عبد الله عريف
الأستاذ عبد الله عريف
أسمر شديد السمرة، أسود العينين أقرب إلى الطول منه إلى القصر كان معتدل الجسم في شبابه ولكنه ثقل بعد أن أكتهل فأصبح جسيما، يرتدي العباءةالعربية والعقال ويضع نظارة على عينيه بصورة دائمة.
ولد عبد الله عريف بمكة المكرمة عام 1336هـ وتلقى تعليمه الابتدائى بها ثم ابتعث إلى القاهرة وتخرج من دار العلوم بمصر، وكان خلال سنوات ابتعاثه على صلة مستمرة بمعالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يشجعه كما كان يفعل مع الكثيرين من الطلاب المبتعثين، وبعد عودته إلى مكة المكرمة عمل فترة من الوقت بديوان التفتيش بوزارة المالية، وفي عام 1365 هـ أسندت إليه رئاسة تحرير جريدة البلاد السعودية - صوت الحجاز سابقا - بعد أن عادت إلى الصدور بعد احتجابها مع بقية الصحف طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية ولم يكن عبد الله عريف غريبا عن دنيا الصحافة والكتابة فقد كان يكتب في جريدة صوت الحجاز كما كان يكتب في جريدة أم القرى، وفي صوت الحجاز جرت بينه وبين الأديب المجيد الأستاذ حمزة شحاتة مناقشات طويلة عن الفن وعلاقته بالأدب، ولقد ذكرت من قبل أن أغلب من عرفت من الكتاب والشعراء كانت لهم بدايات حسنة تنبئ عن الأصالة وعبد الله عريف كان واحدا من هؤلاء الكتاب، فقد لفتت كتابته الأنظار وهو ما يزال طالبا في دار العلوم بالقاهرة إلى أن استوى كاتبا كبيرا برأس تحرير أول جريدة يومية في المملكة وهي جريدة البلاد السعودية، التي تحولت في عهده إلى جريدة يومية بعد أن كانت تصدر باسمها الأول صوت الحجاز - أسبوعية - كما زادت صفحاتها ولقد ظل عبد الله عريف رئيسا لتحرير جريدة البلاد فترة طويلة امتدت إلى ما يقرب من عشرة أعوام من عام 1365 هـ إلى عام 1375هـ وعرف فيها ككاتب يعالج الشؤون العامة بأسلوب رزين وكان ناقدا يطالب بالإصلاح شأنه شأن من يتصدى للكتابة اليومية في الصحف وخاصة فيما يتعلق بالأمور التي تتصل بحياة الناس اليومية في المجالات العامة وخلال رئاسته لتحرير جريدة البلاد أصدر كتابه المسمى (رجل وعمل) وهو ترجمة لحياة الشيخ محمد سرور الصبان وأعماله ولقد اضطرى عبد الله عريف إلى ترك العمل في جريدة البلاد السعودية بعد أن ظل حليف القلم طيلة سنوات عشر وبعد أن كان اسمه يصافح القراء كل صباح، ولعل بعض ما كتب كان السبب في اقصائه عن العمل الذى أحبه وعرفه الناس منه وليس هذا هو المهم في حياة عبد الله عريف ولكن المفاجأة التي كانت تنتظره والتي كانت الاختبار الحقيقي الذي تعرض له هي عمله في أمانة العاصمة في مكة المكرمة.
أمين العاصمة
قالوا: - كان صاحب السمو الملكي الأمير فيصل - جلالة المغفور له الملك فیصل فيما بعد ـ على علم بما يكتبه عبد الله عريف كما كان يتابع أهم ما يكتب في الصحف باعتباره المرجع الأعلى في البلاد، كان في ذلك الوقت هو النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء كما كان ولي العهد، وذلك من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات - فلما أقصي عن العمل في جريدة البلاد وخلت بعد ذلك بفترة وظيفة أمانة العاصمة في مكة المكرمة استدعاه جلالة الملك فيصل ـ كان يومها رئيسا للوزراء ووليا للعهد - وقال له إنني قد عينتك أمينا للعاصمة في مكة المكرمة وأريد منك أن تحول الأقوال التي كنت تنادي بها إلى أعمال فمجالك اليوم ليس في القول وإنما في العمل ولديك الفرصة لتترجم الإصلاحات التي كنت تدعو إليها إلى عمل ملموس، قالوا: وقال عبد الله عريف، إنني إذا لقيت من سموك العون فإني فاعل ذلك بإذن الله، وقد انطلق عبد الله عريف أمينا للعاصمة بتأييد قوي من ولي الأمر معتمدا على جهده الشخصي في إعداد المشروعات التي يرى أنها لازمة للمدينة المقدسة مجندا لذلك كل ما يقع تحت يده من خبرات الخبراء وجهد العاملين فكان يعد المشروع ويذهب به إلى جلالة الملك فيصل شارحا أهميته ومطالبا برصد المال اللازم له فإذا أخذ الموافقة عليه انطلق في تنفيذه في غير تردد ولا إحجام متخطيا كل العقبات متغلبا على كل الصعاب، وللحقيقة فإن عبد الله عريف كمكي كان متيما بحب بلده - أم القرى ـ وكان