ياسين المفتي ابن محمود
مفتي البيان ومرجع الأعيان. الذي فاق سحنون وسحبان
قد تطوق من الفضل طوقا وفاق أهل المعارف إدراكا وذوقا. أفتى في بلدنا سنين، وغدا للفضائل منبعا ومعين. اشتمل عليه الفضل اشتمالا، فحاز مكارم ونال كمالا. فهو الطيب الأعراق. الذي حاكى الشموس بالإشراق.
فها هو نهر أعشب المجد حوله ... وها هو بحر زاخر بالمعارف
لبس في الفضائل أنواع الحلل، وباهى بمجده الشمس فضلا عن زحل. فاعتصر الفضل من عنقود الثريا وسما. وهطل بما أودعه
جد الأسرة المعروفة في الموصل «آل ياسين افندي» وقد انجبت عددا من العلماء والشعراء.
كان عالما فاضلا، قرأ العلوم العقلية والنقلية، وسافر الى بلد القسطنطينية. أقرأ فيها درسا عاما. وولي الافتاء في بلدة الموصل. وكان شجاعا مقداما. وله قوة ساعد وجنان. ولم يكن في وقته من يحسن ضرب القوس والنشاب مثله.
وكان لين الجانب والعريكة وكف بصره قبل وفاته. فسقى الله قبره سحائب العفو والغفران.
وقد بنى الخان المعروف بخان المفتي بسوق باب السراي. كما بنى في السوق مدرسة لتدريس العلوم المختلفة وهي مدرسة ياسين افندي المفتي وقد تعطل التدريس بها منذ اكثر من قرن. انظر تاريخ الادب العربي في العراق 2/ 197. ومجلة سومر 18/ 79.
الله من أسرار البلاغة وهمى فهو السباق الذي ملأ بالمجد الآفاق، ورقى هام الفضل بطريق الاستحقاق. فوالده محمود هو المقدم وهذا هو التالي. وكلاهما بدرا سماء الفضل وفلك المعالي ومحمود هو شيخ جدنا مراد، فانه قد قرا عليه ومن فضائله استفاد.
فلهما في الكمالات آثار رشاد، ترشدك إلى تلك المعالم والعهاد، وتدلك على سوق فضلهم الذي ماله كساد. فهما في البيان، فرسان رهان.
غيوث كمال كلما غاض واحد ... همى واحد يهزو بكل سحاب
ولهذا التالي في النظم كلام، يحاكى الغيث عند الانسجام.
قد أودعت هذا الكتاب من نظمه ما يحاكي الشموس، ويوضع على الأعين فضلا عن الرءوس.
فمن نظمه في مدح الصدر الأعظم والعالم الأفخم السابق ذكره مصطفى باشا الكوبرلي رحمه الله وهي:
بشرى لك يا أمور بانتظام ... مذ قام بك موفق الأحكام
طوبى لك يا زمان باعتدال ... إذ نلت على بأرشد الحكام
لا ريب لمقتديه باهتداء ... مع نيل منى بغاية الأسقام
قد آثره الإله فيما يرضى ... علم عمل شريعة الإسلام
سيف قلم كذا سداد الثغر ... عدل كرم حماية الآطام
يا من يدع الأنام في تمهيد ... يا من يخيف الأسود في الآجام
يا من نشر العلوم في الآفاق ... يا من خذل العداة بالآرام
يا من هو في الوغى لنا ملاذ ... يا من هو ذو الفقار باصطدام
أهتم بجري ما اقتضاه الحال ... والدهر يقول حبذا من عام
قد كان له الأوان بانتظار ... كي يوفي مرتجيه في الذمام
ما قيل لنا الأمور بارتهان ... تنفك أذن بجرية الأقلام
ما طال لنا السكوت مع ملال ... أغنى لنا عن إطالة الكلام
نرجو نظراً بأيمن الأوقات ... كي تبرا لنا مكالم الآلام
ندعو له كي يدوم لا يزال ... يطفي به عنا سورة الظلام
نسأل له أن يصيب ما يروم ... ينجا به من إزاحة الأقلام
يحفظه لنا الإله مع نجليه ... تصفو لهما نجابة الأفهام
ندعو لهما زيادة في العمر ... مع نيلهما مراتب الإكرام
ومنها في ختامها:
نقرى بدر سنا له دعاء ... نتلو به في بداية وفي اختتام
مع هذا النثر
