محمود حسين نصيف
معتدل القامة والجسم، أبيض تخالط بياضه صفرة، أسود الشعر والعينين، خفيف اللحية، حليق العارضين، يرتدي العباءة والعقال.
ولد بمدينة جدة عام 1253 للهجرة الموافق لعام 1934 للميلاد وتلقى تعليمه الابتدائي بالمدرسة السعودية بجدة، وحصل على الشهادة الثانوية من القاهرة ثم سافر في بعثة إلى أمريكا فحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة المدنية من جامعة جنوب كلفورنيا بمدينة لوس انجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية.
وعين فور عودته ملازما أول بسلاح المهندسين بوزارة الدفاع ورقي إلى رتبة مقدم ثم نقل إلى الملاك المدني وأسندت إليه وظيفة مدير الأشغال الهندسية العسكرية وظل يشغل هذا المنصب حتى توفاه الله في أوج الشباب في 29/ 12 / 95 هـ وهو لم يكمل الثالثة والأربعين من العمر بعد أن استعصى الداء ولم يجد الدواء رحمه الله رحمة الأبرار.
كان المرحوم محمود نصيف وهو من أسرة نصيف الشهيرة في جدة فوالده المرحوم الأستاذ حسين محمود نصيف مؤلف كتاب - ماضي الحجاز وحاضره - وجده العلامة والمؤرخ والوجيه الكبير المرحوم الشيخ محمد نصيف نقول كان هذا الشاب نمطا فريدا في خلقه وعمله، فقد ولي أخطر المناصب وهو في سن مبكرة بعد أن حصل على شهاداته العليا من إحدى كبرى الجامعات في الهندسة في أمريكا، فلم يقنع بمجد أسرته التليد وإنما بنى لنفسه مجدا جديدا حينما تبوأ مركزه كمدير للأشغال العسكرية الهندسية في وزارة الدفاع بالمملكة وهو منصب جد خطير تحيط به المغريات من كل جانب ولم يهيئه لهذا علمه فحسب وإنما هيأته لذلك صفاته الشخصية، فلقد اشتهر بالإخلاص والنزاهة، ونظافة اليد والضمير وإذا علمت أن محمود نصيف أشرف على عدد من المشاريع البالغة الضخامة مثل مشروع المدينة العسكرية في خميس مشيط، ومطار جدة الدولي ومطار الرياض الدولي، وكان في كل أعماله مثالا للنزاهة التي تصل إلى درجة الزهد، أدركت مدى قوة الخلق في هذا الشاب العظيم الذي كان يتعالى على كل أسباب الإغراء مترفعا بنفسه عن كل مظنة حتى أصبح مضربا للمثل في عصر عز فيه، هذا المثال النادر من الرجال، كتبت عنه إحدى المجلات الأمريكية المتخصصة في الهندسة والإنشاءات كواحد من المهندسين القلائل في العالم الذي أشرف على عدد ضخم من المشاريع الهندسية التي تقدر ببلايين الدولارات في وقت قصير.
وكان إلى جانب هذا المنصب متدينا شديد التدين قوي الإيمان وقد أسبغ عليه هذا التدين ما تميز به من صفات التواضع الجم والأمانة القليلة النظير.
تفرغ لخدمة الجامعة
ولقد عرفت المرحوم محمود نصيف أول ما عرفته حينما انضم إلى عضوية المجلس التأسيسي لجامعة الملك عبد العزيز فرأيت فيه شابا يجمع بين العلم والتواضع ويساهم بعلمه وجهده في خدمة مشاريع الجامعة وما أكثر ما كانت الجامعة في حاجة إلى هذا الجهد على قلة الموارد في ذلك الوقت.
كان المبنى الذي تشغله كلية العلوم قديما لا يقوى على البقاء كما أنه لا يفي بمتطلبات الكلية فاقترح المهندس محمود نصيف إقامة مبنى خاص بالكلية ولكن موارد الجامعة لم تكن تسمح في ذاك الوقت بإقامة المبنى المطلوب فقام هو بجمع التبرعات العينية والنقدية للجامعة من الشركات الهندسية والفنية الكبيرة التي كان على صلة بها، وجند كل أصدقائه من المهندسين والفنيين لإنشاء البنى في أسرع وقت وبأقل تكلفة وهكذا قام مبنى كلية العلوم بجهد عظيم من المرحوم محمود نصيف خاصة وبمن لبى نداءه من المخلصين والعاملين وقد شمل هذا الجهد كل ما يتعلق بالمبنى من تصميم وتنفيذ.
