محمد حسن عواد
متوسط القامة معتدل الجسم أبيض اللون تشوب بياضه حمرة، له عينان واسعتان ملونتان، أجرد اللحية والعارضين، ولد بمدينة جدة عام 1320 هجرية وتلقى تعليمه بمدرسة الفلاح وبعد تخرجه منها عين أستاذا فيها، كان يرتدي الكوفية الحجازية والشال وبعد تركه العمل في مدرسة الفلاح كما يأتي بيانه أصبح يرتدي الجبة والعمامة الحجازية لفترة قصيرة وبعد انتقاله للعمل في الحكومة ارتدى العباءة العربية والعقال واستمر على ذلك إلى آخر حياته وقد ظهر تفوق العواد وبدت إشارات نجابته منذ أن كان تلميذا بالفلاح إلى أن استوى أستاذا بارزا فيها، وقد أدركته في أوائل الأربعينات وهو من أبرز مدرّسي الفلاح ومن أحب الأساتذة إلى التلاميذ وهو في ريعان شبابه وأوج فتوته، ومما تجدر الإشارة إليه أن العواد رحمه الله كان أستاذا لكثير من أدباء جدة الذين ظهرت أسماؤهم فيما بعد مثل الأساتذة حمزة شحاتة، واحمد قنديل، رحمهما الله والأستاذ محمود عارف وعباس حلواني ومحمد علي باحيدرة وخلافهم من أدباء جدة البارزين، ولست في حاجة لأن أقول إنني كنت من تلامذته في مدرسة الفلاح ووجدت من حسن رعايته وتشجيعه ما كان له أعظم الأثر في نفسي فلقد كان أول من شجعني على الكتابة إذ كان يدرس لنا مادة الانشاء - وهو الاسم الذي كان يطلق على مادةاللغة العربية في ذلك الوقت ان صح هذا التعبير، ولعل الكثيرين لا يعرفون أن أول مؤلفات العواد كان في شرح هذه المادة واسمه (الاكليل الذهبي في تعليم الانشاء العربي) وقد أهداني نسخة منه تشجيعا لي على تجويد ما أكتب وكان لهذه الجائزة أثرها الكبير في نفسي وأنا تلميذ صغير في المرحلة الابتدائية، وللعواد رحمه الله مؤلف آخر أو على الأصح مشاركة في مؤلف صغير اسمه معارضات ياليل الصب، ذلك أن العواد نظم قصيدة يعارض بها قصيدة الحصري الشهيرة
ياليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
وشجع أصدقاءه من الأدباء على نظم معارضات لهذه القصيدة وجمعت هذه المعارضات في كتيب صغير وطبعت تحت اسم معارضات ياليل الصب وأذكر أنه كان من ضمن المشاركين فيها الأساتذة محمود عارف وهو شاعر غني عن التعريف، وله دواوين مطبوعة ومحمد علي باحيدرة وعباس حلواني وغيرهم من الأدباء من تلاميذ العواد وأصدقاؤه وكان لهؤلاء الادباء منتدى صغير يجتمعون فيه مساء كل يوم للسمر والمحادثة ولكنه لم يكن منتدى أدبيا على أي حال.
بريد الحجاز
وحينما وقعت الحرب الهاشمية السعودية وتولى الملك علي بن الحسين عرش الحجاز صدرت في مدينة جدة جريدة بريد الحجاز أصدرها الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله، وكان العواد أبرز كتابها لأنه كان أبرز الأدباء في ذلك العهد وإنني أنقل هنا ما كتبته عن بريد الحجاز في الحلقة الخاصة بالمرحوم الشيخ محمد صالح نصيف مما له صلة بالأستاذ محمد حسن عواد ما يلي:
وقد وجدت عن بريد الحجاز والأستاذ محمد حسن عواد في كتاب (ابتسامات الأيام في انتصارات الامام) ما يستحق الاقتباس وهذا الكتاب هو ديوان يضم قصائد شاعر نجد الكبير الشيخ محمد عبد الله بن بليهد من عام 1337 إلى 1370 هجرية ومعظم قصائد هذا الديوان في الوقائع التاريخية التي خاضها جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز وأنجاله الكرام جلالة الملك سعود وجلالة الملك فيصل رحمهما الله والكتاب مهدى إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل، وكيل نائب جلالة ملك المملكة العربية السعودية (هذه كانت وظيفة سموه الرسمية حين طبع الكتاب) أقول جاء في هذا الكتاب في الصفحة 86 عن بريد الحجاز والأستاذ محمد حسن عواد ما نصه وقلت: وأنا في مكة مع الإمام عبد العزيز وقد وردت قصيدة لرجل من أهل جدة يقال له حسن عواد وجعل توقيعه تحت قصيدته الأخطل الأصغر فرددت على ذلك الشاعر وقلت القول اللطيف في الرد على شويعر الشريف الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده فقد ورد في بريد الحجاز الخارج من جدة من بلد الشريف علي بن الحسين قصيدة لمن سمى نفسه الأخطل الأصغر فقلت وهذا خليفة الأخطل النصراني فقال في قصيدته في رجب 1343 هجرية وهذا مطلع قصيدتهعلى الخفيف:
حدثيهم عن بأسنا يا حراب وأذقهمنكالنا يا عذاب
وأمطريهم قذائفا يا مناطيد كأن الدخان منها سحاب
إلى أن قال:
أيها المصلحون في الشرق مهلا أين إصلاحكم وأين الصواب؟
إلى آخرها وهي ثمانية وعشرون بيتا فقلت مجيبا له:
ما أصبتم وما لديكم صواب بعد ما نص في البريد كتاب
وانتبهنا لقولكم حين قلتم حدثيهم عن بأسنا يا حراب
إن هرمتم على الحروب فإنا كلما طالت الحروب شباب
والقصيدة في خمسة وخمسين بيتا ومنها في وصف الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بمدينة جدة خلال فترة الحصار.
إن ظننتم بأن سلككم اليوم عن رحى الحرب والمنون حجاب
فارقبوها من الكثيب سراعا طالعات كأنهن الهضاب
ومنها في وصف ما كان يعانيه الحجاج من فقدان الأمن:
كم أخذتم من الحجيج فلوسا طالما أزعج الحجيج النهاب
كم عنت فيهم اللصوص وأمست عندكم ما على اللصوص عقاب
انتهى نص ما نقلناه عن كتاب ابتسامات الأيام والغرض من هذا النقل هو الإشارة إلى الناحية التاريخية في الموضوع لأن هذا العهد قد انقضى والحمد لله بكل ما كان فيه واستعاضت البلاد عنه أمنا شاملا ووحدة كاملة ورخاء عظيما وهكذا نرى أن الشعر السياسي كان وسيلة من وسائل الإعلام في ذلك العهد وكان يمثله شاعران من أكبر شعراء المملكة أحدهما الأستاذ الشيخ محمد حسن عواد من أكبر شعراء الحجاز والثاني الشيخ محمد بن عبد الله بن بليهد من شعراء نجد ومؤرخيها ومن أعلم الناس بالمواقع والاثار في الجزيرة العربية وله مؤلف عظيم في هذا الباب رحمهما الله.
