سليمان أمان قابل
متوسط القامة ممتلئ الجسم شديد السمرة واسع العينين يضع على عينيه نظارة ذهبية كان يرتدي الجبة والعمامة الحجازية ثم أصبح يرتدي العباءة والعقال المقصب في العهد السعودي.
إن ما لفت نظري في تاريخ الشيخ سليمان قابل هي عصاميته الفذة فلقد بدأ حياته مع أخيه الشيخ عبد القادر قابل بداية بسيطة ولكنه استطاع بطموحه وعصاميته أن يتبوأ المناصب الكبيرة فى العهد الهاشمي ثم في العهد السعودي وأن يستطيع محله التجاري افتتاح شارع من أهم شوارع مدينة جدة كما سيأتي إيضاحه فيما بعد.
رئيس المحكمة التجارية
عرفت الشيخ سليمان قابل وهو يتولى منصب رئيس المحكمة التجارية بمدينة جدة، وهي أول محكمة من نوعها تقام في العهد السعودي للفصل في الأمور التجارية التي لها طابع خاص وذلك لما تتميز به مدينة جدة من التخصص في أمور التجارة بأنواعها، كما كان يمارس الأمور المتعلقة بالتجارة منذ العهد الهاشمي فلقد كان يرأس الإدارة التي تمنح تراخيص الاستيراد في وقت من الأوقات وهو أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الرجل قد استطاع الفوز بثقة الدولة في العهد الهاشمي والعهد السعودي على السواء وهو يدل كذلك على أن شخصيته العصامية وطموحه قد مهدا له السبيل للبروز بين أقرانه من الرجال ولعله من المناسب أن نذكر أن الشيخ سليمان قابل تولى رئاسة أول شركة للسيارات تأسست في مدينة جدة في أوائل العهد السعودي ولكن هذه الشركة لم تستمر فقد واجهتها مشاكل كثيرة انتهت بتصفيتها.
شارع قابل
على أن أهم إنجاز يتميز به الشيخ سليمان قابل في نظري هو افتتاحه لشارع قابل المعروف والمسمى باسم أسرته حتى اليوم وهو شارع من أهم شوارع مدينة جدة كما هو معلوم، ولهذا الشارع قصة يحسن ذكرها فإن الملك الحسين بن علي هو الذي قام ببناء الشارع في الثلاثينات في عهد ولايته عرش الحجاز وفي عهد ابنه الملك علي بن الحسين اشتراه آل قابل من الملك على مقابل بعض المال وبعض الأغذية التي كانت حكومته في أشد الحاجة إليها لتصرف للجند خلال الحرب السعودية الهاشمية، قالوا وكانت الصفقة في مصلحة المشتري أكثر منها في مصلحة البائع وليس هذا هو المهم في الأمر ولكن المهم أن الشيخ سليمان قابل استطاع بذهنيته المتفتحة أن يجعل من هذا الشارع أهم شارع في مدينة جدة في ذلك الزمان فلقد كان الشارع مكشوفا فتعاقد بيته التجاري مع شركة ألمانية على تسقيفه وتم تغطية الشارع بسقف من المعدن المضلع ـ التوتوه - يقوم على أعمدة حديدية ويرتفع ارتفاعا كبيرا لأن علو الشارع كان قد بني عليه دور من المكاتب التجارية، ولقد شاهدت العمل في تغطية الشارع في الأربعينات في أوائل العهد السعودي وهو يسير على قدم وساق حتى تمت التغطية على أحسن ما تكون في ذلك الزمان ولم يكتف آل قابل بهذا التجديد، ولكنهم استوردوا مكينة كهربائية ضخمة وأدخلوا النور الكهرباي والتهوية الكهربائية إلى كل دكان ومكتب في الشارع فتدافع أصحاب الدكاكين إلى الاستئجار في شارع قابـل وأصبـح الشارع مختصا بالقماشين ومن إليهم ممن تحتاج بضائعهم إلى مثل هذه التحسينات والتجديدات التي تميز بها شارع قابل، إن آل قابل قد أفادوا كثيرا من التحسينات التي أدخلوها على شارعهم، ولكنهم في نفس الوقت قد أفادوا الناس، وقدموا للمدينة التي ينتمون إليها خدمة حضارية لاشك فيها، ولقد ذكرت فيما مضى من هذه التراجم أن الربح لا يغضن من قيمة العمل المفيد ولا ينقص من تقديره وأن الجانب الذي يعنينا منه هو مقدار ما يفيد منه الناس وما يدخل على الوطن من أسباب الحضارة والتيسير وفي رأيي أن هذا العمل إذا كان تجاريا فإن توفر عنصر الربح جوهري لبقائه ودوامه.
موائد الإفطار في رمضان
وكان منزل آل قابل في مدينة جدة يتميز كذلك بإقامة موائد الإفطار في كل يوم من أيام رمضان من بداية الشهر إلى نهايته وكانت هذه الموائد تضم في كل يوم كبار موظفي دائرة حكومية مع بعض أعيان المدينة وتجارها وكانت هذه العادة الجميلة تتيح لآل قابل توثيق علاقاتهم بكبار موظفي مدينة جدة وهو نوع مما يسمى في الوقت الحاضر بالعلاقات العامة لم يكن معروفا في ذلك الزمان، على أي حال لقد كان منزل آل قابل مفتوحا مغرب كل يوم في رمضان وكانت موائدهم منصوبة لاستقبال الضيوف كما كان منزلهم في مساء كل يوم مفتوحا لأصدقائهم من أعيان المدينة وكنت أرى الحاج عبدالله علي رضا قائممقام جدة وشقيقه الحاج زينل علي رضا ممن يحضرون إلى منزل آل قابل أصيل كل يوم حيث يصلون المغرب جماعة ويتسامرون ساعة من الليل ثم يعود كل منهم إلى داره على عادة كبار أهل جدة في ذلك الزمان.
