عبد الله السليمان الحمدان
نحيل الجسم، قصير القامة، كبير الرأس، أسمر اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، خفيف اللحية، يرتدي العباءة العربية والعقال.
ولد الشيخ عبد الله السليمان الحمدان بمدينة عنيزة عام 1302هـ وتلقى العلم على أيدي علماء بلده كما أتقن الكتابة والحساب وكان يتميز بحسن الخط وجماله وكان عبد الله السليمان طموحا منذ نعومة أظفاره فما أن بلغ مرحلة الفتوة حتى توجه إلى الهند وعمل كاتبا في بيت آل الفوزان في مدينة بومباي كما كان يعمل أمثاله من الفتية الطامحين، يلتحقون بالبيوت التجارية العربية في الهند فيفيدون من ذلك دخلا حسنا ودربة جيدة على شؤون التجارة، ولم يمض طويل وقت حتى انتقل إلى البحرين فافتتح له مكتبا تجاريا برأس ماله البسيط الذي جمعه أثناء عمله في الهند، فلقد كان الفتى عبد الله السليمان طموحا إلى عمل تجاري مستقل، ولكن الفتى يقدر لنفسه شيئا وتريد الأقدار له شيئا أعظم فقد كان أخوه الأكبر محمد السليمان كاتبا في ديوان السلطان عبدالعزيز آل سعود ـ جلالة الملك عبدالعزيز فيما بعد - فمرض محمد بأذنيه واضطر أن يعتزل العمل فترة من الزمان استدعى فيها أخوه عبد الله السليمان ليحل محله في الكتابة للسلطان وانقضت الفترة المرضية وعاد محمد السليمان إلى عمله بديوان السلطان عبد العزيز فعاد هو إلى عمله في البحرين الذي كان أخوه حمد السليمان يديره في غيابه، ولكن المرض يعاود الأخ الأكبر فيعتزل عمله لدى السلطان عبدالعزيز نهائيا، ويطلب السلطان من عبد الله السليمان 1330هـ أن يتسلم الكتابة في ديوانه ويعتزل عمله نهائيا في البحرين ويتكفل السلطان عبدالعزيز بسداد ديون محله التجاري وتسوية أموره ليتفرغ لخدمة السلطان عبد العزيز بصورة نهائية وهكذا دبر الله الأمور لعبد الله السليمان بحكمته الأزلية حين ربط أسبابه بأسباب السلطان عبدالعزيز الذي كان نجمه يسطع في سماء الجزيرة العربية في ذلك الزمان فتنضم أقطارها واحدة تلو الأخرى إلى عقد مملكته العظيمة فتنضم إليه إمارة حائل وعسير، ومملكة الحجاز، وقبلها تنضم إليه إمارة الهفوف ثم أخيرا إمارة الأدارسة في جيزان، ويرى جلالة الملك عبد العزيز بفراسته العظيمة أن مجال عبد الله السليمان الحقيقي ليس هو في ديوان الكتابة وإنما هو في المهام العظيمة لهذه الدولة الفتية التي تمتد رقعتها يوما بعد يوم والتي تخرج من دور البساطة إلى مجال يتعاظم الزمن والتي تفتقر إلى جهود الرجال الكبار الذين يشيدون صرح الدولة ويقيمون أسسها بما يتفق مع متطلبات ضخامتها وامتدادها وتشابك مصالحها الداخلية والخارجية فأسند جلالته إلى عبد الله السليمان الشؤون المالية للدولة فكان مديرا لها ثم وكيلا للمالية وللتاريخ فإن أول من ولي الشؤون المالية لجلالة الملك عبدالعزيز بعد فتح الحجاز هو المرحوم الشريف شرف رضا - عضو مجلس الوكلاء فيما بعد ـ ثم النائب الثاني لرئيس مجلس الشورى أخيرا ـ وبعدها تسلم شؤون المالية الشيخ عبد الله السليمان ولم يمض طويل وقت حتى أصبحت وكالة المالية وزارة وكان عبد الله السليمان أول وزير لها ثم أسندت إليه وزارة الدفاع فيا بعد وفي وقت من الأوقات تولى وزارة الخارجية نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فيصل الذي كان يتولى وزارة الخارجية منذ تأسيسها - جلالة الملك فيصل رحمه الله.