خواطر مصرحه
في عام 1345 هـ أصدر العواد كتاب خواطر مصرحة وهذا الكتاب أحدث ضجة عظيمة في وقته لأنه كان صريحا في معالجته للأمور التي تناولها بل نستطيع أن نقول أنه كان جريئا بصورة غير مألوفة ولقد تعرض العواد بإصدار هذا الكتاب لمشاكل كثيرة فقد عينت الحكومة لجنة للتحقيق معه فيما ورد في كتابه هذاوخاصة في مهاجمته للعلماء التقليديين الذين هزأ بهم فأكثر الهزء وكلفهم كما كلف نفسه شططا وفقد العواد بهذا الكتاب مكانته الممتازة كأستاذ ملحوظ في مدرسة الفلاح بجدة وهي أهم مدرسة في المدينة وانتقل للعمل في المدرسة الحكومية الابتدائية التي كانت شبيهة بالفلاح ولكن لم تكن لها مكانتها ولم يطل به الأمر في المدرسة الابتدائية فانتقل للعمل في مكة في شعبة الطبع والنشر ثم انتقل إلى جدة ليعمل رئيسا لكتاب المحكمة التجارية التي كان يرأسها الشيخ سليمان قابل رحمه الله وهو بهذا الانتقال أصبح يعمل في غير مجاله الصحيح وهو مجال العلم والتعليم والأدب والفكر ثم انتقل أخيرا إلى مكة المكرمة ليعمل محققا بالقسم العدلي في إدارة الأمن العام بالحميدية وبانتقاله إلى مكة أمكنه المساهمة في تحرير جريدة صوت الحجاز حين ظهورها لأول مرة فقد كان أحد رؤساء التحرير الثلاثة الذين أطلق عليهم اسم (نخبة من الشبان) وهم الأساتذة عبدالوهاب آشي ومحمد حسن فقي مد الله في حياتهما والأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله، وكانت الجريدة تصدر أسبوعية وكان كل رئيس تحرير يكتب افتتاحية أحد أعدادها ولم يستمر العمل في رئاسة تحرير الجريدة بهذا الأسلوب إلا فترة من الزمن ثم عين لها رئيس تحرير مسؤول وقبل أن نستطرد في ذكر الأعمال التي تقلدها الأستاذ العواد لابد أن نقف بعض الوقت عند كتاب (خواطر مصرحة).
لقد قلت في حلقة سابقة أننا نستطيع أن نؤرخ لظهور الأدب الحديث في الحجاز بظهور كتابي أدب الحجاز والمعرض اللذين أصدرها المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وهما مجموعة مقالات وقصائد الأدباء الحجاز في ذلك العهد وقد شارك فيهما الأستاذ عواد رحمه الله مشاركة واضحة وكذلك بظهور كتاب (خواطر مصرحة) للأستاذ محمد حسن عواد وهو كتاب مستقل بذاته وجميع هذه الكتب ظهرت في النصف الأول من الأربعينات وفي أوائل العهد السعودي عام 1345هـ ولقد كان الأدب والشعر في هذه البلاد في حالة ركود تام والأدباء الذين ظهرت بعض آثارهم من قبل كانوا ادباء تقليديين إن صح هذا التعبير فالنثر تضيع معانيه بين ثنايا السجع، والشعر تغلب عليه المحسنات البديعية التي تحفل بالمبالغات والاستحالات، والجو الأدبي يخيم عليه الركود والانحلال في هذا الوقت بدأ شباب مكة وجدة ممن تعلموا في مدارس الفلاح خاصة يفتحون عيونهم على ما تحفل به الصحف المصرية من نثر وشعر وما تنتجه المطابع العربية من ثمرات القرائح والأفكار لأدباء العرب في مصر وسوريا ولبنان بل وفي المهجر فقد كانت هناك الرابطة القلمية ولها مجلة تصدر في نيويورك وكانت تنشر آثار الأدباء السوريين واللبنانيين المهاجرين في أمريكا كما تطبع مؤلفاتهم ومن أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم.
وكانت هذه الصحف وتلك الكتب بما تحتوي عليه من أفكار وما تضمه من آثار تجد صدى عظيما في نفوس الشباب المتعطش للعلم والراغب في تجديد الحياة في جميع مجالاتها، فلما أتيح لهؤلاء الفتية من المتعلمين أن يعبروا عن رغباتهم وأفكارهم كان هذا التعبير ممثلا أولا في الكتابين اللذين أصدرهما المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وهما كتاب (أدب الحجاز والمعرض) وفي كتاب الاستاذ محمد حسن عواد (خواطر مصرحة) الذي هو موضوع هذه الحلقة، لهذا كان كتاب العواد في حينه بما حواه من أفكار جريئة مفاجأة لكل من قرأه لا في داخل البلاد وانما في خارجها ولقد اعتبره الدارسون بداية للتجديد في الادب الحجازي واستشهد به عميد الادب العربي الدكتور طه حسين رحمه الله، كما اشار إليه الكاتب العربي الكبير محب الدين الخطيب حينما ذكر أن موجة التجديد وصلت إلى الحجاز ولكنها بدأت من الشارع الخامس في نيويورك إشارة إلى ما يحفل به كتاب العواد من النثر الفني على طريقة أدباء المهجر في ذلك الزمان.
ومما أذكره عن (خواطر مصرحة) أنني اشتريت نسخة منه وأنا طالب بمدرسة الفلاح أول ظهوره وأبصر الشيخ عمر حفني رحمه الله وكيل المدرسة النسخة في يدي فسألني عنها فقلت أنها (خواطر مصرحة) قال وهل تريد ان تقرأه؟ قلت: نعم قال: لا تقرأه قلت ولكنه لأستاذنا العواد قال: ولو، إنه كتاب سيئ ولكن هذا النهي لم يزدني إلا إصرارا على قراءة الكتاب والاحتفاظ به ولا يزال عندي حتى اليوم، كما أذكر أن أستاذنا الشيخ حسين مطر مدير مدرسة الفلاح رحمه الله ألقى كلمة في الطلاب بعد صلاة الظهر حين ذاك قال فيها ما معناه أن محمد حسن عواد كان تاجا على رأس المدرسة ولكنه بعد أن أصدر كتاب (خواطر مصرحة) فقد مكانته فيها، ولست في حاجة لأن اقول أن كل هذا العداء لم يزد العواد إلا إصرارا على موقفه وتصلبا في آرائه، فقد كان عنيدا لا يتراجع ولو وقف الجميع ضده، والواقع أننا لو أردنا تقييم الكتاب بمحتواه بعيدا عن الظروف التي شرحناها لوجدنا أنه عبارة عن مجموعة مقالات تدعو إلى الإصلاح وإلى التجديد في كل شيء ولكن بعضها ينتهج أسلوبا جارحا في التعبير وخاصة في تلك المقالة التي يوجهها إلى العلماء وكان من الممكن التعبير عن هذه الأفكار بأسلوب أكثر هدوءا وأقل اندفاعا، ولكن الكتاب كما قلنا كان مفاجأة مذهلة للناس فاستحق أن يدخل التاريخ إيذانا بابتداء حركة التجديد في الادب في الحجاز مع ما سبقه من كتابي (أدب الحجاز والمعرض) وما تلاهما من ظهور جريدة صوت الحجاز التي كانت تعبيرا مستمرا عن هذا الأدب لسنوات طويلة فيا بعد.
ولقد أصدر العواد بعد ذلك الجزء الثاني من (خواطر مصرحة) عام 1380 فمرت الخواطر دون أن يشعر بها أحد ذلك أن ما كتبه العواد في عام1346 هـ كان جديدا على الناس وجريئا في ذلك الزمن، أما ما جاء بعد ذلك فقد أصبح أمرا عاديا ومألوفا ولكل زمان حكمه، وقد كان حظ العواد في الخواطر الأولى هو فضل السبق والجرأة فاستحق بذلك أن يدخل التاريخ كأديب مجدد رائد شجاع.
المعارك الأدبية
خاض العواد معارك أدبية كثيرة سنتحدث عن أبرزها إكمالا لتصوير شخصيته الأدبية ومن أبرز هذه المعارك معركته مع الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل فقد أصدر الأستاذ عبد القدوس قصة بعنوان (التوأمان) لعلها أول ما طبع له من آثار - وانتقد العواد القصة نقدا لاذعا ورد عليه عبدالقدوس واستمرت المعركة بينهما بعض الوقت كما أن له معركة أخرى مع المرحوم الشيخ حسين باسلامة مؤلف كتاب (سيد العرب) وبعض الكتب عن تاريخ مكة والمسجد الحرام كما أن له معارك أخرى مع الأستاذ حمد الجاسر والأستاذ عبد العزيز الربيع وغيرهم ولكن أهم معاركه الأدبية هي معركته مع الأستاذ حمزة شحاتة رحمهما الله وإنني أستمد الآن من الذاكرة ما أعرفه عن خفايا هذه المعركة التي استمرت شهورا طويلة والتي كانت معركة شعرية رمزية ثم انتهت نهاية سيئة مؤسفة.