المعروض لدى الساحة العلية، والمنهي إلى الباحة السنية البهية. هو انه بينما كنا مترقبين للتلطف والأخبار، وننتظر مع كثرة الملال للتعطف والانسرار، ومتوقعاً لحلول الشفعة والاعتبار. إذ نسمت نسمة على خلاف المعتاد، بحيث اهتم لنا من سمعها في أقصى البلاد. فاعتقدنا إنها غاية الادبار، وبتلاء لنا من الملك الجبار، وجزمنا بأنها متتبعة للأنعام التام، ومستجلبة لوفور اليسر بلا كلام مستشهداً بالكلام القديم من الملك العلام، إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، حيث أنزلها على رسوله امتنانا وبشرا. لا سيما
إذ وردت لنا الأخبار، بانحصار الأمور فيمن كانت له بالانتظار والذي افتخارنا بالانتساب إليه، وتوقيرنا نشا من وقوفنا إليه. فوجب على كل من سمع أن يقول الحمد لله إذ هو نعمة عظمى على الملة الإسلامية والأمة. فحمدنا الله تعالى وحصل لنا السرور، وايقنا بفوزنا ونيل الحضور. فالموجود والمتوقع، والمسئول والمتضرع، أن يقرن ما عرضناه بالعفو والقبول، ويدرج ما اغتثنا به في شدة المصائب لدين الأصول. إذ هو بناء على ما اعتدنا إليه عليه من التلطف والإحسان، واجترأنا عليه من كثرة أخذه بأيدينا من أول الزمان. لا زال للمستغيثين معينا، وللملهوفين ظهيرا ونصيرا ومعينا.
وله رحمه الله في هذه التهنية:
كفاني منك نيلا في ارتقاكا ... مراتب قد ورثت بها أباكا
فطوبى للزمان وطيب عيش ... خصوصاً إذ نصبت به لواكا
وبشرى للأمور بنيل حق ... وعدل فيه مقتفياً أخاكا
وقرت أعين من كل خير ... أديب كامل يرجو حماكا
لقد هنيت بالعلياء طراً ... فكيف ولا يليق بها سواكا
وطابت نفس من ترجو علوا ... ويثني عزمه نحو ابتغاكا
فها هو حاصل من غير مطل ... ولا نكد يشوب ولا جفاكا
فمهما تبذل الآراء جهداً ... فما بلغت مآرب في ثناكا
فنالت اثر ظلمتها ضياء ... أنارته المطالع من لقاكا
فلا زالت بك الأيام تزهو ... وتوري ما توارى من سناكا
فتذهب عن قلوب ما اعتراها ... وتصفو للتمحص في دعاكا
متى ما قد دهدتني نائبات ... فما لي ملجأ إلا علاكا
فللضراء جمعا أنت ذخر ... مجيب كل مضطر دعاكا
فضاق الصدر مني من بلاء ... لعلي قبل موتي أن أراكا
لتجبر كل منكسري وتبري ... جراحاتي فيا أهلا لذاكا
فلا العافون خاب لهم سؤال ... ولا الراجون شذ لهم نداكا
كذاهم في الدعا أبداً ونرجو ... بان الله يبقيكم لذاكا
والقصيدة هذه منسوجة على عروض قصيدة القاضي الأرجاني التي مطلعها:
عدتك الحادثات إلى عداكا ... فما للناس معنى ما عداكا
ولا برح المصادق والمعادي ... إذا ما ناب نائبة فداكا
فأنت سننت للناس المعالي ... وإن لم يبلغوا فيها مداكا
إذا نظر الملوك إليك يوما ... رأوك لأمر ملكهم ملاكا
فإن يك ملكهم أمسى سماء ... فرأيك لم يزل فيهم سماكا
خلقت من العلى والمجد حتى ... تضمنت الفضائل بردتاكا
فلو كان العلى والمجد شخصا ... يراه الناظرون لكنت ذاكا
ومنها يقول:
أحن إلى السرى وعلي قيد ... من التعويق يمنعني الحراكا
فحل عقال نضو من رجان ... يسر بي من دياركم ابتراكا
فلا زال الزمان بكل حال ... يطيعك صرفه فيمن عصاكا
رأيتك في يد الإقبال سيفا ... فلو سامتك كف ما انتضاكا
ولا لقاك من ترجوه يأسا ... فانك لست تؤيس من رجاكا
وهذا نثر صاحب الترجمة مع قصيدة.
