عبد الله محمد الصغير
متوسط القامة لا بالطويل ولا بالقصير، حنطي اللون واسع العينين يضع على عينيه نظارة ذهبية، عظيم الأنف، خفيف شعر اللحية والعارضين حتى لتظنه أجرد يرتدي الجبة والعمامة الحجازية فيه سمت ووقار، ذلكم هو الشيخ عبد الله محمد الصغير أحد رجالات مدينة جدة وأعيانها البارزين.
لم أتمكن من تحديد تاريخ ميلاده، وأرجح أنه توفي في العقد السادس من هذا القرن الهجري الذى نقترب من نهايته، كان الشيخ عبد الله محمد الصغير نمطا فريدا من الرجال وقد هيأ نفسه لخدمة الناس والسعي في مصالحهم، ولم يكن حينما عرفته ذا مال ولكنه كان يملك القدرة على أصحاب الأموال، قدرة منبعها الحب ومبعثها الثقة والتقدير، وقد كان كما عرفت في مطلع حياته تاجرا من أوساط التجار ولكنه ما لبث أن ترك التجارة واكتفى بما يصل إليه من غلة البيت الذي يسكن جزءا منه ويؤجر الجزء الآخر، ومن بيت ثان يؤجره للغير وكان ليس له ولد وإنما يعيش هو وزوجه السيدة مصباح بنت محمد سعيد جاسر ثم ما لبثا ان تبنيا ابن أخيها علي جاسر الذي ولد لأخيها بجزائر جاوه ثم أرسل إليهابعد وفاة والده هناك.
عرفت الشيخ عبد الله محمد الصغير في الفترة ما بين الأربعينات إلى أواخر الخمسينات إذ كانت تربط زوجه صلة قربى بعائلتنا وكما علمت فإنها زفت إليه من منزل أسرتنا في جدة عرفت الرجل في هذه الفترة وقد وهب نفسه لخدمة الناس ورأيته يدخل إلى مكاتب التجار من أصدقائه ومحبيه فيقول لأحدهم بلهجة الأمر هات جنيها أو جنيهين أو عشرة فيؤديها له في الحال دون أن يسأله عن وجهة صرفها ودون أن يفصح هو عن ذلك يحافظ بها على أسرار الناس، يستر عوراتهم ويقضي حوائجهم ويؤدونها له راضين وهم يعلمون أنها انما توضع في موضعها الصحيح لأنها إنما تؤدى عن يد الثقة الأمين، وكان له مجلس في مدخل داره التي هدمت وأدخلت في الشارع الجديد شارع الذهب صباح كل يوم فيفد إليه أصحاب الحاجات ويسرون إليه بشؤونهم فإذا كان الضحى انطلق إلى داخل المدينة يزور أصدقاءه في مكاتبهم ومتاجرهم والكل يحتفي به ويوسع له ويسارع إلى طلبه عن رضى وارتياح، وأصبح الرجل مقصدا لأصحاب الحاجات يهرعون إليه في حوائجهم فلا يتردد لحظة في الاستجابة وما أسرع ما يكون قضاء هذه الحاجات على يديه لما وهبه الله من حب القادرين وما حبب إليهم من الاستجابة لكل ما يطلب دون تردد أو سؤال.
وسعى به الساعون إلى الدولة في فترة حرجة فأمر بمغادرة البلاد وهاجر الى مصر واشتركت مدينة جدة كلها في توديع الرجل الكريم منهم من ودعه في بيته ومنهم من ودعه في الميناء والخاصة من أصدقائه وهم كثيرون استقلوا الزوارق إلى الباخرة وبقوا معه فيها حتى أوشكت على الرحيل وأصبحت زوجه محل عناية أصدقائه فكانوا يترددون عليها ويتفقدون شؤونها تقديرا لزوجها ووفاء له في محنته وسعى الكثيرون من تجار مدينة جدة ووجهائها في إظهار الحقيقة لأولي الأمر، وإبطال الفرية المدسوسة، وماهي إلا أشهر قليلة حتى أصدر جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز أمره بالسماح له بالعودة إلى البلاد وكان قد قضى هذه الفترة ضيفا كريما بمنزل آل باناجه بالعباسية بالقاهرة وكان يوم عودته يوما مشهودا اشتركت مدينة جدة كلها في استقباله من الباخرة وعلى الميناء وضاق منزلهبالزائرين الذين توافدوا عليه ليل نهار يهنئونه بسلامة الإياب ويهنئون أنفسهم بعودته إليهم.
عين الوزيرية
وكانت مدينة جدة تعاني من نقص شديد في الماء وكان كبار أهلها يفكرون في الوسيلة أو الوسائل التي يمكنهم بها توفير الماء اللازم لمدينتهم وقد بذلت في هذا الصدد مساع كثيرة من ضمنها إصلاح العين الوزيرية التي عنيت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني بإيصالها إلى جدة في عام 1304 هـ والتي كانت تتوقف وتملح حينما تشح الأمطار، وكانت إذ ذاك متوقفة من سنوات طويلة فتم إصلاح مجاريها وبذلك تدفق منها الماء مرة أخرى وكان الشيخ عبد الله محمد الصغير أحد الساعين في إنجاز هذا المشروع فأسندت إليه إدارة هذه العين ولكنها ما لبثت أن توقفت فيما بعد إلى أن أكرم الله مدينة جدة بالمأثرة الكبرى لجلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وهي إجراء العين العزيزية التي كانت من أكبر عوامل نمو مدينة جدة واتساعها وذلك في أول المحرم 1365هـ.
نقول: إن الشيخ عبد الله الصغير اختير لإدارة العين الوزيرية بعد إصلاحها، لما يتمتع به من سمعة عاطرة في مجال الخدمة العامة للشعب، وهكذا وجد الشيخ عبد الله الصغير في هذا المشروع مجالا يكرس فيه وقته للعناية بأهم مرفق في حياة المدينة التي أحبته وأحبها حتى توفاه الله، ولقد أصيب فجأة بالشلل النصفي وقضى أيامه الأخيرة التي لم تطل كثيرا وهو يعاني من هذه العلة الفادحة حتى اختاره الله تعالى إلى جواره فكان يوم وفاته يوما مشهودا شاركت فيه مدينة جدة كلها في تشييعه إلى مثواه الأخير وكانوا يعزون أنفسهم فيه كما يعزون ذويه، فقد كان فقيد الجميع تغمده الله بواسع رحمته وأحسن مثوبته في دار الخلد إنه على ما يشاء قدير.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 127 - 129.