كان العواد محققا بالقسم العدلي بإدارة الأمن العام في مكة المكرمة وكان المرحوم الأستاذ طلعت وفا رئيس القسم العدلي صديقا حميما للأستاذ حمزة شحاتة وكان حمزة دائم الشكوى من العواد ينتقد تصرفاته وأعماله وأحب طلعت وفا أن يجمع بين الأدبين الكبيرين لإصلاح ذات البين وتصفية النفوس فاجتمعا وكنت أنا وطلعت نحضر هذا الاجتماع بمنزله في أجياد وطال النقاش وكنت آمل كما كان الأستاذ طلعت وفا يأمل أن ينتهي الاجتماع بالوفاق خاصة وأن العواد هو أستاذ حمزة شحاتة ولكن حمزة غفر الله له هاجمه مهاجمة شديدة جارحة وانتهى الاجتماع بالقطيعة بل أسفر عن خصام شديد وإني لأذكر أني عاتبت حمزة رحمه الله بعد ذلك وأوضحت له أنه كان قاسيا في هجومه على العواد وأنه استباح في مهاجمته مالا يستباح فاعترف حمزة بذلك ولكنه كان عنيدا وبدأت المعركة بقصيدة أو على الأصح بقصائد شعرية ينظمها حمزة ويرد عليها العواد وكانت قصائد طويلة تنشر جميعها في جريدة صوت الحجاز وكان الناس يترقبونها كل اسبوع، وكانت الجريدة أسبوعية في ذلك الوقت وكان حمزة قد اتخذ اسم الليل رمزا له في هذه المعركة ثم تحول فيما بعد إلى العاصف إن لم تخني الذاكرة أما العواد فكان الساحر العظيم هو الرمز الذي اختاره لنفسه، من الناحية الفنية كانت هذه القصائد كسبا للأدب لأنها جاءت في اسلوب فني لشاعرين من أكبر الشعراء في ذلك الزمان في البلاد كما كانت مجالا للنقاش المستمر بين الأدباء والقارئين، ولو أن المعركة اقتصرت على هذا الحد لكان ذلك حسنا ولكنها تطورت للأسف الشديد إلى مهاجاة مقذعة تناول فيها كل صاحبه تناولا سيئا حتى وصل إلى الأعراض واستباح ما لا يستباح وكانت هذه المهاجاة لا تنشر في صوت الحجاز لأنها لم تكن صالحة للنشر بما حوته من فحش القول وجارح التعبير ولكن هذه القصائد كانت تكتب باليد على نسخ متعددة وتوزع في أماكن تجمعات الناس في مكة وقد جرّت المهاجاة بين حمزة والعواد إلى دخول شاعرين آخرين فيها وهما الأستاذ الشاعر أحمد قنديل رحمه الله مساعدا لصديقه حمزة شحاتة ومدافعا عنه، والاستاذ الشاعر محمود عارف مساعدا ومدافعا عن أستاذه محمد حسن عواد ولم يكف كلاهما عن هذه المهاجاة إلا بعد ان اتسع نطاق توزيع هذه القصائد الهجائية وخشي الطرفان أن تجر عليهما الجرائر فطويا تلك الصفحة السوداء وحسنا فعلا وقد اعتذر العواد فيما بعد لحمزة بمقطوعة بعنوان (عتاب) منشورة في ديوانه نحو كيان جديد في صفحة (175) فليرجع إليها من أراد.
العواد وشوقي
ومما يدخل في باب المعارك الأدبية للعواد وإن لم تكن معركة أدبية حقيقية لأنها من طرف واحد إذا صح هذا التعبير هو تعريض العواد بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله ومحاولة إظهاره بمظهر المقلد المسفّ حتى إنه بلغ من تعصبه في هذا المجال أنه رحب بظهور ديوان شاعرة سعودية هي الآنسة (ثريا قابل) وقيّم شعرها حتى فضلها على أحمد شوقي أمير الشعراء ولست في حاجة إلى القول أن ثريا قابل نفسها قد فوجئت كما فوجئ الناس جميعا بآراء العواد رحمه الله فيها وفي شوقي معا ولكن العواد كان عنيدا كما أسلفنا وكان معجبا شديد الإعجاب بالعقاد رحمه الله ولكل ما أنتج من شعر ونثر وكان العقاد خصما عنيدا لشوقي فاندفع العواد في مهاجمة شوقي متأثرا بآراء العقاد فيما أُقدّر لأنني لم اجد مبررا واحداً لموقف العواد من شوقي بعد وفاته وهو أكبر شعراء العصر ومن القمم البارزة في تاريخ الشعر العربي على امتداد العصور خاصة وأن العواد قد رثى شوقي حين مات وإن كان هذا الرثاء لم يسلم من التعريض به إلا أنه كان ظاهر التقدير له ولشعره ومن المهم أن نقول أن المعركة التي افتعلها العواد إنما جاءت بعد وفاة شوقي بزمن طويل.
النادي الأدبي
عرف الناس المرحوم الأستاذ محمد حسن عواد رئيسا للنادي الأدبي بجدة والذي تم تأسيسه مع بقية النوادي الأدبية في المملكة ولكن أول نادي ادبي أسس بجدة كان في أوائل الخمسينات وكان العواد أبرز أعضائه وقد كتبت عن هذا النادي في حلقة سابقة ونوجز الحديث هنا عنه مرة أخرى لعلاقة المرحوم العواد به فنقول إنه فكر جماعة من الشباب المتعلم في مدينة جدة في تأسيس نادٍ أدبى وتقدموا للحكومة بطلب الترخيص لهذا النادي في أوائل الخمسينات ولكنهم باشروا نشاطهم فيه قبل أن يتلقوا الإذن بافتتاحه وكان من أعضائه المرحومين عبد العزيز جميل وإبراهيم وصالح إسلام وحمزة شحاتة، والشيخ حسن أبو الحمايل ویونس سلامة وأنيس جمجوم وغيرهم وكان كاتب هذه السطور أصغر أعضاء النادي في ذلك الحين كما كان العواد أبرز شخصية في النادي لأنه كان أستاذاً لمعظم الأعضاء باستثناء الشيخ حسن أبو الحمايل الذي كان يدرس مادة الفقه في الفلاح وهو أسن من المرحوم الأستاذ عواد وكان هذا النادي يتخذ له مقرا في دار المرحوم الشيخ عبدالعزيز جميل بحارة اليمن ثم انتقل إلى دار المرحوم الشيخ صالح إسلام بجوار مسجد المعمار وكانت تلقى فيه قصائد أدبية ومقالات وقصص وكان نشاط النادي اجتماعيا وأدبيا ولكن النادي لم يستمر ولم توافق الحكومة على الإذن بتأسيسه في ذلك الوقت لظروف شرحناها في حلقة سابقة وإني لأذكر للعواد قصيدة حيا بها النادي في ذلك الوقت وكان مطلعها:
إلى عصبة النادي ولليل هدأة وللفكر في هذا الهدوء تبتل
تحية مملوء الجوانح غبطة علما بأن ضم فيكم عنصر متحلل
ومنها إن لم تخني الذاكرة:
ويارب شيخ جلل الشيب رأسه ينازعه العليا فتـى متدلل
والقصيدة طويلة ولم أجدها منشورة ضمن ما نشر من شعره ولعلها مطوية بين ما ترك من أوراق رحمه الله.
الأديب الرائد
العواد أديب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى فهو شاعر مبدع وكاتب فنان وقد ذكرنا أنه وزملاءه من الرعيل الأول الذين ظهرت آثارهم في كتابي (أدب الحجاز والمعرض) كانوا هم النواة الأولى لظهور الأدب الحديث في الحجاز قبل أكثر من نصف قرن ويحتل العواد بين هذه الكوكبة الأولى من الأدباء والشعراء مكانة بارزة عظيمة بإصداره أولا كتاب (خواطر مصرحة) وباستمراره في العمل الأدبي منذ نشأته إلى أن فارق هذه الحياة والمتأمل لبواكير العواد الأولى من شعر ونثر يرى معالم التجديد في الأسلوب وفي الأفكار معا واضحة وكأنها تشير إلى الطريق فهو من المعالم البارزة في التاريخ الأدبي في الحجاز وهو بهذا يعتبر رائدا من أوائل الرواد ومن أعظمهم أثرا فقد اقتدى به الجيل الجديد من الأدباء والشعراء وكان العواد كما ذكرنا أستاذا لكثير منهم ولئن تميز كل منهم فيما بعد بشخصيته وبأسلوبه الخاص فإن ذلك لن ينقص من مكانة الأستاذ الرائد العظيم ولقد عرفت العواد رحمه الله كما عرفه الكثيرون يشجع الأدباء الناشئين ويأخذ بيدهم ويبصرهم بمواضع النقص ليتفادوه، وبجوانب الإجادة حتى يصلوا إلى الإبداع وقد احتفظ العواد بمميزات شخصيته الأدبية طوال حياته ولم يقتصر في تشجيعه للكتاب من الشباب وإنما كان من أوائل الرجال الذين شجعوا الفتاة وكرموا إنتاجها وهللوا لتعليمها ولقد عني بتعليم ابنته الوحيدة السيدة نجاة حسن عواد فكانت من أوائل المتعلمات وكان برنامجها الناجح في الإذاعة السعودية (البيت السعيد) يشير إلى ما بذله العواد لكريمته الوحيدة من علم وتهذيب ولعله هو الذي أطلق على المرأة اسم الجنس العطوف بدلا من الجنس اللطيف والعواد بهذا يشير إلى ما فطرت عليه المرأة من رقة وعطف أما وزوجة وأختاً وبنتا.