يرى ككاتب ومثقف أن مكة المكرمة هي أم المدائن، فهي مهبط الوحي، ومقر البيت الحرام، ومهد الرسالة وإليها يتجه الناس من كل أقطار الأرض خمس مرات كل يوم وإليها تحج مئات الألوف كل عام وإن مدينة هذا شأنها يجب أن تكون آية في النظافة والتنظيم وقدوة فيها يجب أن يتوفر في أي مدينة كبيرة مثلها، وبهذا الحب العميق، وبهذا الوعي الذكي وبذلك التأييد القوي استطاع عبد الله عريف أن يحول القول إلى عمل، وأن ينحي القلم جانبا ليعمل بكلتا يديه وبعقله وكل قوته في بناء مكة المكرمة مدينة حديثة نظيفة فشقت الشوارع بل وفلقت الجبال لتكون طريقا ممهدا للناس وأصلحت حوافيها وزينت وانتشرت الإضاءة في كل شوارع مكة المكرمة التي امتدت وتضخمت فأصبحت تمتد من ناحية الشرق حتى تجاوزت منى وابتلعتها ومشت من ورائها عشرات الكيلومترات فكان حي العزيزية وحوض البقر، وامتدت من جنوبها حتى شملت شارع المنصور والحفاير وحي النزهة وامتدت شمالا فاتصل حي الشهداء بها الذي أصبح يطلق عليه الزاهر، وقامت نواطح السحاب في مكة المكرمة طبقات تعلوها طبقات كل هذا مع الحرص على توفير كافة الخدمات التي صاحبت هذا النمو من شوارع عريضة، ومن إضاءة كافية، ورصف للطوار وتشجير للشوارع وامتدت يد الإصلاح إلى ضواحي مكة فكان القادم إلى الحديبية على بعد بضع عشرة كيلومترات يجد مدخل مكة المكرمة هناك مضاء يمتد الشجر على جانبيه وكأنه يشير إلى ما سيجده القادم في مكة نفسها من جمال وتنظيم، بل أن عبد الله عريف سعى لتجميل مدينة بحرة وهى في منتصف الطريق بين جدة ومكة باعتبارها تابعة لمكة المكرمة، ولم تقتصر جهود عبد الله عريف على ذلك ولكنه سعى إلى إيجاد المسالخ الحديثة في مكة ومنى كما أنه كان يجند كل إمكانات أمانة العاصمة لنظافة منى والمشاعر المقدسة في مواسم الحج وكان دائم التفكير والتخطيط لكل ما يراه لازما لتجميل المدينة المقدسة وتحسين مرافقها وإظهارها بالمظهر اللائق بمكانتها الدينية والتاريخية ونستطيع أن نقول أن عبد الله عريف قد نجح فيما هدف إليه فتغير وجه مكة المكرمة في عهد رئاسته لأمانة العاصمة المقدسة تغيرا ملموسا يلمسه كل زائر وكل مقيم، وكانت النظافة أهم المرافق التي حرص عليها عبد الله عريف فقد كان يمر بنفسه على الشوارع وخاصة الشوارع النائية ليرى حال النظافة فيها ويحاسب المسؤولين عنها فاستطاعت مكة بهذا أن تحافظ على نظافة شوارعها وطرقها في الوقت الذي كانت تشكو فيه مدن كثيرة أخرى من تردي أعمال النظافة فيها وللحق فإن العمل في تحسين مكة المكرمة لم يكن وقفا على امانة العاصمة وحدها وإنما كان يشترك في ذلك بحكم مركز المدينة المقدسة جهات كثيرة فالدولة نفسها كانت ترعى مشروع توسعةالحرم المكي الشريف وهو أضخم مشروع من نوعه في التاريخ للمسجد الحرام شمل مشعري الصفا والمروة، كما أن الدولة وخاصة بعد تأليف الوزارات المختصة تكفلت بشتى المشاريع التي تعتبر ضرورية للمدينة المقدسة والتي ساعدت في تحسينها وإكمال مرافقها كمشاريع مياه عين زبيدة والعزيزية التي كانت إدارة مستقلة ثم أصبحت تابعه لوزارة الزراعة والمياه، ومشاريع الحج سواء ما يتعلق منها بمنى وعرفات والمزدلفة أو ما يتعلق بمكة المكرمة والتي تألفت لها لجان خاصة ترعاها الدولة ويضطلع بها سمو أمير منطقة مكة المكرمة وسمو وزير الداخلية ووزارة الحج واللجان المتفرعة عن هذه الجهات كلها ومشاريع الكباري والطرق في منى وعرفات وطرق الحج والتي امتدت إلى مكة المكرمة فشملت مداخلها وبعض شوارعها الرئيسية، نعم إن الدولة بكامل أجهزتها كانت ولا تزال مجندة في تحسين مرافق المدينة المقدسة وما يتبعها من مشاعر الحج، فمن العدل أن نذكر هذه الجهود كلها إلى جانب جهود امانة العاصمة، ولعل من حظ عبد الله عريف أن عهد رئاسته لأمانة العاصمة شهد كل هذه المشاريع وكل هذه الإنجازات ولاشك أنه أمين للعاصمة محظوظ ولاشك أيضا أنه كان يستحق هذا الحظ الطيب لأنه لم يركن إلى الحظ فينام متكلا على أعمال غيره وإنما ساهم بكل قوته في تجميل المدينة وتحسينها وكان منسجما مع كل إصلاح يطرأ ومع كل مشروع ينفذ كما كان يحافظ على مكتسبات هذا النجاح بالسهر الدائم والعمل الدؤوب.