عبد الله السليمان وزير المالية
ولكي نتحدث عن عبد الله السليمان لابد أن نذكر للتاريخ شيئا عن الصلاحيات الضخمة التي كانت في يد الرجل أثناء ولايته لوزارة المالية التي امتدت طيلة حياة الملك عبدالعزيز رحمه الله - وفترة من عهد ولاية الملك سعود.
كانت أمور الدولة مقسمة إلى قسمين أو على الأصح بين رجلين، الرجل الأول هو صاحب السمو الملكي الامير فيصل - جلالة الملك فيصل فيا بعد - وكانت وظيفته الرسمية النائب العام لجلالة الملك في الحجاز وكان مرجعاً للشؤون الداخلية فكانت الشرطة والمعارف والبلديات والصحة والبريد والتلغراف تابعة له كما كان يتولى الشؤون الخارجية وهى تمثيل جلالة الملك عبدالعزيز في الخارج كما كانت اتصالات السفراء الأجانب ومفاوضاتهم تتم عن طريق مكتب وزارة الخارجية ويرجع إلى سموه في كل الأمور الخارجية وهو يعرض بدوره ما يرى عرضه على والده المغفور له الملك عبد العزيز، أما وزارة المالية التي كان وزيرها الشيخ عبد الله السليمان فكانت تمثل في الواقع كل شيء في الدولة باستثناء ما ذكرناه عن مهام النائب العام لجلالة الملك فكانت وزارة المالية هي المرجع في الشؤون المالية جميعها، كما كانت تقوم إذا صح هذا التعبير بأعمال وزارة الأشغال والحج والمواصلات والدفاع وأعمال الخاصة الملكية وكان الشيخ عبد الله السليمان يتلقى صلاحياته العظيمة من ثقة المغفور له الملك عبدالعزيز الشخصية فيه فكان يتمتع بسلطة عظيمة لا نغالي إذا قلنا إنه كان ينفرد بها طيلة السنوات الطويلة التي قضاها في منصبه العظيم ولقد قام بتدوين الدواوين في وزارة المالية وأسند رئاستها إلى رجال أكفاء كما قام بتأسيس الدوائر الرسمية في الملحقات الشرقية والجنوبية فتأسست رئاسة أموال وجمارك الإحساء كما تأسست رئاسة أموال وجمارك جيزان وأخذ ينتدب الرجال المشهود لهم بالقدرة والكفاءة لإدارة هذه المراكز وتأسيسها وتثبيت قواعدها، وكان يلقى من جلالة الملك عبدالعزيز تأييدا كبيرا وثقة كاملة فاستطاع بهذا التأييد وبهذه الثقة أن ينهض بالأعباء الضخمة التي وكل إليه أمرها فكان رجل الدولة وواحدها في ذلك الزمان، ولقد بلغ من ثقة جلالة الملك عبدالعزيز فيه أنه كان يدخل كل صباح مهجع جلالته دون استئذان، وللتاريخ فإن عبد الله السليمان كان رجلا يتميز بالإخلاص التام في خدمة الدولة حتىأنه يعتبر من أكبر العاملين في تأسيسها.