مُؤلفات العواد الأخرى
وللعواد مؤلفات أخرى نثرية أهمها كتابه عن سليمان بن عبدالملك وكتاب تأملات في الأدب والحياة وأخيرا كتابه الطريق إلى موسيقى الشعر الخارجية ولم تتيسر هذه الكتب لي وأنا أكتب عنه ولم أرغب تأخير الكتابة إلى أن تصلني بقية مؤلفاته فإني مازلت ألوم نفسي على التأخير والرجل له علي فضل الأستاذ وحق الصديق وإني لأرجو أن يكون فما كتبته عن الخواطر ما يؤدي بعض حقه علي، وللذين يدرسون أدب العواد أن يقرأوا جميع ما كتب وما أنتج لتكون دراستهم أوفى وأكمل ولعله من المستحسن أن نذكر هنا أن العواد كان يكتب باسم مستعار وهو (اريج نسرين) ولعل كثيرا من إنتاجه في الصحف يحمل هذا التوقيع.
العواد الشاعر
العواد شاعر مبدع وقد مارس نظم الشعر هواية إن صح هذا التعبير في سن مبكرة يقول هو أنها بدأت وهو في الحادية عشرة من العمر واستمرت إلى آخر العمر وقد بدأ شاعرا مكثرا وانتهى إلى الاقتصاد بعد أن علت به السن وقد جمع العواد شعره في ديوانين كبيرين حرص فيهما على إعطاء اسم معين لكل فترة من فترات العمر فالفترة الأولى من الحادية عشرة إلى العشرين (آماس وأطلاس) وألحقها فيما بعد بالبراعم وهي امتداد للآماس والأطلاس (ونحو كيان جديد) وهذه تمثل الفترة الثانية فترة الرجولة والنضج ويمكن أن تكون ما بعد العشرين إلى الأربعين أو ما قبلها، (والساحر العظيم) وهو مجموعة القصائد التي نظمها إبان المعركة التي نشبت بينه وبين الشاعر الراحل الأستاذ حمزة شحاتة واستعرض فيها العواد كل المعارك الأدبية التي خاضها وقد طبعها العواد عام 1372هـ وإن كنت أعرف أن هذه المعركة كانت في النصف الأول من الستينات، (وفي الأفق الملتهب) ولعلها تمثل شعره ما بين الأربعين إلى الخمسين.
والصورة التي يخرج بها القارئ لهذه المجموعة الضخمة التي تضم هذهالدواوين كلها أو الصورة التي خرجت بها من هذه القراءة بعد أن غادرنا العواد إلى رحاب الله هي صورة الانسان الثائر على الجمود الراغب في التجديد والإصلاح، الواقف بالمرصاد لخصومه ونقاده العنيف في خصومته المسفّه لآراء نقاده الذاهب بنفسه كل مذهب، فالعواد الشاعر هو العواد الكاتب الذي عرفناه في (خواطره المصرحة) ثائرا مجددا عنيفا مسرفا على نفسه وعلى خصومه سواء اكان هؤلاء الخصوم من الأدباء أو من غيرهم من الناس وعندي أن العواد كان مخلصا في التعبير عن نفسه أخلص التعبير وأصدقه والصدق في التعبير عن النفس بعواطفها وأفكارها وشعورها هو أعظم مقومات الأديب، وكماله إنما يكون بالإبداع الفني في صياغة هذا التعبير سواء أكان ذلك شعرا أو نثرا والعواد كان أديبا مفتنا استوت له هذه الصياغة في مختلف شكولها فكان كاتبا مبدعا وشاعرا عظيما ولنحاول الآن إعطاء بعض النماذج عن هذا الذي وصفناه فيما مضى من سطور.
القلم المكسور
يقول العواد في ديوانه الأول آماس وأطلاس:
قد كسرت القلما وهجرت الكلما
وتطرفت إلى ان جفوت الحكما
اذ ارى في امتي فشلافيما نما
يا بني قومي أما آن أن نرقى أما
فابعثوها يقظة تقلب الأرض سما
نحو النور
ويقول في نفس الديوان:
أفلا زحام على الحياة ولا اقتحام حتى متى قواد فكرتنا نیام
هبوا معا نعني بفوضى الاجتماع حكماءنا خطباءنا كتابنا شعراءنـــا
لا تهملوا مرضا ألم بنا سنين
داووا الحياة وبرروا علل الصراع سلُّوا اليراع، ودعوا النزاع
نشأة
وفي ديوان البراعم يقول:
يا صديقي إليك نشأة رهط هيجوا شعبهم وما أصلحوه
أدباء سماهم الناس والنا س اذ عَنَّ حادث كبَّروه
ومنها يقول عن نفسه بعد أن استعرض الشعراء القدامى أبو فراس وزهير والأدباء المحدثين الزملاء، البيارى والفدا والعمودي ومحمد.
وسأسمـــو غدا بأروع مما راح يسموبه ولم يهضموه
رافعا راية الجديد من الفكر فقد ضقت بالذي رسموه
سوف أملى على الجميع احترامي واعترافا يا طالما همسوه
فأزجّي خواطري والخليون نیام ومطمعي عرفوه
وليدوروا السنين حول التخاميس وتقليد كل ماسموه
ومنها
ليس بالمعرض الرتيب ولا صورة ما سطروه أو حفظوه
لا ولكنه شعور وأفكار حرار تسود ماكتبوه
ومنها
وتدوي في الجيل ثم تدوي في الذي بعدهومن يتلوه
والعواد يذكر أن هذه القطعة نظمت قبیل إصدار الخواطر وبعد ظهور كتاب المعرض الذي أشار إليه العواد وانتقد المشتركين فيه وهو أحدهم وقد ظهر المعرضعام 1345هـ كما أن الخواطر ظهرت في نفس العام وليس من شأننا التحقيق في التواريخ وإنما الغرض هو الإشارة إلى ما ستحدثه الخواطر من ضجيج بعد ظهورها وقد أثبتت الأيام صحة هذا الشعور.
