الحاج عبد الله علي رضا
الحاج عبد الله علي رضا
قصير القامة ممتلئ الجسم واسع العينين أبيض اللون أشيب اللحية والعارضين كان يرتدي الجبة والعمامة الحجازية، وظل محتفظا بهما إلى آخر حياته ولكنه كان يرتدي العباءة والعقال المقصب حينما يذهب للقاء جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز ولذلك قصة رواها لي ابنه معالي الأخ الشيخ محمد عبد الله رضا قال كان والدي يوما في مجلس جلالة الملك عبدالعزيز فأهداه جلالته عقالا مقصبا فكان بعدها يرتدي العباءة ويضع هذا العقال المقصب كلما ذهب للقاء جلالته.
ولد الحاج عبد الله علي رضا في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وقد أدركته في أواخر عهد الملك الشريف الحسين وهو قائممقام جدة ـ محافظ المدينة كما هو الاصطلاح حاليا - وقد استطاع هذا الرجل أن يحتفظ بمنصبه هذا في العهد العثماني ثم في العهد الهاشمي ثم في العهد السعودي، ولعل مما يجدر ذكره أن الحاج عبد الله علي رضا هو الذي تولى تسليم مدينة جدة إلى السلطان عبد العزيز حينما اتفق على تسليمها صلحا فقد سافر الملك علي بن الحسين من جدة بالباخرة وفي اليوم الثاني بدأ تسليم المدينة للسلطان عبدالعزيز - جلالة الملك فيما بعد ـ وقد رأيت الحاج عبد الله علي رضا يذهب بسيارته إلى مقر الملك عبد العزيز في الكندرة ويعود ومعه كبار رجال الملك عبد العزيز الذين عهد إليهمبالدخول إليها قبل جلالته، وهكذا استمر الحاج عبد الله في الذهاب والأوبة إلى أن عاد الملك عبد العزيز في سيارة واحدة ودخلا من باب مكة حيث نزل مع جلالته في بيت نصيف وتقبل البيعة من الناس، هذا ولقد كان الملك عبدالعزيز يؤثر الحاج عبد الله علي رضا بمودته وإكرامه فلم يعين أمير المدينة جدة طيلة حياة الحاج عبد الله علي رضا وكان أول أمير لها هو الأمير عبد العزيز بن معمر رحمه الله وذلك بعد وفاة الحاج عبد الله علي رضا، ولم يكن يتقاضى مرتبا على عمله كقائممقام وإنما كان يخدم المنصب بصورة شرفية دون مرتب فلقد كان واسع الثراء، وكان هو وأخوه الأكبر الحاج زينل قد قاما بتأسيس بيتهم التجاري في جدة عام 1284 هـ ثم قاما بتأسيس فرع لهم في مدينة بومباي بالهند، وحينما انقسمت الهند إلى دولتين بعد الاستقلال انتقل بيتهم التجاري إلى مدينة كراتشي ميلاد دولة باكستان.
إن ما لفت نظري في تاريخ الحاج عبد الله علي رضا ليست قدرته على الاحتفاظ بمنصبه كحاكم إداري لمدينة جدة خلال ثلاثة عهود سياسية مختلفة فحسب، وإنما محاولاته الأولى لاستخلاص الأعمال التجارية من أيدي الأجانب الذين كانوا يسيطرون عليها، فلقد كانت هناك بيوت تجارية أجنبية كثيرة في مدينة جدة: إنجليزية، وفرنسية، وهولندية، وايطالية، وكانت هذه البيوت تتولى وكالة البواخر المختلفة التي ترد إلى مدينة جدة وكان الحاج عبد الله علي رضا من أوائل التجار الوطنيين الذين فكروا وعملوا لاستخلاص بعض هذه التواكيل من أيدي هؤلاء الأجانب مفتتحا بذلك وكالته التجارية للبواخر وهو أمر كان يعتبر في ذلك الزمان عملا عظيما بلا مراء.
ولعله من المستحسن أن نذكر الآن طرفا عن ماضي التجارة وأحوالها في الحجاز خلال العهد الهاشمي وأوائل العهد السعودي.