الملك فيصل وعبد الله السليمان
حدثني المرحوم الشيخ إبراهيم السلمان بن عقيل رئيس ديوان صاحب السمو الملكي النائب العام لسنوات طويلة - السفير السعودي بالقاهرة فيا بعد ـ قال جاء الشيخ عبد الله السليمان مريضا إلى مصر وذهب إلى مدينة حلوان للاستشفاء وكان سمو الأمير يقصد الأمير فيصل رحمه الله - إذ ذاك في القاهرة وعلم بالأمر فقال لي إنه سيذهب لزيارة عبد الله السليمان في حلوان ولكنه طلب مني أنا أكتم أمر الزيارة لأنه يريد أن يفاجئه بها فلو علم عبد الله السليمان بأن فيصل سيزوره لسارع هو إلى ترك المصحة، وبدأ سموه بالزيارة فكتمت الأمر وفي أصيل ذلك اليوم ذهبت بمعية سموه إلى حلوان وفوجئ عبد الله السليمان بزيارة فيصل فبكى من التأثر وقال لسموه أنت فيصل بن عبدالعزيز تحضر لزيارتي وما أنا إلا خادم لأبيك قال الشيخ إبراهيم السليمان ولكن فيصل طيب خاطره وقال له إنك من بناة الدولة - والذين يعرفون الملك فيصل رحمه الله يعرفون أنه في مثل هذه المواقف إنما يزن كلامه بميزان الذهب والواقع أن الرجلين يمكن أن يطلق عليهما أنهما من بناة الدولة رحمهما الله.
إلغاء رسوم الحج.
حينما تم توحيد المملكة العربية السعودية كانت الدولة تعاني من صعوبات مالية عظيمة وخاصة في سنوات الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات الميلادية وكانت واردات الدولة تتمثل في الرسوم الجمركية ثم رسوم الحج وهو مبلغ خمسة جنيهات ذهبية تتقاضاها الدولة على كل حاج باعتبارها رسم المحجر الصحي، وكان من أجل أماني الملك عبد العزيز رحمه الله أن يلغي هذه الرسوم المفروضة على الحجاج لأن ضميره لم يكن مطمئنا لها - وطالما أفضى بأمنيته تلك إلى وزير مالیته عبد الله السليمان، ولكن عبد الله السليمان لم يكن باستطاعته المجازفة بإلغاء مورد يعتبر المورد الثاني من موارد الدولة إذ ذاك وهي في حاجة إلى المزيد من المال، وحينما ظهر الزيت لأول مرة في شرق المملكة راود جلالته الأمل في أن يكون هذا الزيت سببا في إلغاء هذه الرسوم يعوض الله به الدولة ما تفقده منها، ولقد كان من أعز أماني عبد الله السليمان أن يحقق لجلالة الملك عبدالعزيز هذا الحلم العظيم، وحينما توصل الشيخ عبد الله السليمان مع شركة أرامكو إلى اتفاق المشاركة الذي يسمح للدولة بمشاركة شركة أرامكو أرباحها أسوة بما فعلته فنزويلا في اتفاقياتها سارع بالكتابة إلى جلالة الملك عبد العزيز يزف إليه بشرى التوصل إلى هذه الاتفاقية ومن ثم يستطيع جلالته إلغاء رسوم الحج وتحقيق الأمنية الغالية التي كان يتمناها فبادر جلالة الملك عبد العزيز بإلغاء رسوم الحج وأعلن هذا الإلغاء في حينه، وكان لهذا الإلغاء رنة فرح كبرى في جميع العالم الإسلامي، وللتاريخ فإن اتفاقية المشاركة هذه تعتبر أول اتفاقية من نوعها في المنطقة بالنسبة للدول المنتجة للنفط في ذلك الزمان وكان ذلك عام 1950 ميلادية الموافق لعام 1370للهجرة.
