محمد نامق كمال بك
محمد نامق كمال بك 1256هـ - 1306هـ.
أكتب كتاب الأتراك وأشعر شعرائهم في القرن الماضي.
هذه الترجمة ملخصة من رسالة كتبها رفيق صباه صاحب السعادة أبو الضيا توفيق بك الكاتب التركي:
ولد كمال بك - المشار إليه - في قصبة (تكفور طاغي) سنة 1256هـ، وكان جده (أبو أمه) محصلا هناك، والمحصل لقب لمنصب قديم في الدولة يقابله في الفرنساوية (Percepteur)، فأرَّخ عارف أفندي - أحد شعراء تلك الأيام - مولده بهذا المصراع: ايردي شرف بودهره محمد كمال ايله، ومعناه بالعربية: فقد تشرف هذا الدهر بمولد محمد كمال.
وقد تسلسل كمال بك من بيت عريق في الحسب والنسب؛ فوالده مصطفى عاصم بك، وجده شمس الدين بك، القرين الأول لجلالة السلطان سليم الثالث، ووالد جده القبطان أحمد راتب باشا من نوابغ الشعراء، ووالد هذا طوبال عثمان باشا الصدر الأعظم المشهور.
ومن أقوال صاحب الترجمة في فضل النسب: إن مزايا الحسب والنسب من الأمور التي لا يستطاع القول إنها مما لا يُرغب فيه أو يسعى إليه، فإن من خالط الناس واختبر أخلاقهم تحقق أن المولود من نسب رفيع أفضل من المولود من أصل دنيء.
على أن طيب أرومة هذا الرجل لا تزيد شيئًا في تعريف فضله، ولو فرضنا أنه من أصل دنيء لكان كفوا لاكتساب الفخر والمجد؛ لجده واجتهاده، وإيراثهما لأعقاب أعقابه.
فلما ترعرع دخل في مدرسة بيازيد، فقضى فيها بضع سنين، ثم انتظم في سلك تلامذة مدرسة (الوالدة)، لكنه لم يمكث فيها إلا بضعة أشهر، فخرج منها سنة 1268هـ، وهو في الثانية عشرة من عمره، فقضت الأحوال أن يسير والده بمهمة إلى (قارصة)، فلم يعد يستطيع مزاولة الدرس، وذلك دليل على أن ما اشتهر به بعد ذلك من العلم والفضل إنما بلغ إليه بالجد والاجتهاد من تلقاء نفسه لا بواسطة المدارس.
وأول ما جال بخاطره وأخذ بمجامع قلبه في إبَّان شبابه الشعر؛ فنظم القصائد الحسان، وكان أهل الآستانة يتناقلون أقواله ويتمثلون بها، ويتحدثون به وبذكائه وظفره حتى لقبوه (نامق)، وأول شعر اشتُهر به قصيدة نظمها وهو في السابعة عشرة من عمره، قال في مطلعها:
ظهور انك كثرت برتونور خداوندر تلون هيأت اشياده تأثير ضيا دندر
معناه: إن للكثرة (ربما يريد الجماعة أو الاتحاد) لونا أو شكلا حاصلا من انعكاس نور الله، كما أن ألوان الأشياء في الطبيعة ناتجة عن انعكاس نور الشمس.
وسار كمال بك في نسق شعره على خطوات الشاعرين التركيَّين المفلقين (نفعي وفهيم) فبلغ من ذلك شأوا عظيما، ونبغ بالأشعار الحماسية والفخرية، ومن قوله في الفخر
بزا أول عالي همم أرباب واجتهاد زكيم جهانكير انه بردولت جيقاردق برعشيرتدن
معناه: نحن الأولى نشأنا من أمة حقيرة، وبجدنا واجتهادنا أنشأنا دولة عظمى فتحت العالم.