كان العمل التجاري يعتمد بصورة تكاد أن تكون كلية على الاستيراد وكانت الهند هي المصدر الأعظم للاستيراد فلقد كانت الهند تصدر كل شيء إلى جدة سواء من الحبوب أو الأقمشة الشعبية أو الأحذية وأواني الطعام وما إليها وكانت البواخر الشراعية خلال أواخر العهد العثماني في أوائل القرن الرابع عشر الهجري هي واسطة هذا الاستيراد وكان كثير من التجار يملكون هذه البواخر أو قسما منها، كان يشترك تاجران أو أكثر في ملكية باخرة واحدة وكان هناك ربابنةوطنيون للبواخر ومازال بعضهم يمارس هذا العمل مثل آل سلامة والرقبان وخلافهم، ولم تكن هناك بنوك تجارية لتحويل النقود بواسطتها وإنما كانت ترسل صرا في هذه البواخر الشراعية إلى البيوت التجارية في الهند وكان التجار يعمدون إلى تقسيم المبالغ المرسلة في عدة بواخر حتى إذا غرقت باخرة لم يفقد التاجر إلا جزءا من ماله المرسل إلى الهند وكانت هذه البواخر الشراعية تسافر في مواعيد معينة وتعود كذلك في مواعيد معينة متجنبة أوقات الفيضانات واضطراب البحر ولقد علمت أن هذه البواخر الشراعية كانت تجلب حاجة الحجاز من الأقوات والبضائع كما تجلب حاجة مصر منها وذلك قبل شق قناة السويس فكانت هذه البواخر الشراعية بمثابة مخازن عائمة تبقى في البحر وينزل منها إلى ميناء جدة ما تحتاجه البلاد ويبقى الباقي في هذه البواخر لتصديره إلى مصر التي كانت تستورد كثيرا من البضائع التي تحتاج إليها بواسطة التجار الحجازيين وعن طريق هذه البواخر التي تصدر هذه البضائع إلى ميناء السويس والقصير، وبعد شق قناة السويس انتهت حاجة مصر إلى الاستيراد عن طريق ميناء جدة، وأصبحت تستورد ما تحتاج إليه سواء من الغرب أو الشرق عن طريق قناة السويس.
أقول وقد أدركت البواخر الشراعية وهي تسير بين ميناء جدة وميناء الحديدة في اليمن، حيث تستورد الغلال من ميناء الحديدة أو جيزان كما كان استيراد الشعير والتمر يتم من ميناء البصرة في العراق، هذا وقد انتهت الحاجة إلى هذه البواخر الشراعية بعد توفر البواخر التجارية الكبيرة، وتعاظم كميات البضائع التي تحتاج إليها البلاد، وكانت هناك بيوت تجارية معينة في مدينة بومباي بالهند هي بيوت الحاج عبد الله بهائي وهو هندي مسلم، كما كانت هناك بيوت تجارية حجازية هي بيت الحاج عبد الله علي رضا وبيت الحاج سليم الخنجي ولقد كانت الطريقة أن ترسل هذه البيوت التجارية برقيات إلى عملائها من التجار في جدة بأسعار البضائع حينما يتعين تاريخ سفر إحدى البواخر الكبيرة إلى جدة ويرتبط التجار بالشراء لترد بضائعهم في وقت واحد وعلى باخرة واحدة وكان وكلاء البواخر يعمدون إلى التبليغ عن وصولها وسفرها بواسطة المنادي - حينما كانت مدينة جدة محصورة داخل أسوارها وكان المنادي يطوف في شوارع جدة وأسواقها ينادي ويقول على سبيل المثال - بابور بوسطة إنجليزي اسمه جهانكير ان شاء الله بكره حضوره هنا، كل من عنده صره أو أمانة يراجع في الحال الوكيل الحاج عبد الله علي رضا وهكذا على البواخر الأخرى موضحا اسم الباخرة وموعد وصولها واسم الوكيل.
ولقد ظلت التجارة محصورة مع الهند تقريبا ولم يتم الانفتاح بصورة عامة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبانتهائها بدأت النهضة التجارية العظيمة في البلاد وأصبح الاستيراد والتزاحم مفتوحا للجميع، وبدأت البيوت التجارية السعودية تمارس نشاطها الواسع الذي قضى على النفوذ التجاري للبيوت الأجنبية بل وأنهى وجودها تماما ولعله من الطريف أن نذكر هنا أنواعا من التجارة انتهت تماما فلم يعد هناك من يمارسها.
