معتدل الجسم والقامة أقرب إلى الطول منه إلى القصر، أبيض اللون تخالط بياضه صفرة بيضاوي الوجه، أسود العينين، قصير اللحية، حليق العارضين، يرتدي الجبة الحجازية ويعتم بعمامة غالبا ما تكون من قماش أبيض رقيق في الصيف تحتها كوفية جاوية كما يفعل عامة أهل الحجاز.
ولد الشيخ محمد جعفر لبني بمكة المكرمة في 7 رجب 1323 هـ وحفظ القرآن الكريم في الحرم المكي الشريف كما تعلم على أيدي علماء المسجد الحرام وقد عرفته وهو مكتمل الرجولة يتولى رئاسة لجنة قضايا المطوفين في مكة المكرمة وكانت مكة يومها عاصمة الدولة ومركز الحكومة في عهد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز في الخمسينات من هذا القرن، وكان قد اختاره المغفور له الملك فيصل لرئاسة لجنة قضايا المطوفين لما عرف به من تحري الحق والعدل، ولما يتمتع به من ثقة من عامة أهل مكة علاوة على إلمامه التام بشؤون المطوفين وقضاياهم، وكان إلى جانب رئاسته للجنة قضايا المطوفين كان يعمل محاميا أمام المحاكم الشرعية بمكة، كما كانت له مكتبة صغيرة لبيع الكتب في حانوت صغير في باب السلام وكان يسكن البيت الذي يقع هذا الحانوت في مدخله وقد تم هدم البيت مع كافة البيوت التي حوله وأدخل في التوسعة الأولى للمسجد الحرام، وقد توثقت صلتي بالمرحوم الشيخ محمد جعفر لبني منذ أن عرفته في مكة في أوائل عام 1356 هـ واستمرت صلتي به إلى أن توفاه الله تعالى في 7 رجب سنة 1370 هـ حسبما سيرد في ترجمته بعد، عرفت الشيخ محمد لبني خلال هذه السنوات فوجدت فيه رجلا وقف نفسه في خدمة الناس وخاصة الأرامل والضعيفات والفقراء من الناس فكان يتولى قضاياهم والدفاع عنهم دون مقابل وقد أصبح بهذا مقصدا لأصحاب الحاجات من الناس وخاصة من النساء الضعيفات والمغلوبات على أمرهن فكان يتولى شؤونهن في المحاكم والدوائر الرسمية كما كان يتولى الإصلاح بين الناس وخاصة حينما يقع الخلاف بين زوجين أو أخوين أو أبناء عمومة وكان الرجل يتمتع بحب الناس لما يبذله في خدمتهم من وقته وجهده وأستطيع أن أقول إني على قدر ما عرفت الشيخ محمد لبني لم أره مشغولا بأموره الخاصة بقدر ما هو مشغول بشؤون الناس ولعله لم يكن يجد أي وقت للاهتمام بعمله الخاص فقد كان له حانوت لبيع الكتب كما ذكرت ولكني لم أشهده مرة واحده يبيع كتابا أو يتحدث عن بيع أو شراء الكتب ولكني كنت أرى هذه المكتبة مملوءة بأصحاب القضايا من الأصدقاء والفقراء من النساء والرجال في جميع الأوقات وخاصة في أصيل كل يوم وما بين المغرب والعشاء، وكان الرجل معروفا بتفرغه للخدمة العامة وبالتفاني فيها فكان الحكام ورؤساء الدوائر يوسعون من صدورهم له ويكرمون وساطته وكان بهذا يقضي حوائج الناس التي لم يكن ينقطع لها مدد وكان جلالة المغفور له الملك فيصل يعرف فيه هذه السجايا فكانت وساطته لدى جلالته منذ أن كان نائبا لجلالة الملك في مكة تحظى بالقبول.