لقد رضت فكري لكي آتي بما يليق، بتهنية من هو بالتبجيل حقيق. فإذا الطبع مني قد أنكد، ونار الفكر قد انخمد. لما ألاقي من النوائب، وأقاسي من المصائب. وطالما بقيت في وادي التحير، وبان بين الإخوان مابي من التغير. زعما باني قد نسيت ومن صفحة الخاطر قد محيت. فإذا الفطانة أزعجتني، والدراية أيقظتني بأن الغيرة المصطفوية، والأخلاق المحمدية، هل تبقيك في محن البلية. أما علمت بأن الإعانة مقتضاها، والأخذ بالأيدي مبتداها ومنتهاها. فتجرأ بأن يغوص في بحر معانيه، ويفوز في ساحة معاليه. فربما يغترف نبذة من لآلئه، ويقتطف قبضة من روضة مدائنه. فإذا القعر فيه عميق لا يدرك غوره، والمكان سحيق لا يقطف نوره. فاقتطفنا من الساحل ما هو اللائق، وأخذنا من الباحة ما هو الرائق. عسى أن يصير باعثا للشفقة والحمية، لدى ذي البهجة السنية، لا زالت
مسبغة بالسعادة الأبدية، وفائزة بالنعم السرمدية. فالمرجو المتوقع، والمأمول والمتضرع. أن ينظر إليه بعين الشفقة والقبول. ويسامح عن قصوراته لدى الوصول. فانه موجب لا زالة الأتراح، وتبديل الكروب بالانشراح.
وفي هذا الباب أي التهاني أحسن ما ورد فيه قول الصاحب بن عباد لما أتت له البشارة في سبط أبي الحسن عباد. فقال الصاحب:
الحمد لله حمداً دائماً أبدا ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن قصيدة أبدع فيها غاية الإبداع على وزن ذلك البيت ورويه وهي:
بشرى لقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلى صعدا
وقد تفرع في أرض الوزارة عن ... روح الرسالة غصن مورق رشدا
لله ما أنت شمس للعلى ولدت ... نجما وغابة عز أطلعت أسدا
وعنصر من رسول الله أوشجه ... كريم عنصر إسماعيل فاتحدا
وبضعة من أمير المؤمنين زكت ... أصلاً وفرعاً وصحت لحمة وسدى
ومثل هذي السعادات القوية لا ... يحوزها غيره دانت له أبدا
يا دهر حقّ بأن تزهو بمولده ... فمثله منذ كان الدهر ما ولدا
تعجبوا من هلال العيد يطلع في ... شعبان أمر عجيب قط ما عهدا
فمن موال موالي الحمد مبتهلا ... ومخلص يستديم الشكر مجتهدا
وكادت الغادة الهيفاء من طرب ... تعطى مبشرها الإرهاف والغيدا
فلا رعى الله نفساً لم تسر بها ... ولا وقاها وغشاها رداء ردى
وذي ضغائن طارت روحه شفقاً ... منه وطاحت شظايا نفسه قددا
علماً بأن الحسام الصاحبي غدا ... مجرداً والشهاب الفاطمي بدا
وأنه سد شعباً كان منصدعا ... به وأمرع شعباً كان محتصدا
وارفع المجد أعيانا وأسعده ... مجد يناسب فيه الوالد الولدا
فليهنئ الصاحب المولود ولترد ال ... سعود تجلو عليه الفارس النجدا
لم يتخذ ولداً إلا مبالغة ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
وخذ إليك عروساً بنت ليلتها ... من خادم مخلص وداً ومعتقدا
أهديتها عفو طبعي وانتحيت بها ... سحراً وإن كنت لم أنفث لها عقدا
وازنت ما قلته شكراً لربك إذ ... جاء المبشر بيتاً سار واطردا
الحمد لله حمداً دائماً أبدا ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
ولصاحب الترجمة في مدح شيخ الإسلام:
قد لاق بان يفوق فينا العصر ... يمتاز بأهله ويأتي النصر
إذ حل به الفيض وجل القدر ... انسر به القلب وجال الصدر
لا انفك مطاعا واليه الأمر ... يرتاح به الحال ويصفو الدهر
لا غرو أمامنا إذا تباهى ... ما فات نكاية قفاه الحبر
لا ريب لأهله بأن ينالوا ... عدلا سعة به تأتى الفخر
إذ تتبعك الرجال بانقياد ... مع نيلهم المراد زاد الهجر
تستسقى حبيك بلا ثناء ... سحبا سكبا وقد تلاه القطر
لا ينصدعن من به ولو تتالى ... هل ينفد بالغرام منه البحر
امتد بنا السكون بانهمال ... اثر العمل فقل منا الصبر
تجلى بسناك كل من تجلى ... فضلا أدبا قد اعتراه الستر
قد نال نداك كل من يرجوه ... لا يهدمه المن ويبرى الكسر