وفي سنة 1277هـ، تولى تحرير جريدة (تصوير أفكار)، وكان مع ذلك يزاول الترجمة في الباب العالي، ومن هذا التاريخ أخذت أفكاره وآراؤه في الظهور، فلم يغادر موضوعا أدبيا أو فلسفيا إلا طرقه وأجاد فيه، فلقبوه (كمال) بدلا من (نامق)، وكانت جريدة (تصوير أفكار) هذه فاتحة النهضة التركية الحديثة من حيث الإنشاء والأدب، فهي أول جريدة تركية خاضت في المناظرات الأدبية التي استلفتت انتباه أهل اللسان التركي، وأهم تلك المناظرات ما قام بينها وبين جريدة روزنامة جريدة حوادث، وكانت حدا فاصلا بين الإنشاء التركي القديم والإنشاء الحديث.
ومن ذلك الحين أخذت الآداب الحديثة في الانتشار هناك، وكثر أشياعها ومدعوها، واتفق إذ ذاك سفر العلامة شناسي مؤسس جريدة (تصوير أفكار) إلى باريس لدواع اقتضت ذلك، فعهد بإدارة جريدته إلى كمال بك (سنة 1281هـ)، وكان في ريعان الشباب، فاعتزل العلم والشعر، وانقطع إلى السياسة بالرغم عنه، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والمشقة مما لا يفلح فيه إلا نوابغ الرجال القادرون على تكييف مواهبهم حتى تطابق وظائفهم.
ولو اقتصر صاحب الترجمة على نظم الشعر لبلغ منه مبلغا فاق به (نفعي) الشاعر الشهير، ولكنه لو فعل ذلك ما استطاع ما استطاعه من خدمة ملته ووطنه خدمة كان يسعى في سبيلها ليله ونهاره.
لا نقول ذلك امتهانًا للشعر؛ فإننا نقدره حق قدره، ولكننا لا نرى له ما نرى للنثر من التأثير في ترقية شأن الآداب.
ومن الشواهد على ذلك (هيكو وتيرس) العالمان الفرنساويان الشهيران؛ فهيكو أشعر شعراء الفرنسيس في القرن التاسع عشر، ولكنه لم ينفع أمته بنظمه كما أفادها تيرس بأدبه وسياسته.
وجملة القول أن كمال بك اندفع بكليته الى السياسة وعلم الأخلاق، وهما ركنا الأدبيات، فبث بين أبناء لغته روحا عصرية نشطتهم وفتحت عيونهم وقلوبهم، وبعد أن كنت لا ترى بين الأتراك عشرين كاتبًا أصبح كتَّابهم يعدون بالمئات والألوف، والفضل في ذلك لصاحب الترجمة؛ فإنه هو الذي أحيا فيهم حب العلم وحبَّب إليهم الأدب بما كان ينشره بين ظهرانيهم أو يشنف به آذانهم من المقالات الرنانة في «تصوير أفكار» وغيرها، مما قد ألبس اللغة التركية حلة عصرية جديدة.
وأول ما نشر من نفثات أقلامه رسالة «دور استيلاء» طبعت سنة 1283ه؛ قال أبو الضياء: وقد أملى علي هذه الرسالة في الساعة الثالثة من الليل في اليوم الحادي عشر من رمضان المبارك سنة 1282ه، فخبرت بها مقدرته على الإنشاء، فإنه أوعز إليَّ أن أتناول القلم والورق، ثم أخذ يملي علي فقال: «وقتاكه مقدما»، فلم أتمالك عن التوقف محتارا، فقال: ما بالك لا تكتب؟ فقلت: لا أعرف حتى الآن عبارة تبتدئ بلفظ «وقتاكه»، وكنت أظن أنك تخاطبني في شأن من الشئون! فتبسم وقال: «اكتب ما أقوله وستعلم» وما زال يُملي عليَّ وهو يخطر ذهابًا وإيابا، تارة يقف وطورا يطوف غرف المنزل، حتى انتهت الرسالة في الساعة العاشرة، فجاءت كما قيل «كالفاتحة مكتوبة على أرز»، وما زال ذكرها متغلبًا على كل ما كتبه بعد ذلك.
ومن مواهبه الخصوصية حدة اللسان وقوة الحجة، فإنه لم يناظر كاتبًا أو خطيبًا إلا ظهر عليه وأفحمه.