انجازات عبد الله السليمان
إذا أردنا تقييم رجل من الناس فلابد أن ننظر في إنجازاته وما قام به من عمل نافع في حياة قومه وأثر هذا العمل في نهضة البلاد وتقدمها فاذا تلمسنا هذه الآثار النافعة في تاريخ عبد الله السليمان وجدناها بارزة في إنجازاته سواء أكانت هذه الإنجازات وهو في مركز القوة والسلطان وزيرا يأمر فيطاع أو رجلا عاديا تخلى عن المنصب والنفوذ وأصبح واحدا من الناس لا يتميز عنهم إلا بما وهبه الله من صفات، كما هو شأن الخاصة من الناس، ولسنا هنا في مجال إنجازات عبد الله السليمان كوزير للمالية فلسنا نترجم هنا للتاريخ وزيرا ورجل دولة بقدر ما نترجم لعبد الله السليمان كشخصية عامة ظهرت في حياة الناس فأثرت بأعمالها في هذه الحياة ولهذا فإننا سنترك الجانب الرسمي الحكومي من تاريخ عبد الله السليمان ونتحدث عن الجانب الشخصي الذي هو هدف الترجمة فنجلو منه ما يظهر الصورة الحقيقية للرجل بعيدا عن المنصب والسلطان.
إنشاء الفنادق
كانت المملكة في العقود الأولى من تاريخها تعاني من نقص في كل مظاهر الحضارة والتمدين فالحياة كانت تتخذ شكلا بسيطا في النصف الأول من هذا القرن الهجري ولقد كان القادمون إلى البلاد يفتقرون إلى فندق ينزلون فيه فلا يجدون من ذلك شيئا في أي مدينة من مدن المملكة وكان هذا يظهر بصورة جلية في مواسم الحج حينما يؤم البلاد أعداد ضخمة من الحجاج الموسرين والذين يرغبون أن يجدوا الفندق الملائم في مكة وجدة والمدينة المنورة ومشاعر الحج، كما أن الدولة نفسها كانت تفتقر إلى ذلك بالرغم من بيوت الضيافة التي خصصتهالضيوفها وكان زعيم مصر الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب باشا قد أسس شركة مصر للملاحة كما أسس شركة مصر للسياحة وحضر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج واتصلت أسبابه بأسباب الشيخ عبد الله السليمان رحمهما الله فأبدى رغبته في إيجاد فنادق لحجاج مصر في كل من جدة ومكة لينزل بها الحجاج المصريون وقام فعلا باستئجار منزل الحاج يوسف زينل علي رضا ـ أمام فندق جدة بلاس - ليكون فندق مصر في جدة ولكن المشكلة كانت في إيجاد فندق في مكة يضم الأعداد الكبيرة من الحجاج التي تفد للحج والتي تستقر جميعها في مكة قبيل أيام الحج وبعد أداء المناسك وهنا انبرى الشيخ عبد الله فتكفل ببناء الفندق على حساب وزارة المالية وأفردت للفندق قطعة أرض في شارع أجياد أمام مبنى وزارة المالية وقامت الوزارة فعلا بتشييد الفندق الضخم المكون من عدة طوابق وبهذا تم تأسيس أول فندق حديث في مكة المكرمة وأطلق عليه اسم فندق بنك مصر وقد تم تأجيره على شركة مصر للسياحة وكان الفندق يضم المئات من الحجاج المصريين وغيرهم في كل عام، هذا الفندق باعته وزارة المالية فيما بعد على الشيخ صدقة وسراج كعكي ولايزال يدار كفندق حتى اليوم، الواقع أن عبد الله السليمان لم يكتف بهذا وإنما شجع كذلك الشيخ عطا الياس على انشاء فنادق التيسير في مكة وجدة والمدينة المنورة ومنى وكان هذا التشجيع نواة لانطلاق الحركة الفندقية في البلاد ولكن عبد الله السليمان بطموحه لم يرض عن الفنادق المذكورة فقام هو شخصيا بإنشاء الفنادق الخاصة به في جدة وهي فندق الكندرة وفندق البساتين ثم فندق قصر الكندرة ثم فندق قصر جدة الذي تم بناؤه بعد ترك الوزارة واستقدم لهذه الفنادق المديرين المتخصصين وأجهزة الادارة والخدمة الكاملة حتى أصبحت هذه الفنادق هي أولى فنادق الدرجة الأولى في المملكة واعترف بها على المستوى الدولي للفنادق وهو بهذا العمل الجريء قد أدى لبلاده خدمة من أجل الخدمات لأنه سد حاجة البلاد من الفنادق كما أسبغ عليها مظهرا حضاريا كانت في أشد الحاجة إليه، قد يقول البعض ولكنه أفاد شخصيا من هذا العمل ربحا ماديا ودخلا مثمرا ونقول أنه ليس من الضروري أن يكون العمل النافع مجردا من المنفعة والربح فما أكثر الأعمال المربحة والمثمرة ماديا ولكن العمل إنما يقاس بنفعه للبلاد والعباد فإذا كان يحقق هذا النفع ويعود على صاحبه بالربح فهو عمل طيب مشكور لا مراء في ذلك ولا جدال، ولا ينتقص منه إلا حاقد أو كسلان..
