نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي
نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي ١٨١٢م–١٨٨٧م
تاريخ حياته
هو أحد رجال النهضة العربية الأخيرة، ولد في طرابلس الشام سنة 1812م، وكان والده نعمة الله نوفل من أصحاب المناصب الذين يشار إليهم بالبنان، على أن آل نوفل بوجه الإجمال قوم معروفون بالوجاهة والإخلاص للدولة العلية، وقد تولوا خدمتها في أثناء ثلاثة قرون، وتقلبوا في مناصب متنوعة ولا يزالون.
فعني والده بتثقيفه جريا على مثال أعضاء أسرته، فأدخله بعض المدارس الابتدائية في مدينة طرابلس، فاكتسب مبادئ القراءة والكتابة في اللغة العربية، وتناول بعض الشيء من والده، وخصوصا الإنشاء والخط فبرع فيها، وفي سنة 1820م قضت الأحوال بسفر والده إلى الديار المصرية على عهد المغفور له محمد علي باشا، وكانت له عليه دالة لما تولاه من الإنشاء في ديوانه، وكان العلم إلى ذلك العهد قاصرا في سوريا ومصر على العلوم العربية والتركية، ويندر من يتعلم الفرنساوية أو الإيطالية، وكان محمد علي باشا قد أنشأ المدارس لتعليم تينك اللغتين، فدخل نوفل بعضها، فنبغ فيهما حتى عني ولاة الأمر بتعيينه معاونا لأبيه في قلم التحريرات بالديوان الخاص.
وفي سنة 1828م عاد إلى سوريا مأمورا لمحاسبة لواء طرابلس وقضاء اللاذقية، ظل في هذا المنصب سبع سنين، تزوج في أثنائها بالمرحومة أنجلينا، كريمة المرحوم حنا غريب، وهو في أوائل أفراحه نكبه الزمان بمصيبة نغصت عيشه؛ وذلك أن المغفور له إبراهيم باشا دخل سوريا - كما هو معلوم - سنة 1830م، فقضى فيها عشر سنوات بين مدافع ومهاجم، لم تخل البلاد في أثنائها من ثورة في بلد أو جبل، ولكنه كان صارما سريع الانتقام، ذلك ما أوقع هيبته في قلوب السوريين فباتوا يخافون اسمه، ولا تزال أيام إبراهيم باشا مثلا يضربونه بالعدل والصرامة، فنقل إليه بعض الناس وشاية بنعمة الله نوفل والد المترجم، فأمر بإعدامه، ثم عاد إبراهيم إلى طرابلس وقد تقدم إليه بعضهم أن يتفحص ما بلغه عن المقتول، فبحث فتحقق براءة الرجل وأن الأمر كان وشاية، فاستقدم صاحب الترجمة، وكان معتزلا في منزله حزينا، فقدم فأكرمه ودفع إليه مالا كثيرا، وخلع عليه خلعا سنية، وأرسل بعض رجال معيته ليعزي والدته، ويعدها بالانتقام من الواشين جبرًا لقلبها الكسير، وقد فعل.
وفي سنة 1850م تعين المترجم باشكاتبا لخزينة طرابلس، وفي السنة التالية نقل إلى بيروت للكتابة في مجلس إدارة ولاية صيدا، وفي أثناء ذلك أنفذت الدولة العلية أمين أفندي أحد كبار مأموريها لمساحة جبل لبنان، وعينت المترجم سكرتيرا له. وفي سنة 1852م تولى باشكاتبية كمرك بيروت، وطال مكثه في هذا المنصب لما أظهره فيه من النشاط واللياقة، وفي سنة 1863م توجه إلى طرابلس بمعية قبولي باشا، ثم عاد معه إلى بيروت، فرأى في السنة التالية أن صحته لا تساعده على تولي المناصب الشاقة فاستقال من الخدمة، وعاد إلى مسقط رأسه لترويح النفس، فعيَّنوه هناك ترجمانا لقنصلية ألمانيا، ثم لقنصلية أميركا معا، وانقطع عن سائر الأشغال، ووجه التفاته إلى عقاره وأمواله، وشغل ساعات الفراغ في المطالعة والتأليف والبحث والتنقيب، فقضى في ذلك نيفا وعشرين سنة حتى توفاه الله سنة 1887م، عن ثروة تركها لأرملته، فأسف عليه كل من طالع كتاباته.