توري بغناك كلما توارى ... رفقا كرما قد اقتضاه الذكر
ندعو لك بالخلوص كل آن ... ما دام بقاك ما احتباك القهر
سمعاً ليراعك لكي يشير ... ما اعتاد به ندى عداه القسر
تجزى نعما به ونعم العقبى ... ممن فلق الصبح وضاء الفجر
ومع هذا نثر أيضا وهو
بينما العبد مشغول بالأدعية لدوام الدولة العلية، والنصر والظفر للعساكر الإسلامية إذ وردت الأخبار، وشاع في الأمصار، انتهاء الغزاء من الأبرار. وذلك بعد بذل جهد تام، وسعي في الجهاد لتحصيل المرام. فلا شك انه مع صرف المقدور، لدى المولى مقبول ومبرور. ولا ريب بأن المسلمين بالنصر موعودون، وإنهم على الأعداء غالبون، ولفتح البلاد ميسرون. ولكن الأمور مرهونة لأوقاتها، والحاجات معقودة بساعاتها. فعزمت على أن أثني بما يصل إليه فكري القاصر، وأمدح بما انتهى إليه الخاطر الفاتر. وإن لم أقدر على البلوغ إلى أدنى ما فيه، بل لا أكاد أصل إلى ما يدانيه، كما قال:
ملك مقسط وأكرم من يمشي ... ومن دون ما لديه الثناء
إلا أنه جرأني، وأمدني وجسرني، وألح بي ما أنا عليه،
والعرض إلى ما بين يديه، وإن كان المخالف لما هو المعتاد اليه، وتجاوز عن حدنا فيما عزمنا وملنا إليه، اشتهاره بأكرم الخصائل
من الحلم والانصاف، واتصافه بأحب الشمائل، من العفو والإسعاف. وانتشار لطفه ومرحمته في جميع الاطراف. لا سيما على الداعين لدوام دولته المتخلفين بالعفاف. فالمرجو المتوقع.
والمسئول والمتضرع، ان يطابق المتوسل للمأمول، ويقرن السؤال والمعروض بالإجابة والقبول. لنشتغل بالدعاء مع خلو البال، بالتخضع والابتهال. لان يصونه المولى من الأهوال في جميع الأمور والأحوال.
وله وقد أرسلها إلى محمود بن غراب البغدادي وهي:
تقارب الحدباء والزوراء ... أورثنا مودة الآباء
وكونها دار السلام وصفا ... آثرها بالخصلة السراء
فهي التي لم يأتها مصاب ... إلا نجا من ازمة ضراء
لا زال من يسكنها في رفق ... منتهج الشريعة الغراء
فليقتد برسمهم سواهم ... إذ وشحوا بصائب الآراء
والممتطي بمجدهم تراه ... مستحكماً في خذلة الأعداء
طوبى لهم فانهم في صفر ... لا ينغوي بزلة الإغواء
فمجدهم بين الورى مشهور ... مداول الأمثل بالأرجاء
خصالهم مرضية بالطبع ... وفضلهم في الرتبة العلياء
كفى لهم فخراً بأن المجد ... منتسب كنسبة الأنباء
كذلك العافون حيث أغنوا ... عن سؤلهم من شدة الاعياء
لا سيما المحمود في أفعاله ... همته تعلو على الجوزاء
فاحمد الأوصاف في أشكاله ... أفقههم بصيغة الأسماء
وسائر الأخوة كل منهم ... متصف بشهرة الإيفاء
وظاهر اللفظ خفي المعنى ... ترومه الأفهام بالإصغاء
وعالم الأسباب بالتنزيل ... محمد الأكمل بالأنباء
والوالد القدوة للأنام ... أسلكهم طريقة الأحياء
خليلهم تحيا به المعاني ... والنحو فيهم صفوة الفراء
والخضر منهم رايق الخصال ... أنفع من في البقعة الغبراء
كذا الجعيدي نفعه قد شاعا ... مشتهر بقوة الذكاء
والخادم للمرتضى علي ... مندب إزاحة الشحناء
والأخ منهم سعيه مشكور ... تحيا به فيافة القفراء
وخادم الأعظم مقتدانا ... أظهرهم للشكر بالنعماء
والمفتى فيهم قد حوى العلوما ... مجتنب التقليد والرياء
وسادة منهم لنا أصول ... منفذو المنثور بالإمضاء
ومسلك الوالي سلوك عالي ... موثق الأحكام بالإجراء
مشيد النظام أحمد قهرا ... سطوته مالئة الهيجاء
وقائم بأمره حسين ... تجاهه نزاهة الفيحاء
وضابط الدفتر والحساب ... عشرته تغني عن الغذاء
والمقتدي بأبه مشهور ... بنقده للكتب في الإملاء
أولادهم سر أبيهم فيهم ... مغن عن التعداد في الاثناء
وهذا النثر أيضا:
وبعد فإني رضت فكري وهو دقيق، لكي آتي بالشكر ما يليق فإذا هو ببحر الإحسان غريق. لا يقدر على التكلم بأدنى كلام.