تقدير الدولة
وحين تأسست أول وزارة للبلديات في المملكة وأرادت أن تكافئ القائمين على بلديات المدن تقديرا لأعمالهم كان عبد الله عريف أمين العاصمة المقدسة هو الوحيد بين رؤساء البلديات الذي استحق تقدير الدولة فقلد وساما منحه له جلالة الملك خالد بتوصية من صاحب السمو وزير الشؤون البلدية والقروية تقديرا لجهوده في خدمة المدينة المقدسة وتحسين مرافقها والمحافظة على نظافتها ومرافقها.
تكريم المواطنين
ويطيب لي هنا أن أذكر كلمة وردت في إحدى مقالات عبد الله عريف عن نفسه وعما يطمح إليه وأن أعلق عليها، أذكر أنه قال مرة في إحدى مقالاته يخاطب نفسه ما معناه (من أنت يا بائع الفحم حتى تضع نفسك بجانب هذه الأسماء الكبيرة الشهيرة) وهو يشير بهذا إلى أنه نشأ في اسرة متواضعة كان يعمل بعض أفرادها في تجارة الفحم، ولكنه كان منذ نشأته طموحا إلى المجد يرنو ببصره إلى الاعمال العظيمة الكبيرة التي كانت تسند دائما إلى كبار الرجال وأقول إن عبد الله عريف استطاع أن يخرج من محيط أسرته المتواضع ليكون أولا كاتبا كبيرا يرأس تحرير أول وأكبر جريدة يوميه طيلة عشر سنوات ثم استطاع أن يصل ليكون أنجح أمين للعاصمة المقدسة شهدت المدينة في عهده من التوسع والازدهار ما لم تشهده في عهد أمين آخر ممن سبقوه من ذوي الأسماء الكبيرة الذين هيأت لهم مراكز أسرهم ان يتبوؤوا هذا المنصب، نعم استطاع عبد الله أولا بعلمه وثانيا بجهوده وإخلاصه أن يضع اسمه إلى جانب هذه الأسماء الكبيرة بل وأن يتفوق عليها وهكذا فإن الطموح إذا ما صاحبه العلم والعمل كان من أكبر أسباب النجاح، ولقد سعد مواطنو مكة المكرمة بتقدير الدولة لأمين عاصمتهم فسارعوا إلى الدعوة لإقامة حفل تكريمي له بهذه المناسبة وساهم الجميع فيه متبرعين بالمال الكثير، فلم يكن من عبد الله عريف إلا أن استجاب لهذهالعواطف الزاخرة من المواطنين ولكنه فاجأ المجتمعين بطلب إحالة هذه الأموال التي تجمعت إلى مشروع خيري نافع للبلد المقدس وساهم هو فيه بمبلغ مائة ألف ريال وقد أحيلت هذه المبالغ جميعها إلى إحدى الجمعيات الخيرية بمكة لتصرف في أعمال البر للمدينة المقدسة ومساعدة المحتاجين للعون من سكانها، وهكذا أبى حب عبد الله عريف لبلده إلا أن يظهر في كل مناسبة من المناسبات.
وفاته
هذا ولقد فوجئ الناس بوفاة عبد الله عريف رحمه الله في أواخر رمضان من عام 1397 هـ فلقد كان يقضي بأسرته بعضا من هذا الشهر في مدينة الطائف فحضر إلى مكة في نهاية الشهر معتمرا وبعد أن أدى نسك العمرة وصلى الفجر ذهب إلى بيته ليخلد إلى شيء من الراحة ولكنه وجد بعد ذلك في سريره وقد أسلم الروح، تغمده الله برحمته الواسعة، فلقد كان رجلا مخلصا محبا لوطنه كل الحب ولقد كانت لوفاته رنة أسى في جميع الأوساط لما عرف عنه من جليل الأعمال أسبغ الله عليه شآبيب رحمته وأحسن جزاءه في جنات الخلد إنه سميع مجيب.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 130 - 137.