علمه وفضله ومؤلفاته
كان صاحب الترجمة من محبي المطالعة، وأكثر ما يقرؤه في اللغتين العربية والتركية، فجمع مكتبة نفيسة فيها مئات من المجلدات في العلم والأدب والتاريخ والفكاهة، بين مطبوع ومخطوط، فلما دنا أجله وقفها للمدرسة الكلية الأميركية في بيروت خدمة لتلامذتها، ولا تزال تذكارا له على ممر الأيام، ولم يكن يقتصر في المطالعة على تمضية ساعات الفراغ، ولكنه كان يجني ثمار ما يطالعه، فيكتب المقالات والرسائل والكتب في مواضيع معظمها جديد لم يسبقه أحد إلى مثله في العربية؛ فمن مقالاته ورسائله ما نشر في مجلة الجنان، ومنها ما نشر في لسان الحال وغيرهما.
أما الكتب المطبوعة على حدة، فبعضها ترجمة عن التركية، والبعض الآخر ألفه تأليفا؛ فالكتب المترجمة منها كتاب قوانين المجالس البلدية التي قررها مجلس المبعوثان، وكتاب في أصل ومعتقدات الأمة الشركسية، وكتاب دستور الدولة العلية، وهو جزءان، كافأته الدولة على ترجمته بثلاثمائة ليرة عثمانية، وكتاب حقوق الأمم وغيرها، وكلها كما ترى في مواضيع جدية تحتاج إلى علم وتضلع في اللغتين العربية والتركية.
أما مؤلفاته، فإنها أوضح دلالة على علمه وفضله؛ لأنها مما لم ينسج على منواله في العربية، وقد يعجب الذي يطلع عليها لصدورها عن مؤلف لا يعرف شيئا من اللغات الإفرنجية، كما صرح هو في مقدمة بعضها.
ومن مؤلفاته:
1 زبدة الصحائف في أصول المعارف: طبع في بيروت سنة 1873م، وفيه أبحاث في تاريخ العلوم عند الأمم المتمدنة قديما وحديثا؛ فقد صدره بتاريخ الفلسفة عند الكلدان والفينيقيين والفرس والهند والصينيين والمصريين واليونان، مع تفصيل فرق الفلاسفة عندهم وتسلسل آرائهم، إلى أن وصلت الفلسفة إلى العرب ومن جاء بعدهم ويلي ذلك فصول في أصول العلوم وتواريخها، كالمنطق واللغة، ويتفرع عن ذلك الكلام في تواريخ اللغات فعلوم اللغة والصرف والبيان والشعر، ثم أصول العلوم الرياضية والفلك، فالطبيعيات، فالطب وفروعه، فالتاريخ، فالجغرافية، وسائر العلوم الحديثة؛ كالجيولوجيا والكيميا والمعادن والنبات وغيرها، وكلامه في كل ذلك تاريخي فلسفي تلذ مطالعته.
2 زبدة الصحائف في سياحة المعارف: واسمه يدل على موضوعه؛ فهو يبحث في كيفية تنقل العلم والفلسفة في الأرض من أقدم الأزمان إلى الآن عند كل مملكة وكل دولة، ويعد هذا الكتاب تتمة للكتاب السابق، مع أنه أكبر منه.
3 سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان: وفيه فصول إضافية في أصول أديان الناس من الوثنية والمجوسية إلى الأديان الإلهية وتفصيل ذلك، خصوصا في الديانات الثلاث المشهورة، مع ما حدث من الفرق النصرانية والإسلامية والإسرائيلية على أسلوب سهل لذيذ.
4 صناجة الطرب في تقدمات العرب: وهو كتاب عظيم الفائدة يدل على سعة اطلاع مؤلفه المرحوم في تاريخ العرب وآدابهم وأخلاقهم وعاداتهم، فقد صدره بمقدمات جغرافية عن جزيرة العرب، ثم بسط الكلام في أقسام العرب وتقاطيعهم وسحنهم وأوصافهم، ثم في أديانهم ومعابدهم ومناسكهم ومساكنهم وملابسهم ومآكلهم ومخاطباتهم، ويلي ذلك الكلام في أخلاقهم وشجعانهم وفصحائهم وخيولهم وإبلهم، ثم جيوش العرب وأسلحتهم وحروبهم ودولهم، وأبحاث في وضع آداب اللغة العربية وأصول العلوم عند العرب علما علما، وكيف نشأت عندهم أو وصلت إليهم، وفي ذيل الكتاب فذلكة تاريخية عن دول العرب من خلفاء الراشدين إلى أواخر بني العباس.
5 الرد على الغضنفري: قد طبع مؤخرا، وله مؤلفات أخرى لم تطبع.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 191 – 194.