المستشفى اللبناني
وكما كانت البلاد تعاني من نقص الفنادق كانت تعاني كذلك من قلة المستشفيات ولعل الكثيرين لا يعلمون أن مدينة جدة بل كل المدن الكبيرة في المملكة لم يكن فيها سوى مستشفى واحد هو المستشفى العـام ـ مستشفى حكومي واحد في كل مدينة - ومن المعلوم أن المستشفى العام الحكومي هو غير المستشفى الخاص سواء في تجهيزاته أو خدماته، وحينما قدم إلى جدة بعض الأطباء اللبنانيين ولديهم فكرة افتتاح مستشفى خاص في جدة لم يجدوا من يحقق طلبتهم سوى الشيخ عبد الله السليمان فهل يعلم القراء ماذا فعل عبد الله السليمان لإخراج الفكرة إلى حيز الوجود، لقد شجعهم في البداية على افتتاح المستشفى وافتتح فعلا ولكن في مبنى قديم متهالك فلم يلبث الشيخ عبد الله السليمان أن أخلى فندق الكندرة في جدة - بعد استكمال بناء فنادقه الأخرى وحوله إلى مستشفى فانتقلت إليه إدارة المستشفى اللبناني وقام الشيخ عبد الله السليمان ببناء جناح جديد في المستشفى وهكذا قام أول مستشفى خاص في مدينة جدة بل في المملكة بتشجيع كريم من الشيخ عبد الله السلمان رحمه الله وبمثل هذه الأعمال تقاس همم الرجال.
عبد الله السليمان والملك عبد العزيز
كان الشيخ عبد الله السليمان يسكن في جدة في بيوت صغيرة في محلة الكندرة في موضع فنادق الكندرة الحالية قبل بناء هذه الفنادق وكان بمعية جلالة الملك عبد العزيز في السيارة أصيل يوم فمر موكب جلالته أمام هذه البيوت فسأله جلالته أين يسكن؟ فأشار إلى هذه البيوت الصغيرة فقال جلالته كيف ترضى وتطمئن للسكن في هذه الدور الصغيرة فقال إنني مكتف بها يا طويل العمر وأثناء هذه الرحلة مر الموكب من طريق المدينة فرأى جلالة الملك عبد العزيز قصراً مشيداً في طريق المدينة المنورة فسأل لمن هذا القصر؟ فقيل: إنه للشيخ محمد رضا ولم يكن من جلالته إلا أن طلب من الشيخ محمد رضا أن يتنازل عن القصر بأثاثه لعبد الله السليمان ولم يجد الشيخ محمد عبد الله رضا بدا من إجابة الطلب واستدعى جلالته عبد الله السليمان وقال له: هذا القصر أصبح لك فانتقل إليه ولكن عبد الله السليمان قال لجلالته إن سمو الأمير فيصل لا بيت له في جدة وهو أحق بهذا القصر مني أما أنا فيكفيني ما أنعم به من رضاء جلالتكم وهكذا يثبت الشيخ عبد الله السليمان بأدبه العالي أنه رجل الدولة يؤثر جانب المليك وأبنائه على نفسه، ولم تكن هذه هي الأولى من عبد الله السليمان، فحينما ولي العرش جلالة الملك سعود كانت الحاجة تدعو إلى وجود صاحب السمو الملكي فيصل بجانب أخيه الملك سعود في جدة وكان الملك سعود قد بنى قصورا له في جدة ولم يكن لفيصل سوى البيت الذى أشرنا إليه آنفا والمخصص لسكنه وأسرته، وذهب عبد الله السليمان إلى فيصل في مكة يقول له لابد من بقائك بجانب أخيك في جدة قال ولكن لا يوجد لي مكتب في جدة وكانت السيدة نورة الخريجي حرم الشيخ عبد الله السليمان وأم ابنه خالد قد شيدت فيلا جميلة في جدة وأتمت تأثيثها فلم يكن من عبد الله السليمان إلا أن قال له هذا بيت أم خالد بين يديك فاستعمله مكتبا لك ولم يقبل سموه بذلك فأرسل الشيخ عبد الله السليمان السيدة نورة إلى سموه ترجوه أن يقبل المنزل وهكذا كان.