فضلا أن يخاطب مثل هؤلاء الأعلام.
أمطر علي سحاب جودك أثرة ... وانظر إلي برحمة لا أغرق
لكن لما تطاول الانغمار، وانتشر التفقد منهم والاستفسار.
صار إلى النجاة والتشبث سبيل. وللنطق مع ما فيه من الضعف دليل. فذكرت بعض ما ينبئ عن قصور البضاعة لعدم كوننا من أهل تلك الصناعة، ورقمت ما حويناه من بعض ما سمعناه، في ذلك النادي، المفيض للأيادي، وبعض ما التقطناه من نثار ذلك الوادي، المغيث للصادي. فالمرجو والمسئول، والمتوقع والمأمول. أن يعد ما سبق من النقصان. ويقترن المجموع بالعفو والغفران. ولتعتقدوا أني منذ حصل الفراق، في أمنية التلاق، لكثرة الاشتياق. لكن الأمور مرهونة لأوقاتها، والمتولد في الساعات يترقب بتقضي آناتها. فأينما كنت افتخاري بتلقيكم إياي بالقبول وحيث ما نلت فإنه من يمنكم فترجيكم لي الحصول.
محبك حيثما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
مع إن الفطانة من كثرة الألطاف العلية، والدراية من تتالي التكريمات السنية كانت بان تتردد وتتوقف عن التراسل، ولو مع التكلف والتعسف الداعي إلى التواصل بناء على إنها صارت مصداقا لما قال المعري:
لو احتصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الحصر
إلا أن الغيرة الهاشمية، والانخراط في سلك الشريعة المحمدية، اهتمت لدفع العار الذي ورد بإسناده إلينا الأخيار. إذ هو شيء لا يقبله الأراذل، فكيف هو بمن قد صرف عمره بخدمة الأفاضل. واعتمدت على أن قبول العذر مقتضى سجاياهم، والإقالة عن العثرات دأبهم وفذلكة لقضاياهم. وتجرأت على الإقدام على البعث للاعتذار، وتشوقت لانتظار السرور التام إلى المباهاة والافتخار.
وقد يقبل العذر الخفي تكرما ... فما بال عذري واقعاً وهو واضح
فأجابه ذلك الفاضل على رويّه فقال:
قدم الكتاب بأوضح الأنباء ... من نحوكم في أفصح الإنشاء
قد عطر الأكوان ريا عرفه ... وشذا الأريج شذاه في الزوراء
لما أتى من نحوكم متيمماً ... متيامنا من أيمن الحدباء
فجلا غمام الغم في إقباله ... كالشمس تجلو حندس الظلماء
يزهو بعين الناظرين نضارة ... كالزهر في ترف وحسن صفاء
النور من نواره متظاهر ... كالبدر لاح بليلة ليلاء
وبه استنار الأفق لما أن بدا ... فأضاء منه الكون باللألاء
وحوى الفصاحة والبلاغة كلها ... وخلا من الايطاء والإقواء
يروي حديثا فيه يروي ذا صدى ... عنكم ويطفي غلة الأحشاء
رقت وراقت منكم فقراته ... فعلا على النسرين والعواء
بان البيان بأوضح التبيان في ... معنى معانيه بديع ثناء
من موصل وصل البشير مبشراً ... علماً لما فيه من السجواء
قبلته لما فضضت ختامه ... فوجدته كالدرة العصماء
من ماجد طلق البنان مهذب ... ذلق اللسان سلالة العلماء
العالم النحرير بالتحرير والت ... صديق والتصوير والإنشاء
الآخذ التراك والدراك لل ... معقول والمنقول في الأنباء
علامة نسابة فهامة ... في علمه والنقل والإملاء
حاز الكمال وجاز في أبوابه ... متوشحاً بالعلم والآراء
مردي الردى مفني العدى مجلي الصدا ... بحر الندى ونتيجة الكرماء
ليث الشرى علم السرى بادي القرى ... عالي الذرى في ذورة الفضلاء