وكان منزل آل قابل من المنازل القليلة التي تضاء بالكهرباء في وقت لم تكن فيه الكهرباء معروفة إلا في منازل السفارات والشركات الأجنبية.
وكان منزل آل قابل يقع في الحدود ما بين حارة الشام وحارة المظلوم ولايزال هذا المنزل قائما ولكن أهله قد تركوه منذ سنوات طويلة بعد وفاة كبار رجال العائلة وأصبح المنزل خربا غير مسكون.
أهل الحارة وعنعناتهم.
وعلى ذكر منزل آل قابل الذي ذكرنا أنه يقع في الحدود ما بين حارة الشام والمظلوم نذكر هنا حادثة طريفة تتعلق بموضوع حارات جدة والعنعنات التي كان يتمسك بها رجال الحارة أو الحارات على الأصح وهي تدل على مدى العقلية التي كانت تتحكم في عقول بعض الناس في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري الذي ودعناه منذ بضعة شهور، كانت مدينة جدة تنقسم إلى أربع حارات هي: حارة الشام وكانت في شمال المدينة وفيها مقر الحكومة ومقر السفارات والشركات الأجنبية، مما يلي البحر والشمال وحارة المظلوم وهي تقع في شرق مدينة جدة وتمتد إلى وسطها، وحارة اليمن وهي في جنوب جدة وكان يتمركز فيها وكلاء الحجاج وينزل فيها الحجاج قبل بناء مدينة حجاج البحر وحارة البحر وهي ممتدة إلى جوار البحر من الجنوب باتجاه الشرق ويسكن فيها البحارون وملاك الزوارق البحرية وما إليها وكل من تتعلق أعمالهم بالبحر يوم أن كان للبحر رجاله وعماله من أهل المدينة قبل التطور العظيم الذي أدخل على ميناء جدة.
نقول كان رجال كل حارة يعتبرون حارتهم معقلا لهم وينظرون إليها نظرة فيها كثير من العصبية إذا جاز هذا التعبير فلا يسمحون لرجال الحارات الأخرى بالدخول إليها في المواكب والحفلات إلا بعد ترتيب خاص يخبرون فيه أهل الحارة بقدومهم، وحدث أن أقام الشيخ محمد الطويل كبير جدة في ذلك الزمان عرسا لأحد أقربائه وكان الشيخ محمد الطويل من سكان حارة الشام وكان أهـل العروس يسكنون في حارة اليمن وفى الهزيع الأخير من الليل قام موكب العريس من بيت الشيخ محمد الطويل بحارة الشام يحف به المنشدون المشهورون في ذلك الوقت وتتقدمه المصابيح الغازية الكبيرة - الأتاريك ـ يحملها الرجال، كما كان يمشى حملة مباخر العود بين يدي العريس وحينما وصل الموكب الذي كان يمشي فيه كثير من أعيان المدينة ورجالها وشبابها إلى حدود حارة اليمن وتقع هذه الحدود أمام مسجد المعمار عند بيت آل الجمجوم في ذلك الوقت تعرض بعض أهل حارة اليمن للموكب وطلبوا منه العودة من حيث أتى قائلين - هذه حارتنا ولن نسمح لكم بالدخول وأصر أهل حارة الشام على الدخول فكيف يعودون ومعهم هذا الموكب الضخم العظيم وفقد رجال الحارتين أعصابهم فتسابوا ثم استعملوا عصيهم يضربون بها بعضهم بعضا وانفرط عقد الموكب وتفرق الناس خائفين على أنفسهم من نتائج المعركة المجنونة التي نشبت فجأة دون إنذار والتي أوقد شعلتها شباب غير مسؤولين فقدوا أعصابهم في ساعة من ساعات الحمية الكاذبة ولم يستطع العقلاء التدخل وإيصال العريس إلى منزل عروسه الا بعد مشقة وتعب ولكن كان الضرب قد حدث وكذلك الإصابات في الجانبين وتدخلت الشرطة وأخذت الجميع إلى السجن وكان مساعد قائممقام جدة يومها المرحوم الشيخ عبدالعزيز ابن زيد وسمعته يقول: إن كانت هذه المعركة بسبب الحدود فإننا سنرسل المتقاتلين إلى الحدود الحقيقية لحمايتها أما هذه الحدود داخل المدينة الواحدة فهي حدود كاذبة مفتعلة ولقد كانت هذه الحادثة هي آخر ما أعرفه عن حوادث الحدود بين الحارات إذ كان تصرف الدولة الحازم كفيلا بالقضاء على هذه النعرات إلى غير رجعة والحمد لله.
نعود بعد هذا الاستطراد الذي جرنا إليه موقع منزل آل قابل في مدينة جدة إلى الشيخ سليمان قابل فنقول إنه توفى إلى رحمة الله تعالى بعد مرض ألم به سافر أجله للاستشفاء في مدينة القاهرة ثم عاد الى مدينة جدة ولكن الأجل كان قد دنا فتوفى وكأنما كانت وفاته نذيرا بانطواء تاريخ الأسرة التي كان يجمع شملها ويرفع اسمها رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان رجلا عصاميا طموحا وقد استطاع أن يبرز بين رجال مدينة جدة بهذه العصامية وبهذا الطموح.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 54 - 60.