هذه الالتفاتات العالية من الشيخ عبد الله السليمان تدل على علو همته ونبل شخصيته ولو كان غيره في مكانه لفرح بمنحة الملك واستأثر بالقصر كما استأثرت زوجه بقصرها ولكن الرجل كان يتصرف بروح رجل الدولة وأحـد بناتها ومؤسسيها رحمه الله.
الاستقالة
بعد وفاة جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وولاية الملك سعود للعرش تقدم عبد الله السليمان إلى جلالة الملك سعود باستقالته من منصبه ولكن الملك (سعود) أصر عليه بالبقاء واستمر الشيخ عبد الله السليمان في منصبه فترة من الزمن ولكنه رأى بثاقب نظره أن الظروف تتغير وأن الدولة الجديدة قد تحتاج إلى غمط جديد من الرجال - لكل زمان دولة ورجال - وهكذا لم يمض طويل وقت حتى رأى عبد الله السليمان نفسه مضطراً للتخلي عن المنصب الذي احتفظ به طيلة عهد الملك عبد العزيز والذى امتد نحوا من خمسين عاما أو تزيد فتقدم من جديد إلى جلالة الملك سعود بالاستقالة وراجيا بإلحاح إعفاءه من العمل بعد أن كبرت سنه وضعفت صحته وهكذا أجيب إلى طلبه وصدر بلاغ من الديوان الملكي بقبول هذه الاستقالة مع كلمة تقدير طيبة لجهود الرجل في بناء الدولة وتفانيه في الإخلاص وهكذا بدأ لوزارة المالية عهد جديد كان مختلفا عن العهد الماضي القديم، حينما كانت أمور وزارة المالية إنما تدبر بأمر رجل واحد وقد يكون ذلك العهد يفتقر إلى التنظيم، على أي حال كان يتميز بالنفوذ العظيم لهذا الرجل الذى كان إخلاصه للدولة وللمليك واضح المعالم بارز السمات.