كانت هناك تجارة الماء، وكانت لمدينة جدة صهاريج كبيرة لحفظ مياه الأمطار، وكانت هذه الصهاريج تبنى في طريق السيول خارج المدينة، ومن أشهر هذه الصهاريج صهريج المشاط وصهريج باناجه، وحفرة حميد الشيخ فإذاجاءت الأمطار وامتلأت هذه الصهاريج تغلق فوهاتها ويبقى الماء محفوظا فيها إلى حين الحاجة إليه بعد انتهاء موسم الأمطار فتفتح هذه الصهاريج ويباع الماء للجمهور، وكانت أغلب بيوت جدة القديمة مزودة بهذه الصهاريج لحفظ الماء الذي ينحدر من السطوح بواسطة مواسير من القماش إلى الصهريج في أسفل المنزل، وكان البعض يملأ هذه الصهاريج بشراء الماء في موسم الأمطار وتخزينه فيها إلى حين الحاجة إليه، وكما كانت هناك تجارة للماء، كانت هناك تجارة السمن يوم كان اعتماد الناس على السمن الطبيعي وهناك مثل مشهور متداول وهو من لا يشتري السمن في الثور ثور والمعنى أن السمن يكثر في فصل الربيع في برج الثور فكان الناس يقبلون فيه على الشراء لحاجة بيوتهم أو لتجارتهم، ومثل ذلك ينطبق على الفحم قبل دخول الكهرباء والغاز إلى البلاد فكانت هناك مواسم معينة يكثر فيها الفحم ويقوم بعض تجاره بشرائه وتخزينه لبيعه بأثمان أعلى حين الحاجة إليه.
ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل عن ماضي التجارة إلى كبير تجار جدة الحاج عبد الله علي رضا لنقول إنه كان يعيش بين الناس وكأنه فرد منهم لا يشعرهم بهيمنة الحاكم ولا بسلطان الحكم، أذكر أن الحاج عبد الله علي رضا حينما كبر ابنه البكر محمد ـ معالي الشيخ محمد عبد الله رضا وزير التجارة الأسبق - أراد أن يزوجه ويفتتح له بيتا تجاريا خاصا باسمه وكان المنزل الذي يسكنه آل الجمجوم تعود ملكيته إلى زوجة الحاج زينل فطلب الحاج عبد الله من الشيخ محمد صالح جمجوم إخلاء المنزل لهذا الغرض فامتنع الشيخ محمد صالح عن ذلك قائلا إننا نسكن هذا البيت من عشرات السنين وفيه محلنا التجاري وعوائلنا الكثيرة ولا نجد بيتا آخر يسعنا فنحن أحوج إليه منكم، لم يلجأ الحاج عبد الله إلى سلطته كحاكم، ولا إلى صلته الشخصية بجلالة الملك أو سمو النائب العام، وإنما ذهب إلى كبير تجار جدة الشيخ عبدالرحمن باناجه رحمه الله وشكا إليه الأمر وطلب منه أن يفصل فيه باعتبار أن القضية هي بين تاجرين يحتكمان إلى كبير بينهم، وبهذا الأدب العالي كان يتصرف هؤلاء الرجال الكبار، وكان الحاج عبد الله يستقبل الناس في بيته التجاري ويقرأ معروضاتهم ويشرح عليها بخط يده ويحيلها إلى الجهات المختصة في بساطة ويسر وكان يخلط نفسه بزملائه من التجار فيزورهم ويزورونه وكان يعتبر نفسه مسؤولا عن المدينة التي يمثل الدولة فيها فيعنى بأمور أهلها ما وسعته العناية وأني لأذكر له حادثة واحدة تدل على كبر نفسه ونبل خصاله.
في أوائل الخمسينات وحينما قامت فتنة ابن رفادة الذي وصل إلى مدينة الوجه عن طريق السويس مع مجموعة من المسلحين بادر المغفور له الملك عبد العزيز بالقضاء على هذه الفتنة في مهدها بصورة سريعة وكانت العلاقات بين البيت السعودي والبيت الهاشمي الذي كان يمثله الملك عبد الله بن الحسين لم تتحسن بعد، أقول: في ذلك الوقت بالذات كانت مجموعة من شباب جدة قاموا بتأسيس أول ناد أدبي في جدة، وكانت الاجتماعات تتم في هذا النادي حتى قبل الحصول على الترخيص الرسمي بافتتاحه من الدولة وكانت أغراض النادي ثقافية واجتماعية، وكانت تلقى فيه المحاضرات والقصائد، وكان هذا النادي يعقد بمنزل المرحوم عبد العزيز جميل ثم بمنزل المرحوم الشيخ صالح اسلام وكان من أعضاء النادي الأستاذ حسن عواد والأستاذ حمزة شحاته والمرحوم أحمد لاري، والشيخ حسن أبو الحمايل والأستاذ يونس سلامة وغيرهم وكان كاتب هذه السطور أصغر أعضاء النادي على الاطلاق.
