عبد المجيد الملا
١٩١٨
لقد أوصى اللّٰه تعالى باليتيم، فجاء في قرآنه الكريم (واما اليتيم) فلا تقهر فاليتم مصيبة تكتنف من تجرعها بشتى أنواع الأسى والحرمان، وتختلف مراحل حياة اليتيم الذي حرمه الدهر حنان والده ورعايته بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، وهكذا طوح اليتم بالشاعر المترجم فانطوى على نفسه يصارع الحياة في كفاح مرير بين الأنات وغصات الذكرى، وهيهات أن تطفىء مرارة اليتم وخواطرها وما عاناه في حياته، وقد أنعم اللّٰه عليه بمواهب فذة وميزات أدبية باهرة كانت وقوداً لزفرة دامية لا تبرح ذكرياتها من مخيلته مدى الحياة.
هذا هو الشاعر العبقري، عبد المجيد الملا الذي يخطر في برجه العاجي وفي نفسه أروع معاني الحياة لا يشوبها الا ذكريات اليتم الموجعة.
مولده: هو بن المرحوم حسين علي الملا ولد في صباح يوم الاثنين الموافق 11 تشرين الثاني ١٩١٨م وجده الاعلى هو أوس بن حارثة بن لام الذي يقول فيه الشاعر:
الى أوس بن حارثة بن لام
ليقضي حاجتي فيمن قضاها
فما وطىء الحصا مثل ابن سعدى
ولا لبس النعال ولا احتذاها
وهو رئيس طي القبيلة العربية المعروفة، وقد رحل جده من نجد واستوطن العراق و (لام) هي قبيلة معروفة في العراق يقطن أكثرها لواء العمارة، ويمتد نسب أمه الى موسى الكاظم ، كان أهلها يسكنون (عانه) فانتقلوا منها إلى حديثه ، ثم وضعوا رحلهم في بغداد، وكانت حينذاك طفلة لم تتجاوز السنتين من العمر، وعاشت في بغداد وتزوجها والد المترجم وهي ابنة ثمانية عشر عاماً فعاش معها أربع سنوات، ثم توفي وهو ابن اثنين وعشرين عاماً، بعد ستة اشهر من ولادة الشاعر المترجم فتركه واخاه (رشيد) يعيشان يتيمين .
نشأته: نشأ بكنف والدته، وبدأت مخايل النجابة والذكاء تبدوان على الطفل اليتيم، فأدخل بعض الكتاتيب وهو ابن اربع سنوات، فحفظ القرآن الكريم في اقل من ستة اشهر. ثم جيء به الى المدرسة وهو ابن خمس سنوات فرفضه المدير متذرعاً بصغر سنه، وتوسط السيد حسن الحاج محمود الذياب وهو من اسرة معروفة في بغداد فأقتنع المدير بعد أن أخبره بانه قد ختم القرآن فأدخله في الصف الاول، فاجتازه والثاني والثالث في سنة واحدة، وكان سبب اجتياز هذه الصفوف في سنة واحدة، أن معلم الصف كتب آية من القرآن الكريم على اللوح الخشبي وطلب من الطلاب قراءتها، فلم يستطع احد منهم ان يفعل ذلك، فنهض الطالب اليتيم الصغير وقرأها مسرعاً في تلاوتها، فترك المعلم الصف وبعد برهة جاء ومعه المدير وطلب اليه ان يتلو الآية مرة اخرى فتلاها، وبعد التشاور بين المدير والمعلم اقتاد الطالب الذي لم يرض به أولا الى الصف الثاني بعد ان طبع قبلة على جبينه.
وفي فحص نصف السنة كانت نتائجه باهرة فتقرر نقله الى الصف الثالث وفي الفحص النهائي كان الاول في صفه، أي بعد ان اكمل السادسة من العمر تجاوز الصف الثالث الابتدائي، وكان بالإضافة الى حافظته القوية يتمتع بصوت عذب، وقد حفظ الاناشيد المدرسية فكان قرة أعين أساتذته بنبله وذكائه.
كفاح الحياة: واشتد الزمان وذهب الاعوان، ووجد اليتيم العصامي نفسه امام الحياة وحده وانه يجب ان يعيش وان يعيل، فقطع طريق درسه الرسمي بعد ان تخرج من دار المعلمين سنة ١٩٣٨، وعين معلماً في لواء الديوانية ومنها الى لواء الناصرية، وأمر مدير معارف المنطقة ان يرمي هذا المعلم الجديد في زاوية نائية منقطعة عن الناس فصبر ورضي، وأكمل السنة الدراسية هناك وهو يتلظى على الجمر، وعاد الى بغداد يفعمه الشوق، ومما يذكر انه قال في احدى أمسيات غربته قصيدة يلوم فيها قومه ويقرعهم على نسيانه نقتطف منها ما يلي:
نسوك حياً واذا مت لم
ينسوك يا ذل قليلي الحياء
وكم نسوا قبلك من نابغ
حتى اذا ما مات عز العزاء
كأنهم من قبل لم يذنبوا
وأعظم ذنب السادة الاغبياء
الدراسة الخاصة: وبعد مضي تلك السنة ترك التعليم، وراح يقصد مشايخ العلم وأعلامه فأخذ عنهم النحو والصرف والبلاغة والأدب، وأقبل على حفظ الشعر بنهم شديد، فبلغت محفوظاته اكثر من خمسين ألف بيت من الشعر وكان حينذاك تحت وطأة خانقة من الضيق بالحياة.