داعي الوئام
وفي البراعم قصيدة حيا بها الشاعر جريدة بريد الحجاز التي أسلفنا الحديث عنها والتي كان هو أبرز كتابها بل وشعرائها ومطلعها:
صاح حي الرقي حي السلاما حي داعي الوئام حي الوئاما
حي عصر النهوض حي التعالي حي بالمجد أمة تتسامى
ومنها
قد حرمنا حرية العقل عصرا وحرمنا حتى حرمنا الكلاما
طال عهد السكوت حتى مللنا وأردنا أن نكسر الأقلاما
ومنها
طال سجن اليراع والآن يبغي أن يرى في فم الزمان ابتساما
ومنها
طال عهد السكوت حتى حسبنا أن هذي الحياة عادت مناما
المثل الأعلى
وفي قصيدة المثل الأعلى وهي من عيون شعر العواد يقول:
يا حبيبي أبدا في كل ظرف يتحور في ضجيج الصبح في همس المساء الهادي في غمار الجد في سعي الحياة الهازئي ..... انت في العين وفي القلب مصور غير منسي
ومنها:
ولنجاوز مسخاً تمعن في الاسفاف في هذا الكفاح
ولنمايز بين من يفعل مخفياً وذي الفعال الصراح
ولنساير روعة الدنيا بأقدام الجريئ
ولنعضد محسن الأمر ونرثى للمسيء
رَثاء عبد الله حمدوه
رثى العواد الشيخ عبد الله حمدوه مدير مدرسة الفلاح بمكة المكرمة حين توفي بقصيدة مطلعها
وقارك لا يزجي الوقار منونا حقيق بأن يندى عليك عيونا
أأرثيك شيخ النشء والنشء كله يذرف دمعا في رداك هتونا
ومنها:
وربة يومثرت فيه فخلتني أداجيك رأيا او أنيلك لينا
فألفيت مني عارفا حق رأيه عزوما فصافحت العزوم ضنينا
وأذهلك الحق المبين على فم لا تؤمل منه لثــم كفـك هونا
وذي شرعة السبعين فيمن تزمتوا تصب على رأس الشيبة دينا
يد الفن تحطم أصنام الاتباع (أو الساحر العظيم)
نظم العواد قصيدته الكبرى الساحر العظيم في أكثر من خمسمائة بيت وأفرد لها جزءا خاصا من ديوانه وهي تمثل الخصومة الشعرية الكبرى التي نشبت بينه الأديب الراحل الأستاذ حمزة شحاتة كما أسلفنا ولم يكتف العواد في الساحر العظيم بحمزة وإنما تعرض لكل من جرت بينه وبينهم معارك أدبيه مثل المرحومين أحمد قنديل والشيخ حسين باسلامه مؤلف كتاب سيد العرب والأستاذ عبد القدوس الأنصارى مدَّ الله في حياته وغيرهم وقد رمز العواد لكل منهم برمز معين وحسنا فعل وليس هنا مجال الفصل بين حمزة والعواد رحمهما الله وإنما يترك ذلك للدارسين وبعد أن تظهر إلى النور آثار المرحوم حمزة شحاتة التي لم تطبع حتى الآن لتكون المقارنة ويكون الحكم ومطلع القصيدة أو الملحمة الكبرى هو:
عشق الخلد طامحا نزاعا فامتطى فنه إليه طماعا
شاعر فنه يحلق بالفكر إلى عالم أشد ارتفاعا
ومنها في وصف هذا الشاعر الذي هو العواد نفسه.
وإذا قصَّ فالشخوص تناجيك عيانا كان تحس رئيا
فتری أسطرا تفيض حياة كل لفظتخاله آدمیا
ومنها
لم يكن ساحرا كما يفهم الدهماء لكنه تدفق نورا
وهو فن علمته انت إياه فسبحانك العليم الخبيرا
وفيها يصف خصومه:
ان آثارهم ثغاء شياه تبصر الذئب وانذر دجاج
هم على ما ترى وتعلم منهم أدباء قد ركبوا من عجاج
ومنها وهي من أجمل مقطوعات القصيدة:
وانجلى الأمر عن خميلة زهر وإذا شئت فهي روض أنيق
أبدعته من الحياة يد الفن فذا هائل وذاك رشيق
غرسته أنامل الشاعر الفذ فغرس باهر ودوح سحيق
لا تقل إنها ورود ففيها الشوك في كل خطوة مطروق
ومنها
الغروب الجميل يلبسه الزهر ويكسوه بالبهاء الشروق
فإذا الشمس في الغداة اطلت فالحبيب المسلم المعشوق
وإذا ودعت أصيلا فحفل باهر فيه نشوة وغبوق
ونكتفي بهذا القدر من النماذج التي أوردناها والتي تصور العواد الثائر العنيف والفنان المبدع العظيم لنتحدث عن جوانب أخرى من هذا الشاعر العظيم المتعدد الجوانب.
الشؤون العامة
عني العواد بالشؤون العامة إن صح هذا التعبير لا لبلاده فحسب وإنما للبلاد العربية كلها وقد بدأ عنف العواد ضد التأخر والجمود والتزمت ثم تحول بعد ذلك إلى عنف مع الخصوم الذين وقفوا في سبيله مصلحا مجددا ثم إلى الخصوم من الشعراء والنقاد الذين عاصرهم واتصلت أسبابه بأسبابهم يقول العواد في قصيدة يودع فيها الملك الشريف الحسين بن علي بعد أن ترك العرش عام1242 هـ والعواد في أوائل العشرينات والقصيدة بعنوان.
وخز الضمير
يا مالك الملك إليك المآب ما الملك في ملكك إلا سراب
يا صاحبي يا خدمـي يا أولي الشأن بملكي واللظى والحراب
حسبي عذابا أنني سامع صوتا من الداخل حسبي عذاب
ومنها:
دعوني الداهي في أمة لا تعرف السواس الاصعاب.
أهالت الألقاب لي ضخمة فأورمت أنفي وذاك المصاب
فخلت نفسي في ربا مكة هرون بغداد رفيع الجناب
ولم أقدر أنني خادم للشعب والشعب دقيق الحساب
ومنها:
عاهدت جونبول ولكنه لم يرع عهدى ما أمر الخلاب
وكان جيراني أولى بأن أوليهم العهد وعون الصحاب
ومنها:
والحكم عندي تابع للهوى أساسه رجراجة كالسحاب
شوری أمام الناس لكنها ابعد عن نهج الصواب
مجلسها مستبعدزائف أصنامه مركوزة لا تهاب
ليس لها رأي ولا حرمة تلحظ او حرية تستجاب
وللعواد قصيدة أخرى بعنوان:
متى نرتقي المجد الصريح المخلدا ونكتب في التاريخ فخرا مؤبدا
متى نملك الشـأو الرفيع جلالة ونرمي إلى العلياء سهما مسددا؟
أنبغي المعالي بالتقاعس ضلة ونطلب عزا في الخليقة رُقدا
ومنها:
أرونا نهوضـا واتركوا اللهو واكتبوا على صفحات العصر ذكرا مؤبدا
ولا تتوانوا إن سمعتم مقالة يرددها الشاني وقولا مفنّدا
يفيض على الأسماع والسمع مطرق محاسن أوروبا ويطرى مرددا
ويوحي إلينا أن للغرب عزة تربع منها هامة النجم مقعدا
ومنها:
فما ولد الغربي في الكون راقيا وما ومـا ولـد الغربي في الكون سيدا
وما هو إلا الجد من حاك خيطه تناول عن بعد سماكا وفرقدا
والعواد شاعر وحدوي نادى بوحدة العرب من المحيط إلى الخليج وقد حيا بعثة الكشافة العراقية التي قدمت للحج بقصيدة تلمس فيها هذه المعاني واضحة جلية
إلى الكشافة العراقية
للنديد النبيل عند النديد كل ما للعقيد عند العقيد
ومنها:
إن في فكرة التآخي لإرهاصا يرينا قرب النهوض الأكيد
ولهذا شعارنا في بلاد العرب هذا دينالإخاء الوطيد
لا حجاز لا سوريا لا عراق لا ولا نجد في رضى التوحيد
إنما أمة كبيرة آمال أجسام عدوة التبدید
شعب حق مسترجع عربي واحد سيره عريق الجدود
إن تنادي فإنما يتنادى بمعد في تاجه المعقود
ومن المهم أن نذكر أن هذه القصيدة إنما نظمت قبل أن تنال معظم البلاد العربية استقلالها فقد كان العراق ومصر وفلسطين والأردن تحت الحكم البريطاني كما كانت سوريا ولبنان والمغرب والجزائر تحت الحكم الفرنسي وليبيا تحت الحكم الإيطالي وللعواد قصيدة أقدم من هذه في وحدة العرب تعود إلى منتصف الأربعينات ومطلعها.