ويبدو أنه نقل إلى الحكومة بعض أخبار هذا النادي بصورة مبالغ فيها في الوقت الذي كانت فيه الحوادث التي ذكرناها آنفا ويبدو أن جلالة المغفور له الملك عبد العزيز أراد اتخاذ إجراء بالنسبة لهذا النادي وغيره من الناس، ولكنه آثر إرجاء النصح والإنذار قبل أي إجراء وعقد لهذا الأمر اجتماع كبير في مبنى وزارة المالية بمكة سبقه تبليغ كثير من الناس بواسطة الشرطة ضرورة حضور هذا الاجتماع، وإني لأذكر أنه عين لنا موعدا للحضور في الخزنة ـ المبنى الذي كانت تشغله قائممقامية جدة وهو أمام ميدان البيعة حاليا وقد أزيل المبنى لقدمه - فحضرنا وقابلنا المرحوم الشيخ علي طه رضوان الذي كان معاونـا لقائممقام جدة وقال لنا جميعا إن السيارات ستأخذكم إلى مكة فتقابلون الحاج عبد الله علي رضا في منزله بزقاق الحفرة بالشبيكة، وقد أكد المرحوم علي طه علي بصورة خاصة أن أذهب إلى هناك فذهبنا، وكنا مجموعة مختلفة من الناس تجمع بين فئات كثيرة فهناك التجار وأساتذة المدارس والشباب وأرباب الحرف المختلفة، وحينما وصلنا إلى مكة تناولنا طعام الغداء في منزل الحاج عبد الله وقبل الذهاب إلى الاجتماع استدعاني وقال لي اسمع ما أقوله لك إذا انتهى جلالة الملك من خطابه تحضر إليَّ لأقدمك إليه قلت لماذا، قال: هذا ما ستعرفه بعد ولكن احرص أن تكون قريبا مني وتحضر لأقدمك لجلالة الملك وبالفعل ذهبت إليه بعد انتهاء خطاب الملك عبد العزيز رحمه الله فأخذني بيدي وكنت صغير السن صغير الحجم، ولعلي كنت أصغر من حضر الاجتماع، وقال لجلالة الملك عبدالعزيز بالحرف الواحد هذا هو محمد علي مغربي يا جلالة الملك - ولقد كان جلالته في قامته الفارعة وجسمه المليء وكنت أقف أمامه في حجمي الضئيل كطفل صغير رحمه الله.
ولقد علمت بعدها أن سبب تقديمي لجلالته من قبل الحاج عبد الله علي رضا أنه أراد إقناع جلالة الملك عبد العزيز بأن ما نمى إليه عن النادي الأدبي أو عن شباب جدة لا صحة له، وأراد أن يراني جلالة الملك عبد العزيز شخصيا ليرى أن من كان في سني الباكر لا يمكن أن يصدر عنه ما يسيء إلى الدولة، وأن ما أخبر به جلالته مبالغ فيه.
كما علمت أنه تعمد أن يدعى إلى حضور الاجتماع هذه المجموعة المختلفة من الناس حتى لا يعرف المقصودون بالدعوة أو يرتاع أهلوهم، هذا التصرف من رجل كالحاج عبد الله علي رضا يدل على الشجاعة لأنه وهو يمثل الحكومة لم يقف موقفا سلبيا إزاء المدينة التي يمثل الدولة فيها وإنما حاول جهده الدفاع عن أهلها بحق شارحا لولي الأمر ما يعرفه في أمانة وشجاعة.
هذا ومن الحق أن أذكر أن بيت آل زينل في الهند الذي أسسه صاحب الترجمة مع أخيه كان إلى جانب عمله التجاري يقوم بعمل إنساني نبيل فكثيرا ما أرسل الحاج عبد الله والحاج زينل المرضى إلى الهند لعلاجهم أو إجراء العمليات لهم على نفقتهم ممن لا تتوفر لهم فرص العلاج في البلاد في ذلك الزمان.
وفي عام 1352 هـ مرض الحاج عبد الله علي رضا مرضا طويلا في مدينة الطائف وكان يصيف بها فكان جلالة الملك عبد العزيز يزوره في الدار التي ينزل فيها بالمثناة ويكرر له الزيارة وقد قدم المرحوم الحاج محمد علي زينل ابن أخيه خصيصا لزيارته من الهند واستقدم معه الطبيب المصري الشهير محمد عرفان بك ولكن المنية عاجلته فتوفي بمدينة الطائف في صيف عام 1352هـ وحضر الصلاة عليه المغفور له الملك عبد العزيز ودفن بمقبرة ابن العباس تغمده الله برحمته الواسعة فلقد كان من عظماء الرجال.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 138 - 146.