تطور حياته: كان هذا الشاعر جباراً يكافح الحياة وامارات الانفعالات النفسانية والذكريات الموجعة تبدوا على محياه وقد صهرته الآلام فجادت قريحته بأروع القريض البليغ، وفي بداية سنة ١٩٤٣ حاز السبق لوظيفة تدريس علم الأخلاق في الكلية العسكرية فعين استاذاً محاضراً، وترك التدريس فيها بعد سنة وعين في عدة وظائف في امانة العاصمة ببغداد، وتولى مراقبة اللغة العربية في دار الاذاعة العراقية ثم تركها وعين الآن مفتشاً لوحدة الكاظمية في بغداد.
مؤلفاته المطبوعة: لقد كان انتاجه الأدبي يفوق النسبة بين عمره وانتاجه، فالشاعر الشاب لم يتخط الخامسة والعشرين من عمره حينما وضع مؤلفاته واخرجها فلاقت رواجاً في المجتمع الادبي، وطارت شهرته كشاعر واديب محقق ومؤلف، وهو الآن لم يزل في اوج شبابه وفجر نبوغه، وهذه آثاره الادبية.
١ - (روح الإخاء) وهو كتاب يبحث في الاخاء وما يجب ان يكون عليه، وقد ألفه سنة ١٩٣٩، 2 - هواجس الوحدة ٣ - العروض في أوزان الشعر وقوافيه ٤ - علم البيان وهو موجز في هذا الفن ٥ - خواطر عابرة ٦ - شرح وتحقيق ديوان العباس بن الأحنف ٧ - حديث الصباح.
أما مؤلفاته المخطوطة فهي: ٨ - الإخاء عند ابن المقفع ٩ - نوادر الإعراب ١٠ - الزجل العراقي وقد حاضر منه عدة محاضرات في محطة الشرق الادنى ١١ - وثلاثة دواوين شعرية عنوانها (غزل) ، من وحي الإخاء وأشتات.
شعره: يقوم هذا الشاعر الشاب بجهود جبار في خدمة الأدب العربي وإعلاء شأنه بعد الفترة المظلمة والنكبات التاريخية المتتالية التي انتابت بلاد الرافدين.
يمتاز أسلوبه الشعري بغزارة تصوراته وبراعة وصفه وقوة لغته، وينطوي على صراحة ونبوغ، يهيم بالروح ويقدر الناس على قدر ما يملكون من روحيات وفي قصيدته (دموع الشعر) يصف حالة الأديب في جوه الحزين وما يكتنفه من نحس وشقاء في حياته فيقول:
رمتك الليالي بسهم القدر
فأصمت وأخفت وجوه النظر
والقت عليك رداء الهموم
وان الهموم غشاء البصر
فظلت حزينا قليل النصير
غريز الدموع اليف السهر
تناجي الهموم بقلب كئيب
ونفس تجنت عليها الغير
دعاك الزمان لهذا الشقاء
وانت الخبير فهل من مفر
ودبت اليك صروف القضاء
بليل تبرأ منه السحر
فتاه الدليل ومل الذميل
ودب العناء وأبكي الضجر
ورف السماد على مقلة
تعلم منها النجوم السمر
حياة الاديب تربك الحياة
جحيما يعذب فيها البشر
ودنياه درس بعيد المنال
كثير الشجون عظيم الاثر
تريب الخطوب فيزجي البيان
متين البناء رفيع الخطر
يموت لتحيا نفوس الورى
ويشقى ليحسن عنه الخبر
يحن وتقسو عليه القلوب
حنين النجيب اذا ما ادكر
فأن لم يصاعد يقولوا هذى
وان لم يوفق يقولوا هذر
جزاء عجيب جزينا به
يذيب النفوس يذيب الحجر
إِلام إِلام يظل الاديب
حزينا يناجي القضا والقدر
أيبكي الاديب على نفسه
وتبكى الاديب جفون السهر
ولهذا الشاعر ولع في الرياضة فقد وصف لاعب الكرة وصفاً رائعاً لم يسبقه إليه أحد من الشعراء فقال:
بصرت به والحزم ملء إزاره
تخال به ذعرا لوى باصطباره
مضى خلفها كالريح يسبق ظله
تفر ولا تنفك رهن اساره
يخادع فيها خصمه فيضله
يكر ولا يدري أوان فراره
يناقلها ان ضاق فيها خصومة
ويمضي اذا ما شق طوق حصاره
يمر بها كالأفعوان محاذرا
فتحسبه ذا جنة من حداره
له عصبة جفت به من يمينه
وأخرى زهاها الفوز من عن يساره
وتلقي له خصا هنا متوثبا
وآخر مشتاقاً الي أخذ ثاره
ولكنه يمضي وللنصر نشوة
ليدنو مما يشتهي من ثماره
ويقبل مثل البرق للهدف الذي
أعد له ما يبتغي لانتصاره