مصنع الإسمنت
لم يقبع عبد الله السليمان بعد تركه الوزارة في منزله ليأسى على ما فاته من سلطان أو لينعم بما تجمع له من ثروات طيلة الخمسين عاما التي قضاها في خدمة الملك عبد العزيز وإنما نظر بثاقب بصيرته إلى ما تحتاجه البلاد من مشروعات وما تنتظر من مستقبل عظيم فقام بتأسيس أول مصنع للإسمنت في المملكة في مدينة جدة أكبر ميناء في البلاد، وكانت مدينة جدة قد بدأت تنمو وتمتد بعد إزالة السور الذي كان يحيط بالمدينة وبعد وصول الماء إليها، كان هذا السور يمتد في الناحية الشمالية أمام ميدان البيعة من عمارة النشار حاليا إلى عمارة الشيخ أحمد موصلي المتخذة كفندق وفيه باب اسمه باب جديد ويمتد شرقا من أمام عمارة باخشب إلى باب مكة وكان هناك باب يسمى باب مكة ويمتد غربا من موضع فندق قصر البحر الأحمر إلى موضع عمارة الشيخ سليمان الحمد في ميدان الملك عبدالعزيز، وتمتد جنوبا من موضع البنك العربي ماراً بامتداد شارع الملك عبدالعزيز إلى مقبرة الأسد وفيه باب اسمه باب شريف، وكل العمران الذي حدث بعد ذلك هو حديث بعد إزالة السور وهو يساوي مئات أضعاف مساحة المدينة القديمة نقول رأى عبد الله السليمان إن المدينة ستنطلق وتنمو وتمتد، وأنه لابد من إيجاد مصنع للإسمنت يسد حاجة البلاد وكان قد حصل على امتياز ببناء مصنع الأسمنت، هذا - لعل ذلك في أواخر عهد الملك عبد العزيز - فقام بإبراز الفكرة إلى حيز الوجود وأسس شركة الأسمنت السعودية في جدة التي باشرت في بناء أول مصنع للأسمنت في المملكة حيث قام ولا يزال يقوم بسد كثير من حاجة البلاد إلى هذه المادة الهامة للإعمار، وهكذا ساهم عبد الله السليمان بعمله هذا في تعمير البلاد وتطوير وسائل الإعمار فيها.
توزيع الأراضي وتأجيرها
وعلى ذكر الإعمار - أوذ أن أذكر أن عبد الله السليمان رحمه الله ساعد على ـ تعمير مدينة جدة بطريقة عملية فقد قام بتوزيع الأراضي في شارع الكندرة وهو الشارع الممتد من مقبرة حواء إلى ميدان المطار القديم - فبنى في هذه الأراضي آل الخريجي والمعلم محمد بن لادن رحمه الله والشيخ محمد السليمان التركي وغيرهم كما وزع أراضي أخرى من موضع عمارة الشيخ أحمد موصلي أمام قصر جدة إلى باب مكة وقد قام بالبناء فيها كل من الشيخ أحمد موصلي والمرحوم محمد باخشب والشيخ محمد سرور الصبان، وغيرهم وكانت الأراضي في منطقة البغدادية شمال جدة محجوزة لشركة عقارية تقدمت إلى الدولة بفكرة تعمير الأرض وبيعها بالتقسيط ولكنها لم تفعل شيئا طيلة سنوات، فأشار عبد الله السليمان على البلدية بتأجيرها بأجور رمزية على الراغبين ثم بيعها عليهم.
وهكذا انطلقت حركة البناء بعد أن أصبحت الأرض ميسورة وأخذت الأيدي تتداولها بأسعار زهيدة وهكذا انتشر العمران وامتد، وأصبحت مدينة جدة تتميز في ذلك الوقت عن سائر مدن المملكة بأن العمران الذي امتد فيها هو عمران أهلي وليس عمرانا حكوميا كما هو الشأن في بعض المدن الأخرى الذى بدأ العمران الحكومي فيها أولا ثم جاء التعمير الأهلي وهكذا أثبت عبد الله السليمانأنه رجل دولة يعمل لمصلحة البلاد وإعمارها بكل وسيلة يراها مؤدية لذلك، ولم نر أنه استأثر لنفسه أو لذويه بشيء من هذه الأراضي التي يسر الحصول عليها للناس تيسيرا لا مزيد عليه.
