكهرباء التي تأسست بعد ذلك.
صندوق البر
وللشيخ محمد صالح أبو زناده مساهمات أخرى في سبيل المصلحة العامة فحين تأسيس صندوق البر في جدة عام 83 هـ كان الشيخ محمد صالح أبو زناده من المؤسسين له وقد تولى رئاسته العملية منذ تأسيسه حتى وفاته وصندوق البر فكرة إنسانية جليلة وهي تقوم على دعوة القادرين للاشتراك في هذا الصندوق بمبالغ سنوية أو شهرية يتم توزيعها على العائلات الكريمة التي فقدت عائلها وأصبحت في حاجة إلى ما يقيم الأود وهم في نفس الوقت من كرام الناس الذين تحسبهم أغنياء من التعفف فيقوم الصندوق بإيصال مرتبات شهرية إليهم ولا يزال صندوق البر يعمل مند بدء تأسيسه حتى الآن وقد علمت أن عدد المستفيدين منه يبلغ خمسمائة وخمسين أسرة وفردا وأن المبالغ التي تدفع لهؤلاء، المستفيدين تبلغ حوالي الثلاثمائة وستين ألف ريال في كل عام وهو مبلغ زهيد في هذا الوقت الذي اشتد فيه الغلاء وفاض فيه المال فهو بحاجة إلى دعم القادرين من زكاة أموالهم لتنفق في وجوهها الصحيحة بواسطة رجال خيرين موثوق بأمانتهم وعلمهم بأمور الناس.
أبو زنادة مندوب جدة
أخبرني الأستاذ عبد الرؤوف أبو زنادة أن والده الشيخ محمد صالح توجه لمقابلة الملك عبد العزيز في مكة قبيل تسليم مدينة جدة وقال لي أن الرجل الذي رافق والده في هذه الرحلة لا يزال حيا يرزق، وبالفعل فقد بعث إلى المرافق المذكور وبعد أن استمعت منه إلى قصة هذه الرحلة رجعت إلى كتاب ماضي الحجاز وحاضره للمرحوم الأستاذ حسين محمد نصيف فوجدت في الصفحة 202، 203 ما أورده المؤلف عن تسليم جدة أنه تم بواسطة نائب معتمد وقنصل بريطانيا العظمى المستر جوردن بناء على طلب الملك الشريف علي بن الحسين، ووجدت في هامش الصفحة ما نصه (سمع البعض من الأهالي عن وساطة القنصل الإنجليزي في الأمر فأبوا ذلك وذهبوا لدار الملك علي واحتجوا وطلبوا أن يسلمهم البلاد وهم يسلمونها لابن السعود ولا دخل ولا وساطة لأجنبي في بلادنا فوعدهم وأخلف - انتهى ما نقلناه - من كتاب ماضي الحجاز وحاضره وقد استنتجت من ذلك أن أهالي جدة حينما علموا بأمر الاتفاق على التسليم لم يعجبهم أن يتم التسليم بوساطة القنصل الإنجليزي فاختاروا إرسال الشيخ محمد صالح أبو زناده لمقابلة الملك عبد العزيز في مكة ويعود هذا الاختيار أولا إلى ما يتمتع به الرجل من إتزان وتعقل وثانيا إلى أنه كان وكيل محل الشيخ إبراهيم الفضل التجاري في جدة وصلته بآل الفضل قديمة كما ورد في مقدمة ترجمته وقد التحق آل الفضل بالملك عبد العزيز في مكة من حين فتح الملك عبد العزيز لها وباعتبارهم من كبار النجديين المقيمين في الحجاز والمطلعين على الأمور فيها فقد كانت صلتهم بالملك عبد العزيز قوية في ذلك الزمان هذه هي الأسباب التي رجحت اختيار الشيخ محمد صالح أبو زنادة لهذه المهمة ونعود الآن إلى حديث المرافق لهذه الرحلة قال: غادرنا جدة في لباس الإحرام الشيخ محمد صالح أبو زناده وأنا ويرافقنا سائس يعتني بدوابنا وكانت هذه الدواب من الحمير الجيدة التي كانت وسيلة السفر إلى مكة في ذلك العهد قال: حينما وصلنا إلى بوابة الأسلاك الشائكة فتحت لنا الأبواب مما يدل على أن الأمر قد أعطي لحراس البوابة بذلك قال: وانطلقت بنا الدواب إلى الرغامة ولم نشعر إلا ببعض