وأبصره الحامي وقد جد جده
فلم يدر ماذا يتقي من شراره
له مقلة لا تستقر وهمة
تسامى وعزم آمن من عثاره
فأدبر مزورا وأقبل غاضبا
ترى الحزم في اقباله وازوراره
وفي غفلة من حرصه وابائه
أتاه القضا فيا جرى من خساره
وراح اخو النصر اليمين بنشوة
تواسية تطفي لهيب أواره
لقد أسعد مؤلف هذا السفر التاريخي الحظ فتعرف خلال رحلته الى العراق بهذا الشاعر العبقري، ولقي منه بالغ الحفاوة والتكريم وقد اطلع على مؤلفاته المخطوطة، فشاقه أكثر شيء غزله الذي يعبر عن لهفة حارة ووجد عميق في جو من الفضيلة فقال يصف فتانة:
فتانة الاعطاف والنظرات
هل تسمعين توجعي وشكاتي
هاتي يمينك فالفضيلة بيننا
حصن ترد عن الهوى نزواتي
والطهر خفاق على بسماتنا
يوحي الغرام معطر النسمات
روحي وروحك يرنوان كلاهما
للحب للاحلام للنشوات
الحب العذري: وأحب الشاعر الشاب مرتين في حياته الاولى، وهو في دور المراهقة، وقد بلغ ان افتتن بحبيبته ونظم فيها ديواناً شعرياً، ومما يؤسف له أن ديوانه هذا قد احترق مع مكتبة له ثمينة، وكاد هو يحترق مع الديوان ولكن اللّٰه سلم، وقد ماتت الحبيبة قبل احتراق الديوان أما الثانية، فهي لم تزل حبيبة قلبه التي تغذي أدبه بعاطفة عامرة من الحب والوفاء، هذا وان ديوانه (غزل) كان من وحي تلك الحبيبة، ويبدو انه يبني روائعه وجذله وابتهاجه من وحيها لتخليدها، فهو يراها مثالاً رائعاً للحب والصدق فيه، ونرجو أن يصدق ظنه فيها لا سيما وهي شاعرة مثله تنظم أرق الشعر وأجمله وان قصيدته (انت طيري) فيها نشوة خالدة للمحبين الصوفيين ويتجلى من خلالها لآلى شعره:
جمع الشوق فؤادينا وغنى وسقانا
وتعانقنا وراح الليل يطوي ما عنانا
غير همس تتجلى فيه آلام هوانا
انها نشوة عمري يوم رحنا نتفانى
وتثنت وهي في غنج وسحر
ثم قالت وهي ترتاح لصدري
(أنت طيري لا لغيري)
(أنت كأسي انت خمري)
ليلة لم تفن اذ تفنى بديعات الليالي
قد مضت لكنها لم تمض من دنيا خيالي
حين جاءت تتهادى بين تيه ودلال
تملأ الدمعة عينيها سرورا بالوصال
وتثنت وهي في غنج وسحر
ثم قالت وهي ترتاح لصدري
(أنت طيري لا لغيري)
(أنت كأسي أنت خمري)
وتساقينا كؤسا لم تزل تملأ نفسي
ذكريات شاخصات عذبة ترهف حسي
من فمي تسقي وأسقي فمها الظمآن كأسي
وغفونا وصحونا والهوى يذكي ويرسي
وتثنت وهي في غنج وسحر
ثم قالت وهي ترتاح لصدري
(أنت طيري لا لغيري)
(أنت كأسي أنت خمري)
ليلة قد نسى الدهر بها كل سهامه
فأمناه على خُوف ولذنا في ظلامه
وتجلى الشوق فأرتحنا الى دنيا ضرامه
ومضينا في حديث هو فيض من هيامه
وتثنت وهي في غنج وسحر
تم قالت وهي ترتاح لصدري
(أنت طيري لا لغيري)
(أنت كأسي أنت خمري)
وأفترقنا والجوى والشوق يجتاح القلوبا
ومضت ترنو وأرنو وتناسينا الرقيبا
آه ما أروعها تدنو لتوديعي فتزداد شحوبا
أقبلت تختال سكرى تخجل الغصن الرطيبا
وتثنت وهي في غنج وسحر
ثم قالت وهي ترتاع لصدري
(أنت طيري لا لغيري)
(أنت كأسي أنت خمري)
صفاته: متحمس لقوميته وللوحدة العربية، لا يدين للمادة ولا يعرف لها وزنا جريء في الحق، فاذا سيم خطة الخسف أو واجهه متغطرس بأمر صده بلغة لا تعرف اللين، فارس لا يجارى في ميدان المساجلات والمطارحات الادبية، جواد لا بعرف الا الوفاء في تواضع ونبل.
اقترن سنة ١٩٥٠ وانجب (العميد) وثلاث كرائم، اسمر اللون، ملىء الجسم متوسط القامة مريب الطلعة، فاذا قهره اليتم فقد تسلق سلم القدر بين مواكب الذكريات والخلود.
أعلام الأدب والفن لأدهم الجندي ج 2 ص 237