ولم تقف جهود المرحوم محمود نصيف عند مبنى كلية العلوم فلقد ساهم بجهد عظيم في كل عمل هندسي للجامعة فكان يشرف على أعمالها الهندسية وإنشاء مبانيها منذ أن كانت جامعة أهلية وحتى بعد أن تحولت إلى جامعة حكومية دون مقابل ولقد تابع بجهوده الشخصية إخراج المخطط العام للجامعة بجدة إلى مرحلة التصميم، كما شارك في إخراج مخطط الجامعة بمكة وكان يندفع بكليته في العمل دون تفكير فيما يجب لنفسه من راحة ولصحته من عناية، ولقد علمت أنه كان يغادر بيته في الصباح المبكر دون أن يتناول طعام الإفطار منهمكا في عمله حتى المساء. بل إنه حتى في رحلاته للعلاج بعد أن ظهرت عليه أعراض المرض كان يبحث في هذه الرحلات الأعمال الهندسية للجامعة مسرفا على نفسه في الجهد والحمل إلى أن توفاه الله.
محمود نصيف والخدمة العامة
ولم تقف جهود محمود نصيف رحمه الله على أعمال الجامعة ومشروعاتها ولكنه كان يندفع إلى بذل جهوده في كل عمل يحس فيه النفع العام ولقد علمت أنه ساعد على تصميم وإنشاء طابق جديد في المبنى الذي كان يشغله البنك الإسلامي بجدة أول تأسيسه وكان المبنى يضيق بمتطلبات البنك وأعماله فقام رحمه الله بعمل التصميم للطابق الجديد وأشرف على إنشائه بسرعة مذهلة.
وأستطيع أن أقول إني خبرت شيئا من هذا الاندفاع في الخدمة العامة لا في الجامعة وحدها أو في البنك الإسلامي وإنما في كل عمل نافع، فلقد وهب الرجل شبابه للخدمة العامة ولم يكن ينتظر الدعوة إلى العمل وإنما كان يقدم نفسه كما فعل في الجامعة والبنك الإسلامي وغيرهما من الأعمال.
ولا يظن ظان أن محمود نصيف كان يستغل مركزه الكبير في وزارة الدفاع لهذه الخدمة دون علم من رؤسائه فقد أخبرني شخصيا أنه علم أن أحد الرجال المعروفين كان يفكر في إنشاء مسجد في مدينة أبحر لخلوها من المساجد فلم يكن منه إلا أن استأذن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان وزير الدفاع والطيران في أن يقوم المكتب الهندسي لوزارة الدفاع بتصميم المشروع فوافق سموه على ذلك، وهكذا كان الرجل مبادرا إلى كل عمل نافع وكأنما قد سخر لذلك تسخيرا، وبينما كان غيره يسخرون عملهم ووظائفهم للنفع الشخصي وجر المغانم كان هو يسخر نفسه للخدمة العامة فكان بذلك مثالا فريدا قليل النظير.
مرضه ووفاته
أحس المرحوم محمود نصيف بأعراض الداء قبل فترة من الزمن ولكنه لم يسارع إلى العلاج كما كان الواجب بل كان يؤجل السفر للفحص والعلاج أسبوعا بعد أسبوع وشهرا بعد شهر حتى أصبحت الحمى لا تفارقه وكان مع ذاك منهمكا في أداء الأعمال التي كلف نفسه بها حتى ظهرت عليه العلة صفرة في الوجه ونحولا في البدن فسافر إلى أمريكا ولم ينس أن يحضر أولا اجتماعا لبحث مخطط الجامعة العام في مدينة غير التي يقصدها للعلاج، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة روشستر بولاية مينسوتا بأمريكا وقد اقتضى الأمر إجراء جراحة عاجلة له ولكن الداء كان قد استفحل وبقي في غرفة الانعاش وقتا غير عادي مما استدعى إرسال زوجه وأولاده إليه كما سارع بعض أفراد أسرته للسفر وهكذا أراد الله لهذه الروح أن تعود إلى بارئها مودعا هذه الحياة وهو في مطلع رجولته بمدينة روشستر بأمريكا بتاريخ 29/ 12/ 95 هـ وقد نقل جثمانه إلى جدة بعد ثلاثة أيام من وفاته فاستقبله أصدقاؤه الكثيرون وصلى عليه في جامع الملك سعود ودفن بمدينة جدة مسقط رأسه وقد نعته صحف المملكة جميعها واستمر الكتاب والشعراء في رثائه وتعداد مآثره وقتا طويلا، فلقد كان شابا نادر المثال تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 216 - 221.