عبد الله السليمان وجامعة الملك عبد العزيز
ويأبى عبد الله السليمان إلا أن يختم حياته بعمل من أعظم الأعمال بهبته السخية العظيمة لجامعة الملك عبد العزيز فلقد كانت له مزرعة في شرق مطار جدة وبنى حولها أربعة قصور، مساحة أرض كل قصر أربعون ألف متر، وبنى فيها فيلا كبيرة لابنته السيدة أسماء عبد الله السليمان كما ألحقت بكل قصر ملاحق كثيرة وقد انقطع الماء عن المزرعة بسبب نضوب العين التي اشتراها ـ وهي عين فرج يسر ـ والتي كانت تمد المزرعة بالماء فبقيت هذه القصور غير مسكونه ردحا من الزمن ثم ظهرت فكرة الدعوة إلى إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز في مدينة جدة وبدأت اللجنة التأسيسية في جمع التبرعات للجامعة وكان الشيخ عبد الله السليمان رحمه الله مريضا فبعث إلى أعضاء الجامعة يدعوهم للاجتماع به وفاجأهم بتقديم القصور الأربعة مع ملحقاتها والفيلا هدية منه للجامعة وأردف ذلك بما يحتاجونه من الأرض التي بلغت نحوا من ستمائة ألف متر وهكذا أخرج عبد الله السليمان رحمه الله فكرة الجامعة من طور الخيال إلى عالم الحقيقة والواقع وللتاريخ فإن المرحوم محمد باخشب باشا كان أول من تبرع بمبلغ سخي للجامعة واقترح إطلاق اسم جلالة الملك عبدالعزيز عليها وكان المبلغ الذي سماه لتبرعه هو مليون ريال وكان هذا المبلغ في ذلك الزمان يعتبر ثروة عظيمة وبينما كانت التبرعات تتراوح بين الألف وعشرات الألوف وأعظم المتبرعين لم يزد تبرعهم عن مائتي ألف أو ما حولها كان تبرع محمد باخشب رحمه الله مليونا كاملا من الريالات، وهذا التبرع الضخم الذى دفع الكثيرين فيما بعد إلى التبرع مع هبة الشيخ عبد الله السليمان العظيمة الضخمة هما اللذان أسرعا بإخراج الجامعة إلى عالم الحقيقة والواقع كما ذكرنا، بقي أن نقول إنه إذا كان تبرع باخشب بمليون ريال فإن قيمة تبرع الشيخ عبد الله السليمان في وقتها كان يزيد عن العشرة ملايين ريال فالقصور الأربعة والفيلا كانت تتراوح تكلفتها دون قيمة الأرض المقامة عليها - نحوا من أربعة إلى خمسة ملايين من الريالات، وحينما نقرر هذا الرقم فإننا نقوله من واقع نعرفه أكثر مما يعرفه الغير لأن كاتب هذه السطور هو الذي تولى الإشراف على بناء هذه القصور وملحقاتها للشيخ عبد الله السليمان رحمه الله أما الأرض فقدر ثمنها في ذلك الوقت بنحو من ستة ملايين من الريالات وهي في الوقت الحاضر تساوي بضع مئات من ملايين الريالات إن لم تصل إلى أكثر من ذلك.
وهكذا ختم الشيخ عبد الله السليمان حياته بهذه الهبة العظيمة التي هي من أعظم الحسنات الجارية وأجلها إذ وهب قصوره للعلم فأصبحت هذه القصور تمثل كليات الجامعة الفتية جامعة الملك عبد العزيز وأخذت الجامعة تُعِدُّ مخططات توسعها على الأرض الكبيرة التي وهبها لها الرجل العظيم وهكذا أراد الله تعالى لعبد الله السليمان أن يختم حياته بأجل الأعمال وأعظمها إذ هيأ بهبته السخية هذه بيوتا للعلم جزاه الله خير الجزاء وأحسن ثوابه في جنات الخلود.
وَفَاة عبد الله السليمان
هذا وكانت وفاة عبد الله السليمان رحمه الله عام 1385 هـ بعد مرض طويل استقدم له بعض كبار الأطباء من انجلترا وبعد أن أجريت له استعدادات الجراحة وجد أن الداء قد استشرى وتمكن فلم يجد فيه علاج فغادر هذه الحياة وقد وصل فيها إلى ذروة المجد والسلطان كما وهب من ثروته ما نسأل الله تعالى أن يكون له عوضا في دار البقاء رحمه الله وأحسن مثوبته فلقد كان من أعظم الرجال.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 110 - 124.