وحدة العرب
عرب الجزيرة كم تكون سعيدة هذي الحياة بوحدة الأبعاد
تتوحد الأشتات في مجموعها ويعزز المجموع بالأفراد
فيقوم من بردى إلى صنعائها أمل يرن صداه في الأبعاد
ومن القصيم إلى ربى غرناطة تبنى الحياة عميقة الأوتاد
كفاح الجزائر المقدس
وللعواد قصيدة في كفاح الجزائر من أجمل الشعر ومطلعها
روعة الوثبة في همس الحراب في بنيك الصيد يا آساد غاب
أو على البيض الرقيقات الحرائر فعلى اسم الله سيري يا جزائر
ومنها:
هذه الأمة من أين أتاها ذلك الايمان في كل خطاها
شیخها يكرع منه وفتاها أنه دين كفاح وحميه
وتباشير حياة عربية فعلى اسم الله سيري يا جزائر
وللعواد قصيدة أخرى بعنوان قوميتي
أحب الجزيرة والموطنا ومستقبل العرب أن يعلنا
أحب الحجاز أحب السراة مدار العروبة أصل المنا
ونجدا وإحساءها والعسير وحائل واليمن الأيمنا
أحب العراق أحب الشآم ومصر ولبنان والاردنا
وقد استعرض فيها العواد أسماء البلاد العربية جميعها ولا يتسع المقام لأكثر مما أوردناه عن شعره الوطني في الشؤون العامة فلننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب هذه الشخصية الفذة.
الشعر الروحي
للعواد قصائد في الرسول الأعظم صور فيه شعوره حينما زار المدينة المنورة كما صور في قصيدة أخرى قصة التجائه صلى الله عليه وسلم والصديق الأكبر إلى غار ثور وقصيدة بعنوان النبي في شعور الدهر وغيرها من القصائد الروحية ونكتفي بأن نورد بعض المقاطع من هذه القصائد كنماذج على الشعر الروحي
الغار
في ذات أمسية لئيمة إبليس أودعها سمومه
جمعت قريش أمرها لا حبذا هي من سخية
فتجمهرت للكيد والشيطا ن يلهمها علومه
فكأنما هو مأتم دام ومعركة أثيمة
وبعد أن يصف اثتمار قريش بالرسول الأعظم وتبييتهم أمر القتل وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار وخشية الصديق على الرسول مما قد يكون في الغار من الأخطار وتثبيت النبي الأعظم صديقه ورفيقه يقول بعد ذلك:
ولشد ما أتت السكينة فاستحال الغار أفـقا
وتبدلت أمنا مخافة من تجهمه فرقا
ورأى السماء تكاد تحتضن الثرى حدبا ورفقا
وإذا السماء تكفلت بالأرض فالنزعات غرقى
فمن السكينة كان منبثقا روح السلام على الإلى غبروا
وبها يعود بروعة دعيت في الأرض إسلاما سينتشر
وفي قصيدة النور يقول العواد في المطلع
دافق النور رحمة وسلاما ومنمسيه عزة ووئاما
فاعتنقناه يقظة وسموا وعقلناه حكمة ونظاما
ومنها
لست ربا كما يبالغ بعض الناس لا لست ربا
أنت ألغيت كل رب سوى الله وأضرمتها على الشرك حربا
أنت حطمت كل رب على الأرض دعى مشى إلى الطفولة دربا
فنشرت التوحيد في الناس يمشي ثورة في النهــى وعــدلا وحبا
وسلاما ورحمة ومساواة وعطفا على الضعاف وقربى
ونكتفي بهذا القدر من الشعر الروحي لنتحدث قليلا عن الشعر الفلسفي بل الشعر الفكري فهذا هو التعبير الأدق عما سنعرضه من نماذج لأنه إنما يتحدث عما يجول في ذهن الشاعر من أفكار وما يراود خياله إزاء أحوال الحياة ومظاهر الكون، والفلسفة هي كما هو معروف لا تكتفي بالتعبير ولكنها تبحث كذلك عن التعليل وتخرج منه بمذهب متكامل والعواد لم يكن فيلسوفا ولكنه كان مفكرا وحسب وحينما يقف أمام التناقض الذي يظهر في الحياة أو الذي يراه هو تناقضا ينتهي إلى التسليم والإيمان، فهو إذاً مفكر مسلم، والفلسفة لا تعترف بالتسليم وإنما تخترع المذاهب ولهذا كان الضلال
سر الطبيعة والحياة
يقول العواد في قصيدة بهذا العنوان
لم هذي الرياح تدوي شمالا وجنوبا تفرق الأمطار
لم ذا البحر في هدوء إذا شاء وإن شاء أرسل التيارا
لم في البحر بَعدُ جزرٌ ومدٌ يتبع البدر تارة والسرارا
لم تسري سيارة الأرض حول الشمس دابة السرى ادهارا
لم هذي الأجرام تشرق ليلا لم ذا الشمس تبهر الأبصارا
ومنها
لم نحيا على البسيطة جبرا ونعيش السنين فيها حياري
ولم الموت والحياة بكره يسلب النفس عزة واقتدارا
ومنها
نحن كالأولين نحيا دواليك ويحيا من بعدنا أعـمارا
وتدور الحياة والشمس والأقمار والليل والنهار بـدارا
وسيبقى سر الحياة معمى وستلقى العقول بعد خمارا
ولكن الشاعر سينتهي إلى الايمان فيقول:
رب آمنت أنك القادر الفرد ملكت الظلام والأنوارا
ونهانا نار الحباحب في الليل وأوهى من الحباحب نارا
وللعواد قصيدة أخرى في هذا المعنى يقول فيها:
يا ليل كم سامرت أنجمك الصماء تحكي العقد منتثرا
درر تفوق الدر حيث بها معنى الحياة يشع منبهرا
وألِتُّ أسألها وما برحت تعطي الجواب أغف مختصرا
لا تستطيع إبانة وكذا حملا تحلو الحياة لطالب أثرا
وينتهي في هذه المرة إلى أن هذا الغموض هو الذي يعطي للحياة سحرها فلو كان كل شيء واضحا لغدت الحياة تافهة رتيبة:
لو كان ما في الكون متضحا كل الوضوح لما غدا صورا
وغدت حياة الناس تافهة وغدا الخيال العذب محتقرا
كم في الحياة مظاهر عجب تقضي وتمنع كلها الوطرا
ومفاتن شتى منوعة ووراءها المعنى قد استترا
ونكتفي بهذا القدر من أفكار العواد الشعرية رغم كثرة ما يمكن الاستشهاد به في كل باب لأن نفس الحديث قد طال أكثر مما كنت أتوقع ولنتحدث الآن عن لمحة من شعر العواد في الغزل.
شعر الغزل
لعلي أفاجئ القارئ كما فوجئت أنا برأيي في غزل العواد فالوصف الغزلي عند العواد هو وصف حسي لم يخرج فيه عما فعله القدامى الذين نقدهم فأوسعهم نقدا بعد أن بليت عظامهم في الثرى ولا تعليل عندي لهذا إلا لأن العواد شاعر فكر أكثر منه شاعر عاطفة، كما أنه يذهب بنفسه كل مذهب فإذا كانت المرأة تملك مفاتن الجسم فإنه هو يملك مفاتن العقل وجرأة الرأي وليس هذا الادلال بالنفس من الغزل في شيء وليس المحب من يذكر محاسنه وإنما الأديب هو الذي يدع هذه المحاسن تتحدث عن نفسها حتى يلمسها المحب فيتحدث عنها يقول العواد في قصيدة بعنوان:
الروض الضائع
شاقني الروض فانجذبت إليه ساعة وانتجعت أطلب ظلا
فسبتني زهوره والأفانين التي حولها غدتتتدلى
وتذكرت من غدائرك السود انسيابا يرى بهن وشكلا
وتذكرت من لواحظك الذبل إرسالها إلى القلب نبلا
ومنها:
وتذكرت من قوامك ذاك الهيف الرائع المدِلَّ المذلا
ومن الوجنتين ما يرسل الحمرة من ذلكالشعاع المحلى
ومن المقلتين ما يخجل النرجس فيه إذا بدا يتجلى
فهذا الوصف الحسي لم يخرج عما وصف به المرأة قدامى الشعراء ولقد كان المنتظر من العواد الشاعر المجدد أن يكون في شعره الغزلي ذلك الوهج الذي يحس به القارئ لذع العاطفة وتوهجها ودفق الشعور في خفقات القلب والوجدان ولكن العواد على أي حال ينتهي في هذه القصيدة إلى نهاية شعرية جميلة فيقول:
فتلفت باحثا فاذا الروض على ذكريات حسنك ولى
ضاع مني فلست أبصر ما فيه من المغريات إلا الأقلا
وأمحى كالخيال إذا اخذ الواقع منه مكان ما هو أولى
أنست يا من أحسب روضي وهل ما فيك في الروض؟ لا وربك كلا
يد عبقرية تهب الحب
ويقول في مقطوعة أخرى:
غرام سحقناه فقدرت عهده وآخر قد وافى فلله مجده
فمرحى لذا الحب الجديد ومرحبا ولا دَر درُّ الذاهب الصعب رده
وما هكذا يناجي الحبيب الذاهب، ولا الغرام الماضي، لكأن العواد يتحدث عن خصم من خصوم أفكاره أو ناقد من نقاد شعره وأدبه، أين القلب وإحساسه إزاء ما مضى، وأين آثار ما بقي ويقول بعد ذلك
فلم يدر دارٍ حينما حل مهجتي أيعبد روحي أم هو الروح عبده
فيا مشعلا مني شبابا أجله وممتلكا مني فؤادا أعده
ومتخذا عندي يدا عبقرية بعثت بها حبا طفقت تمده
هنيئا لك القلب الذي منك نوره وتعسا لحقد كان والتعس بعده
ونختتم الحديث عن شعر الغزل بقصيدة من أجمل ما نظم العواد في الغزل رغم ما فيها من الإدلال بنفسه إلا أنها تستحق الإشادة والتسجيل، فقد تجافى فيها عن الوصف الحسي وتسامح مع المحبوب في خطئه النحوي بل وجاراه فيه وهي عندي من أجمل ما نظم العواد في الغزل.