مفني الظلوم بعزمة من بأسه ... مقني العلوم موفق الفتواء
ياسين طه حافظ لك حارس ... عن أعين الأعداء والرقباء
قلت المناقب والمراتب والعلى ... إرثا من الأجداد والآباء
فرفعت ما نصب العداة ببغيهم ... وخفضتهم بالجزم في الأعضاء
لا تلحق الأعداء سبقاً شأوكم ... انتم وهم كالشمس والحرباء
وورثتم الافضال من آبائكم ... والفضل منتقل إلى الأبناء
عجز اللسان بان يحدد فخركم ... إذ فخركم من سيد الشفعاء
وفني الزمان وما أحاط بوصفكم ... أيحيط فان معدم ببقاء
ثم السلام من السلام يخصكم ... بتعاقب الأطراف والآناء
ويخص يونس بالسلام وما حوى ... ذاك الحمى من حاضر أو نائي
وكذلك الإخوان طراً كلهم ... أهدوا إليك تحية بدعاء
فالشيخ أحمد والخليل خليله ... والظاهر المشهور بالأسماء
ومحمد تاج المعارف والتقى ... وأخوه أحمد نائب القراء
ثم الجعيدي ابنه والاعظمي ... والمرتضى والخضر والإملاء
والشيخ عثمان التقي وضبنه ... طه وعبد الله بالإثناء
والدفتري علي المعروف بال ... معروف والمعدود بالصلحاء
وعلي اغا ذاك المهذب طبعه ... وأخوه محيي الدين بالإحياء
وكذلك إسماعيل ثم عليّنا ... وحسيننا وجماعة العلماء
شاهين مع طه الإمام محبكم ... أهدوا السلام لا فخر الفضلاء
يا كامل الأوصاف يا من مجده ... سام على القمرين والجوزاء
يا عالماً يا عاملا يا فاضلا ... يا فاصلا للحكم بالإمضاء
خذ بنت فكر من محب نحوكم ... جاءت تجوب فدافد البيداء
وسمت جباه الحاسدين وقد سمت ... في جبهة المريخ باستعلاء
ومنحتكم مني سلاماً وافراً ... متواتراً في بكرة وعشاء
بختام مسك فيه ألف تحية ... ممزوجة في عنبر وكباء
ثم الصلاة على النبي وآله ... مع صحبه والسادة الأمناء
ومع هذا النثر:
يا من سطعت شموس الافق من مطلع سنائه، وبزغت بدور الفطنة من شواكل بهائه، طالما حركني سائق الاشتياق، وهزني شمأل الأشواق، إلى الاستطلاع إلى حقيقة الحقائق، والاطلاع على رموز الدقائق. لعلمي أن تنائي الدار لا تلهي المحب عن المحبوب وتباعد الأجسام ليس له مدخل في اتفاق القلوب. فتارة اسند إلى نفسي العجز والتقصير، وطوراً استدل بتزاحم الآراء من الحذر والتحذير. إلى أن وصل هدهد سليمان الزمان، مصاحباً لمنشور الأمن والأمان. فطار من عش القلب طير الأرواح، وتلقى ما فيه من السرور والأفراح. فلم أزل أترنم بقول الشعراء، وانشده جماعة من البلغاء.
على كل عضو فيّ دارت لحاظه ... كئوس مدام قد ملئن من السحر
ثملت بها وجداً ولم أصح صبوة ... فها أنا بين الصحو حيران والسكر
فلما أن حصل لي نوع من الإفاقة، قصدت الجواب بتسبب الطاقة، فرأيت قد زاحمتني بمدحك الشعراء، وتجردت لأوصافك البلغاء، فعدلت عن النظم والنثر، وترنمت بيتا من الشعر:
فالدر يزداد حسناً وهو منتظم ... وليس ينقص قدراً غير منتظم
فأنهيك، بارك الله فيك، إن المحب كما تعهده من العهد
الوفاق، خاليا من شواغل الشقاق، لا يفرق بين الصغرى والكبرى من الفراق، ولا يميز التصور من التصديق من شدة الاحتراق، غاية سؤله صحة ذاتكم ونهاية أمله اعتدال أوقاتكم جعلك الله مرفوعا رفع ابتداء، ومنصوبا نصب التمييز على جملة الأعداء.