حدثني رحمه الله قال حبس جار لي فذهبت إلى سمو الأمير وكان وقتها جلالة الملك فيصل نائبا عاما للملك في مكة - فشرحت القضية لسموه فوافق رحمه الله على إطلاق سراحه وكان في مجلس سموه أحد الأمراء فسألني ما هي صلتك بالرجل أهو قريب لك قلت كلا ولكنه جار لي في المنزل، ومرت شهور وذهبت إلى سموه أرجوه في قضية مشابهة وكانت تخص إحدى جاراتي وتفضل سموه فأصدر أمره بشأنها وكان نفس الأمير حاضرا في المجلس فسألني وما هي قرابة هذه المرأة لك قلت أنها جارتي قال ألا ليتني جار لك! هكذا كان الشيخ محمد جعفر لبني رجلا شهما يبذل جاهه في خدمة الناس ومعونتهم وهكذا كان الحكام والعظماء يستجيبون له لثقتهم بإخلاصه وحبه للنفع العام.
وخلال عام ١٣٦٤ هـ سافر الشيخ محمد لبني مع أسرته إلى مصر لتطبيب والدته هناك وكنت إذ ذاك أقيم بالقاهرة لغرض مماثل فرأيت الرجل وقد أنفق أغلب ما حمله من مال في مساعدة الكثيرين ممن يعرف ممن كانوا يزورون القاهرة في تلك الأيام ولم يكن الشيخ محمد جعفر لبني من أصحاب الأموال ولكنه كان كريما لا يبخل بما يصل إلى يديه وكان يتوسط للكثيرين من أصحاب الحاجات لدى أصدقائه من أصحاب المال والنفوذ فكانوا يستجيبون لطلبه لما يعرفونه من حبه لخير الناس ونفعهم، وحينا كنت أعمل مديرا لمكتب المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان كانت طلبات الشيخ محمد جعفر لبني لمساعدة الناس وخاصة - الشناقطة الموريتانيين الآن - تتوالى بطلبات الإركاب لهم من المدينة إلى مكة المكرمة ومن مكة إلى المدينة وكانت للكثير منهم صلة حسنة بالشيخ محمد جعفر لبني رحمه الله.
وقد عمل الشيخ محمد جعفر لبني في آخر حياته في تجارة الأرزاق وافتتح دكانا بمدينة الطائف في موسم الصيف لتوزيع الأرزاق ولكن الزمن لم يطل بهذا العمل، فإن الشيخ محمد لبني لم يكن متهيئا للتجارة وشؤون المال، وإنما كان مهيئا للخدمة العامة بعيدا عن الحسابات والأرقام وفي السنة التي توفي فيها عين عضوا بمجلس الشورى عام 1370 هـ وقد توفي في نفس العام.
ومرض الشيخ محمد لبني مرة بالقلب وأمره الطبيب بالراحة التامة فتحول منزله إلى منتدى يقصده الناس صباح مساء، وصدرا من الليل وزرته فوجدت عشرات الناس ذاهبين آتين وهو يستقبلهم ويتحدث إليهم ويجاملهم فقلت له، أن الطبيب طلب إليك البقاء في المنزل للراحة لا لتستقبل العشرات من الناس صباح مساء قال: ولكني لا أستطيع أن أمنع الناس من زيارتي وأغلق بابي دونهم وهكذا كان فقد قضى ما قضى في سرير المرض وهو مع الناس الذين أحبوه وأحبهم دون حجاب.
وكانت نهاية المرحوم الشيخ محمد جعفر لبني نهاية فاجعة إذ اصطدمت السيارة التي كانت تقله مع المرحومة والدته وابنته الصغيرة نايلة بالسيارة التي كان يستقلها المرحومون الشيخ حسني قامه والشابان فوزي عابد قزاز، ومحمد عباس سالم في الطريق بين مكة والحديبية قريبا من وادي فاطمة، وكان الاصطدام فظيعا أسفر عن موت الجميع ولم ينج من السيارة التي كان يستقلها الشيخ محمد لبني سوى السائق وباتت مكة ليلة فاجعة حزينة حيث شيعت في اليوم التالي الأربعة رجال والمرأة والطفلة وكانت مقبرة المعلاة غاصة بالمشيعين والمعزين وكانت وفاة الشيخ محمد لبني في يوم 7 رجب سنة 1370 هـ - ومن الغريب أن مولده كان في يوم 7 رجب كذلك - عن سبعة وأربعين عاما.
تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في جنات النعيم.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 190 - 194.