يا هاجري واجلُّ حسنك ان تبتلى بالهجر خدنك
لطعنتني بالكبرياء على الهوى وأجدت طعنك
ومنها
أفذاكر أنت العهود الغابرات وما أفدنك
أفذاكر أني أبحتك قلبـي الفد المحنك
وأبحتني ما لا تبيح … من الغرام ولن أظنك
ومنها
وأقول والبسمات في فمك … الجميل تبين سنك
ممن تعلمت العناد … منسقا فتقول منك
لحن قهرت به صحيح … اللفظ ما أن شان حسنك
فن تتبه به على الفن … القوى فديت فنك
فجررتني نحو الدعابة … لاحقا لأوانسك
وختمتها بمقالتي أني … أخذت الحسب عنك
وهكذا تكون الدعابة في الغزل عذبة حلوة وهي ساعة من الساعات التي غفل فيها شيطان العواد العنيف ليستيقظ فيها الشعور الرقيق اللطيف.
الشعر الإنساني
ونختتم الحديث عن شعر العواد بمختارات من شعره الإنساني الذي تجلى فيها شاعرا إنسانيا دافق العاطفة والشعور وأبدأ هذه المختارات بقصيدة العواد في رثاء أمه.
في بيتها وعلى قبرها
ايه يا نفس هذه شارة القدس … وذا الشعر فانظمي قدسيها
هذه أمي الجليلة في بيت … على قدر زهدها يحتويها
ههنا تكمن الطهارة والزهد … فتعلو مسرة النفس فيها
ومنها:
ها هنا ها هنا جمال جليل … ها هنا ها هنا العزيزة أمي
ويقول في وصف بيت أمه:
هو بيت يلوح جد حقير … قد خلا من مناعم مستطابه
ليس فيه حفاوة تبهج العين … ولا فيه جدة وخلابه
ثم يقول:
قد تعرى عن كل ذاك وهذا … من شؤون لكنه بيت أمي
ومنها:
فهو لي في الحياة شارة قدس … وهو لي في مفازة العيش راحة
وهو الكنز إن شكت نفسي … العسر ومعنى الغنى يريني انفساحه
وهو عيدي إذا انقضت فرحة … العيد لدى الناس أنه بيت أمي
ثم يقول
إنه مسجدي وهل يقصد … المسجد إلا للطهر أو للصفاء
أو لترقى العقول فيه إلى الله … وقد جردت من الأهواء
فإذا ما أممت أمك للبر … فقد زرت مسجدا من نقاء
ثم ينتهي إلى وصف قبر أمه بعد أن وصف بيتها أو على الأصح إلى وصف شعوره بعد موتها فالقصيدة كلها قطعة من الشعور تحس فيها خفق القلب ورجفاته وتدفق الوجد حتى يستحيل شجنا يستدر الدمع ويسري في الوجدان وهذا هو الشعر بل هذا هو جوهر الشعر وروحه.
قلمي ما نكرت منك انطلاقا … في حياتي فما أصاب انطلاقك
عدت من دفنها كئيبا … أقاضيك انسياقا فما منحت انسياقك
اندفق فالشعور عندي موفور … كفيل ألا يعوق اندفاقك
ولكن القلم يأبى على العواد أن يندفق كما تعود، فالفاجعة أكبر من أن توصف أو يقوى على وصفها وهو في تلك الحال فتظل مكبوتة تشتغل في النفس إلى أن تهدأ الثورة أو تسكن الفورة ولقد ذكر العواد أنه لم يستطع رثاء والدته إلا بعد مرور عام ونصف العام على وفاتها
والقصيدة طويلة ولكنا نذكر المقطع الأخير منها تجنبا للإطالة.
رحمة الله للدفينة في الأضلع … من قبل دفنها في الحفير
وجلالا لها وسقيا لقبر … ضمها بين نشر ذاك العبير
وسلاما من موطن الخلد والرضوان … يغشى جثمانها بالعطور
ووداعا يزف ما انحبس الدمع … لديه إلا لهذا الزفير
وللعواد قصيدة أخرى شهيرة بعنوان:
صلاة النفس
قالت النفس قم نصل إلى الله … فشر النفوس من لم تصلي
قلت يا نفس سبحي الله طوعا … وأصيخي واستنكرى أن تملي
سبحي الله فالطبيعة يقظى … وتعالى قرب الخضم نصلي
في صفاء يشع من فلك … الإلهام مستمليا إذا الكون يملي
ومنها:
هذه صيحة الحياة في العالم المطوي بين النفوس طي السجل
فيجوب الضمير والفكر يجري في النواميس بين بعد وقبل
فيرى ما يكمن في الماء والزهرة والأرض والفضاء المطل
هذه صيحة الحياة تنادي عاشقيها لفهم معنى التجلى
ومنها:
سعداء أولو الصلاة ولكن … عندما يدركون مجد الصلاة
كم صلاة قوامها الجسد الطالب … سقط المتاع والنزهات
ومنها:
إن في القلب جنة وجحيما … واتساعا لفهم هذه الحياة
وخشوعا وعزة واعتلاء … وهويا لأسفل الدركات
وصعودا إلى السماء بلا … إذن ولو بواسع الفلوات
فدعي كونك الصغير سويعات … وهيا إلى الخضم نصلي
والقصيدة طويلة ولكنا نختتمها بهذه القطعة:
كلها كلها الأناسي والأنعام … والطير والرؤى والطيوف
والجمادات والبهائم والأملاك … والجنُّ والصدى والحفيف
والأماثيل والعناصر والأزمان … والقفر والمكان الأليف
والسنا والظلال والفكرة … والحسن والهوى الملفوف
كلها تضمر الصلاة وتبديها … صنوفا تمتاز عنها صنوف
قُوّما بالخشوع للواحد الفرد … الوفا تبزهُنَّ الوف
فمجموع منها تواثب سرا … وجموع على الحياة تطوف
غير أنا لا نفقه الحمد والتسبيح … منها لأننا غير أهل
والقصيدة من أجمل الشعر الروحي وأعذبه ولو لم يكن للعواد سواها لكان بها واحدا من أعظم الشعراء.
وللعواد قصيدة من أرق الشعر الغزلي وأعذبه ولعل بتسجيل بعض مقطوعاتها أسجل أن العواد قدير على الإبداع في كل فن من فنون الشعر وأبوابه.