وخفض من افرد ضميره بالإضافة إليك، وجزم لك بالسعادة من حبي لديك. وأسألك أن لا تخيب ظني فيما أهديته لك في الخلوات. وعرضته بين يديك في أغلب الأوقات. والوصية اللازمة لاخوة المؤمنين، تقوى الله في السراء والضراء مع جماعة من المسلمين. وعليكم سلام الله وبركاته، ولمن حوى مجلسكم تحياته.
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبرية شامل
ومن لطائف المكاتبات ما كتب ابو اسحاق الصابي وهو معتقل في السجن إلى أبي الفرج الملقب بالببغاء وكان كل
واحد منها يتمنى لقاء صاحبه ويراسله ويئوده فاتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد، وأبو اسحق معتقل فلم يصبر عنه، وزاره في محبسه ثم انصرف عنه ولم يعاوده، فكتب اليه ابو اسحاق من السجن:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولم تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غاليا ... فأرخصته والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقا كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من طول مجلسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
فحوشيت يا قس الطيور بلاغة ... إذا أنشد المنظوم أو درس القصص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطراد بها فقص
فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرّع الغصص
فأجابه أبو الفرج مع رسوله بقوله:
أيا ماجداً مذ يمم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلال توارى بالسرار فما خلص
برأفة تاج الملة الملك الذي ... لسؤدده في خطة المشتري حصص
تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحر باللطف يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
أتتني القوافي الباهرات تحمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
فقابلت زهر الروض منها ولم أرع ... وأحرزت در البحر منها ولم أغص
فان كنت بالببغاء قدما ملقبا ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فانتهت هذه الأبيات والجواب إلى عضد الدولة فاعجب بها واستظرفها، وكان ذلك أحد أسباب اطلاق أبي إسحاق من اعتقاله ثم اتصلت بينهما المودة والمكاتبة.
ونظير هذه المكاتبة ما كتب الشيخ صلاح الدين الصفدي إلى ابن نباتة معاتبا له ومضمنا من قصيدة امرئ القيس وهي:
أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وترمي على طول المدى متجنيا ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
تطير شظاياه بصدر كانما ... بارجائه القصوى انابيش عنصل
وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... على النحر حتى بل دمعي محملي
إذا عاين الأصحاب مابي من الجوى ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ترفق ولا تجزع على فائت الوفا ... فما عند رسم دارس من معول
ولي فيك ود باقي (كذا) قد شددته ... بأمراس كتان إلى صم جندل
ولي خطرات فيك منها جوانحي ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل
كأن أمانيها كئوس مدامة ... غدا ونمير الماء غير محلل
سلوت غوايات الشبيبة والصبا ... وليس فؤادي عن هواها بمنسل
وأجلو محيا الود فيك لأهله ... متى ما ترق العين فيك تسهل
فكر على جيش الخيانة عائدا ... بمنجرد قيد الاوابد هيكل
تجد خفرات الأنس منى كواعبا ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا ... وان كنت قد أزمعت صرمي فاجمل
فأجابه الشيخ جمال الدين ابن نباتة متهكما في المطلع بما لا يخفى بقوله:
فطمت ولائي ثم أقبلت عاتباً ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
فأحييت وداً كان كالرسم عاتيا ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
تعفي رياح العذر منك رقومها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
نعم قوضت منك المودة وانقضت ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا ... بباطن خبت ذي قفاف عقنقل
ولا تنس مني صحبة تصدع الدجى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
صحبتك لا ألوي على صاحب عطا ... بجيد معم في العشيرة مخول
وحاولت من إدناء ودك ما نأى ... فأنزلت منه العصم من كل منزل
بقلب إلى وجدي به سوط سابق ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فكم خدمة عجلتها وسجية ... تمتعت من لهو بها غير معجل