ومن آثار فضله أنه أدخل الآداب التركية في دور جديد؛ فقد كان كتاب الأتراك منذ ستمائة سنة سائرين على خطة واحدة في آرائهم وإنشائهم، فجاء كمال بك فنوع الإنشاء تنويعا هو أساس النسق التركي الحديث.
ومما يذكر له أنه لم يستخدم قلمه للهجو، ولا أدخل في إنشائه ألفاظا بذيئة أو معاني مخجلة، وكان إذا كتب في المواضيع الدينية مثَّل الحقيقة تمثيلا واضحا يفتن المطالع ولو كان من المعطلين، وكان يستخدم ألفاظا لغوية لم يألفها العامة، لكنه كان يسبكها في قالب يسهل عليهم فهمها.
وكان كثير المطالعة دقيق التنقيب والبحث، حتى قيل إنه لم يغادر كتابًا تركيا أو فارسيا مطبوعا أو غير مطبوع من مؤلفات الأتراك أو ما ترجموه عن الألمانية والفرنساوية والإنكليزية إلا طالعه وتبحر فيه، وكان قوي الذاكرة إلى حد يفوق التصديق، حتى يكاد لا ينسى شيئًا نظره أو سمعه؛ فقد يتلو عليك ألوفًا من الأشعار الفارسية والتركية والعربية والإفرنسية، وكان متمكنا من الفقه وعلم الكلام، مدركا لأكثر المسائل الغامضة المتعلقة بهما، وقد طالع علم الحقوق على العلامة الفرنساوي الشهير «إميل أفولا»، ودرس فنَّي الاقتصاد والسياسة.
أما التاريخ فقد كان من أكبر علمائه؛ وهاك أشهر مؤلفاته وترجماته:
- تراجم الأحوال: ترجمة صلاح الدين الأيوبي، والسلطان سليم، والفاتح، وأمير نوروز.
- حكايات وروايات: وطن (وهي رواية ترجمت إلى اللغات الألمانية والروسية والفرنساوية)، وكل نهال، وعاكف بك، وزواللي جوجق، وانتباه، وجزمي.
- رسائل: دور استيلاء، وبارقه ظفر، وقانيزه، وحكمة الحقوق، ومكتوب إلى عرفان باشا، وبه بربزون مؤاخذه سي، وتخريب، وتعقيب، ومقدمة جلال، وبهاردانش، ومنتخبات تصوير أفكار.
- مقالات متنوعة: تصوير أفكار، ومخبر، وحريت، وعبرت وبصرية، وحديقة، واتحاد، وصداقة، وغري ذلك من المقالات التي كان يكتبها إلى أصدقائه وفيها الحكم الفلسفية والأدبية.
- ترجماته عن اللغات الإفرنجية: شرائط الاجتماع (تأليف روسو)، وروح الشرائع (تأليف مونتسكيو)، وبعض كتابات باكون وفولني وغيرهما، وقسم كبير من كتابات كوندرسه تحت عنوان (تاريخ ترقيات أفكار بشر).
وكان في أثناء أعماله هذه مشتغلا بتأليف التاريخ العثماني، وهو تاريخ مطول بحث فيه عن عظمة هذه الدولة وما مرت به من الأدوار، من أول عهدها إلى الآن، له مقدمة يصح أن تسمى وحدها تاريخ الإسلام؛ لأنها حوت كل ما وقع من المسلمين من البعثة إلى ظهور السلطة العثمانية، وكل ما رافق ذلك من الحوادث في آسيا وأفريقيا وأوروبا، والمقدمة المشار إليها مكتوبة على نحو ألف وخمسمائة طليحة من الورق، ولكن من موجبات الأسف أن مطالعتها منعت ثاني يوم ظهورها لوشاية بعض ذوي الأغراض، فحفظا لآثار هذا الفاضل نرجو أن يعاد نشرها مع ما تم تأليفه من هذا التاريخ، وهو أربعة أجزاء تنتهي بوقائع السلطان سليمان القانوني.
وكانت وفاته بعلة الخناق الصدري، فلم تمهله إلا عشرة أيام، فقضى بعد ظهر الثامن من ربيع الأول سنة 1306هـ.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 107 – 111.