تذكير
يا متعة الأنفس يا ساحره … ويا رضا الشعر ويا شاعره
يا مصدر الوحي وموضوعه … ويا غذاء الفكرة الحائرة
لم أنس أيامك لم أنسها … يا حبذا أيامك الناضرة
ومنها بعد أن يستعرض عهده معها ولقاءه بها:
لم أنسها لم أنسها فاسمعي … من عمق قلبي ذلك الاعتراف
رسائل الحب على عهدها … باقية في نفس ذاك الغلاف
غلافها الأحمر لم تنتثر … منه ولن تبصرها باصره
ثم الرسوم اللات أهديتها … صديقك الحافظ عهد الوداد
وخلفها الألفاظ قد أعربت … عما انطوى تحت شغاف الفؤاد
الفاظ اهدائك معسولة … شفافة كالسحب الماطره
بلا قلب
وللعواد قصيدة أخرى تصور شجونه في هذه الحياة وحظه فيها يقول فيها:
حبيبة قلبي لو عرفت بلاءه … لأقصرت لومي والحياة بلاء
أنا التعب المكدود فيما أريقه … تجشمني نفسي العلا فأناء
ومنها:
تلث على فكرى الحياة بهولها … وتزعجني في نظمها البرحاء
فأوغل في استقصاء ما يستحثني … من الفكر فيها والظنون فضاء
ومنها:
حبيبة قلبي إن تسرك بسمة … من النجم خفاقا عليه رداء
تزين الدجى في ليلة راق صحوها … لها لمعان بارع وضياء
فإن هنا قلبا إزاء جمالها … له موقف فيه أسى وهناء
ومنها:
فكم من فروق في الحياة منظما … مساعي نهى يحدو بهن عماء
وكم وقفة بين الرجاء وضده … لحرأبي في الحياة يساء
تباعده أخلاقه عن مباءة … يعيش بها الأوشاب والبلداء
وتسمو به نفس تعلمت العلا … وقاد خطاها في الحياة حياء
إذا ابتدرت طرق المعالي تعرضت … لها عقبات طرقهن وباء
وبينا كثير من رفاق وإخوة … سفائنهم تجري بهن رخاء
تراه وقد أغرى به الحظ صرصرا … لها أبدا في مسمعيه عواء
وما هو بالمنقوص في ملكاته … وما فيه إلا قدرة وكفاء
تضيء معاليه وتسمو صفاته … وتشرف أخلاق لديه وضاء
ونختتم الآن هذه المختارات بعد أن طال بنا نفس القول في شعر العواد ولكني أشعر وأقولها مخلصا إنني لم أوفه حقه فهو من هذه القمم التي يجد الدارس فيها مجال القول رحبا واسعا وما قصدت إلى دراسة شعره فليس من أغراض هذه التراجم أن تقدم الدراسة وإنما غرضها تصوير شخصية صاحب الترجمة ما أمكن هذا التصوير فإذا كان المترجم أديبا أو شاعرا وجب أن تقدم الصورة من إنتاجه لتكون أصدق أداء وأوفى تعبيرا، وللعواد جوانب أخرى لم نتحدث عنها فهو قد شغف بالأدب اليوناني فيما وصل إليه من تراجم لعيون هذا الأدب وكذلك نظم بعض المقطوعات عن توماس هاردي بعد أن ترجمها العقاد نثرا، وعن رديارد كبلنغ كما نظم موعظة المسيح عليه السلام وتحدث كثيرا عن الآلهة اليونانية الخرافية والقارئ يجدها مثبتة في دواوينه وقصائده ويبدو لي أنه لو أتيح للعواد أن يتعلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتعمقت قراءاته في عيون الأدب الأجنبي لكانت له جوانب مشرقة في هذا المجال.
الشعر المنثور
وبعد فإنني قرأت ما استطعت قراءته من شعر العواد وخرجت من هذه القراءة بهذه الانطباعات التي شرحتها آنفا وهناك أشياء أخرى لم أكتب عنها لأن ما فيها لا يخرج عن الصدد الذي ذكرنا وأشياء أخرى تعمدت الإغضاء عنها إذا صح هذا التعبير فللعواد ديوان آخر اسمه رؤى ابولون القسم الأعظم منه سماه عواد (شعر منثور) وأنا أسميه النشر الشعري ولي في هذا الموضوع رأي تحدثت عنه في التليفزيون وفي صحيفة البلاد بعد أن ثارت أقلام كثيرة للرد على ومن ضمنها أستاذي العواد رحمه الله فليرجع إليه من شاء لأن الشعر عندي هو الشعر الذي تحكمه الأوزان الشعرية والقوافي وقد تقبلت تعدد الأوزان وتعدد القوافي ما دامت الموسيقية متوفرة أما هذا الشعر المنثور فهو نثر وإن اتسمت الأخيلة فيه بالأسلوب الشعري فأنا أتقبله كلون من ألوان النشر وما أكثر ألوان النثر في لغتنا العربية الغنية بتعابيرها وأخيلتها وما أغنى الشعر العربي بمختلف ألوانه وفنونه، وطريقتي أن أسمي الأشياء بأسمائها والعواد غني عن إضافة هذا اللون إلى شعره بما أنتج وأبدع من الشعر الحق وهو يعد من أياديه على النثر الفني المبدع وما أكثر أياديه في هذا المجال وما أطولها.
آثار عواد الباقية
إن ما لدينا من شعر العواد وهو ما اشتملت عليه مجموعة دواوينه في جزأين كبيرين يقف عند منتصف السبعينات أو الثمانينات وقد امتد به العمر إلى عام 1400 هـ فهناك فترة ربع قرن لم يطبع فيها ما أنتجه العواد من الشعر ولا يمكن أن يكون خلال ربع قرن أو حتى خلال عشرين أو خمسة عشر عاما قد توقف عن النظم وقد يكون قليل الإنتاج في هذه الفترة ولكنه لم يتوقف تماما ومن المؤكد أن يكون بين ما ترك من أوراق ومخطوطات ما يسدُّ هذه الثغرة أو يجليها فلعل ابنته الكريمة السيدة نجاة عواد تتفرغ لتخرج للناس ما بقي من آثار والدها العظيم.
النادي الأدبي
للعواد ولصديقنا الأستاذ عزيز ضياء فضل السبق في الدعوة لإنشاء النوادي الأدبية التي تنتظم مدن المملكة في الوقت الحاضر والتي تقدم إنتاج الأدباء والمؤلفين بتشجيع عظيم من رعاية الشباب ذلك أن العواد وضياء دعيا للمشاركة في الحفل الذي أقيم في الرياض للبحث في أحياء سوق عكاظ وقد اغتنما هذه الفرصة السانحة فتقدما إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد ابن عبد العزيز رئيس رعاية الشباب بفكرة إنشاء النادي الأدبي فاستجاب سموه أعظم استجابة وأجاز الفكرة وأخرجها إلى حيز الوجود فكان النادي الأدبي في جدة هو أول النوادي التي انتشرت فيما بعد في مدن المملكة الأخرى وبفضل المعونة السخية التي تقدمها رعاية الشباب لهذه النوادي أمكن لها أن تقف على قدميها وأن تستمر وتنمو وتقوم بطبع الكتب في مختلف فنون الأدب والعلم وكان العواد أول رئيس للنادي الأدبي بجدة وقد انتخب ونال من الأصوات ما يرشحه لهذه الرئاسة التي كان هو جديرا بها وقد منح رحمه الله النادي الأدبي وقته كله فكان يجلس فيه صباح مساء وكنت أعجب له وهو في الثانين من العمر كيف يقوى على هذا الجهد ولكنه كان يمارس أعمال النادي بروح الشباب فلقد عاش عمره كله يحلم بأن يكون للأدباء مكان يجمعهم وللأدب كيان يرتكز إليه وقد تحقق له هذه الحلم قبل وفاته بل تحقق له بحمد الله أن يرى بعينيه كثيرا مما دعا إليه في مطلع شبابه نهضة عارمة تشمل التعليم والتطبيب والاقتصاد والبناء نهضة تشمل جميع نواحي الحياة التي كان العواد يحلم بها ويتخيلها ويدعو إليها.
وفاة العواد
هذا وقد توفي العواد رحمه الله في 1400 هـ بعد مرض قصير ألم به وكان يتهيأ للسفر إلى الخارج للعلاج ولكن المنية عاجلته فصعدت روحه إلى بارئها وقد بلغ الثمانين عاما من عمر حافل بالعطاء وإذا كان قد فات العواد حظه من متاع هذه الدنيا فلم يترك لأهله مالا أو عقارا فإن الثروة الأدبية والعقلية التي تركها لا لأهله وإنما للشعر والأدب عظيمة وكبيرة فلقد كان بحق رائد جيل وزعيم نهضة وأستاذا عظيما وصديقا كريما، رحم الله العواد وغفر له وأحسن جزاءه في دار الخلد - إنه سميع مجيب.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 148 - 188.