البدو من الجنود النجديين وقد هبوا شاهرين أسلحتهم فقال لهم الشيخ محمد صالح أننا إخوة لكم ونرغب في مقابلة أمير المعسكر لأننا نحمل رسالة للسلطان فاقتادونا إلى أمير المعسكر على بعد بضع كيلومترات وتحدث معه الشيخ محمد صالح عن مهمته فأرسل أمير المعسكر مندوبا إلى جهة بعيدة وبعد ساعتين أو أكثر عاد المندوب واصطحبنا إلى بحرة ثم تركونا نتوجه إلى مكة المكرمة، ووصلنا إليها ضحى اليوم التالي، وذهبنا إلى بيت الفضل وبعد أن استرحنا وأدينا مناسك العمرة ذهب الشيخ محمد صالح أبو زناده لمقابلة السلطان عبد العزيز في قصر السقاف بالمعابدة قال المرافق وقضينا في مكة يومين أو ثلاثة وبعدها حضر سائق سيارة الملك عبد العزيز صديق الهندي وطلب من الشيخ محمد صالح أن يذهب معه إلى الرغامة لمقابلة الملك عبد العزيز قال وذهب الشيخ محمد صالح بسيارة الملك وذهبت أنا والسائس والدواب إلى الرغامة للقاء الشيخ محمد صالح هناك قال المرافق: وفي اليوم التالي حضر أهالي جدة للسلام على السلطان عبد العزيز وكان الشيخ محمد صالح أبو زناده يقدمهم لجلالته ويذكر أسماءهم وسأل السلطان عبد العزيز عن محمد الطويل لماذا لم يحضر مع الحاضرين وكان المرحوم الشيخ محمد الطويل من أركان الحكومة الهاشمية وممن وقفوا إلى جانب الشريف علي وضحوا بأموالهم حتى أنه باع المنزل الذي كان يسكنه ودفع مرتبات الجنود الذين اعتصموا بمسجد عكاش وكان السلطان عبد العزيز معجبا بإخلاص الرجل ويرغب أن يراه قال: فقيل للملك عبد العزيز أن الطويل يرغب الحضور للسلام على جلالتكم ولكنه يطلب الأمان على نفسه أولاً وهنا قال الملك عبد العزيز والله لو حضر الشريف على نفسه لأنزلته بين عيني وبعدها قدم الطويل للسلام على السلطان فأحسن وفادته واستقباله.
هذا ما استطعت استنتاجه عن هذه الوفادة فقد رأى أهل الحل والعقد بمدينة جدة أن يبعثوا واحدا منهم للسلطان عبد العزيز لينقل إليه آراءهم بعد أن ثم تسليم المدينة دون إشراكهم خاصة وأن الاتفاق تم بواسطة القنصل الإنجليزي وهو أجنبي عن الجانبين وإني لأرجو أن يكون من بين الرجال الذين عاصروا هذه الأحداث ولا يزالون على قيد الحياة من يستطيع إلقاء الضوء على هذه الأمور التي أصبحت في ذمة التاريخ.
رئاسة المجلس البلدي والمجلس الإداري
هذا وقد كانت للشيخ محمد صالح أبو زنادة مشاركة في الحياة العامة فقد كان عضوا بالمجلس الإداري لمدينة جدة كما تولى رئاسة المجلس البلدي فترة طويلة وفي وقت من الأوقات تولى رئاسة بلدية جدة وكالة عن الشيخ محمد الهزازي ثم أصالة إلى حين تعيين رئيس جديد.
وفاته
أدى الشيخ محمد صالح أبو زناده صلاة الفجر في المسجد الذي وفقه لله تعالى لإنشائه بجوار منزله بالشرفية كعادته في المحافظة على أداء الصلوات كلها جماعة وبعد أن عاد إلى داره وأوى إلى فراشه يلتمس بعض الراحة فاجأته المنية صباح يوم 17/ 3/ 1387 هـ وقد طلب أحبابه الكثيرون نقل الجثمان إلى مسجد عكاش حيث كان يؤم الناس في كثير من الصلوات واشترك في الصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير الجموع الكثيرة من المواطنين رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه..
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 236 - 248.