وكم أسطر مني ومنك كأنها ... عذارى دوار في ملاء مذيل
وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت ... علي وآلت حلفة لم تحلل
ولحية لاح غاضها ضحكا على ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
نزعت سلوي ساحباً عن صبابتي ... على أثرنا أذيال مرط مرحل
وقلت خليل ينشد الود همه ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
إلى أن تبدى عذره متمطيا ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ولا طفته في حالتيه ولم أقل ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
ويقرع سمعي من معاريض لفظه ... مداك عروس أو صلابة حنظل
وعدنا لود يملأ القلب عوده ... بشحم كهداب الدمقس المفتل
أعدت صلاح الدين عهد مودة ... بكل مغار الفتل شدت بيذيل
فدونك عتب اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
وعادات حب هن أشهر فيك من ... قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل
ومن ظريف المكاتبات ما كتب فخر الدين ابن مكانس إلى بدر الدين البشتكي على طريق المداعبة وكان قد دار دولاب الهمائل :
دورة البدر في سواقي الهمائل ... تركت أدمع العيون هوامل
آه من للرياض نور أديب ... مظهر في كلامه سحر بابل
فاق سعياً على بني عجل في الجو ... د وأغنى عن الولي الهاطل
قد أعار الجناس منه توار ... وأنت تورياته وهو كامل
يا سعيداً أثرى من النظم والنث ... ر فأنسى الورى زمان الفاضل
قد سقيت الرياض يا شيخ بالد ... ر فها غصنها من السكر مايل
لم تجد من نباتة لم تجدها ... فابنها بالثنا عليك يواصل
وابن قابوس كان طالع في ... خدمتك اليوم بالأوامر نازل
وغدا بالظلال كل أديب ... في هجير الرمضا بفضلك قائل
وبروحي عيون نرجس دوح ... تغزل الحسن بالندى وتغازل
أنت سقيتها بشعرك زهرا ... وبعثت المياه فيها خلاخل
كم غصون أينعتها فعليها ... هاج للطير والمحب بلابل
أنت في الحالتين تصريفك الأح ... دب أو كيمياء ذهنك واصل
أنت لو لم تكن بحور علوم ... ما جرت في الرياض منك جداول
كنت عندي أجل قدراً وقد در ... ت من الثور للوجود الخامل
وغدا قس بين لفظك والرو ... ض على الحالتين عندك باقل
أنت يا بدر فقت بدر الدياجى ... فلهذا تبدو وذلك آفل
يا خليا إنه الشجون فان لم ... تك عيني كدمع عيني سائل
فالأديب المحب يشكو هواه ... للأديب المحب عند النوازل
أنا مغرى بحب أحور ألمى ... بفتى يزدري بغصن الخمائل
من بني الترك قده اللدن واللح ... ظ كلا الفاتنين أصبح ذابل
أعين الزهر والغصون تراها ... شاخصات إذا مشى وموائل
لا تقل لي الأعراب تحكيه لحنا ... ما ترى للأعراب هذي العوامل
ماسى عجبا وقصده يقتل الخل ... ق دلالا وللدلال دلائل
لا تلم في عذاره هتك شيبي ... أنا قد بعت آجلي بالعاجل
ولئن كنت عاقلا إن لي من ... صبوتي في الهوى عن العقل عاقل
ولعمري أنت الذكي ولكن ... أنت والله عن غرامي غافل
هاك حالي شرحته فأغثني ... إن تكن يا أخي لهمي حامل
واطرح عتبها فعيش المحبي ... ن مجون والعيش كالظل زائل
دمت يا جامع المحاسن والشم ... ل ولا زال غيث فضلك شامل
أنت بدر أم أنت شمس فأنا ... قد رأيناك غرة في الأصائل
وكفيت الحرام يا أشرف القو ... م ومن جوده ينسي الباخل
فأجابه الشيخ بدر الدين البشتكي:
هذه وصفة وإلا بلابل ... حركت في القلوب منا بلابل
حرت ما بين لفظها والمعاني ... أين زهر الربى وزهر الخمائل
أقسم البدر ما لنظم الدراري ... مثل نظم أزرى بسحبان وائل
أين فعل المدام أين الأغاني ... أين لحظ المها وصنعة بابل
ما لنظم الحباب بين الندامى ... حسن هذا القريض بين الأفاضل
طالعات أبياته كنجوم ... تركت في العدى بيوتي نوازل
قل لمن قاسه بشعر سواه ... هل تساوي بالله حقا وباطل
إن هذى لكيمياء معان ... مالها غير حسن رأيك واصل
أيها الفاضل الذي لو رآه ... ابن هاني أنساه روح الفاضل
ولعمري أنا البعيد وقد كا ... تبتني بالولا وضدي خامل
كل من فاق في مقال وفعل ... وهو يفديك من مجد وهازل
أشرقت رتبة الوزارة كالشم ... س بهم فاعجبوا لها في الأصايل
ولهم بعد ذا وحقك فخر ... ماله في زمانه من مماثل
ما جد قد قصرت روحي عليه ... حين نادى علاه هل من مطاول
قد طوى حاتماً ربيع نداه ... فجنيت في وصفه وهو قابل
لست أنسى مداعبات تقضت ... بيننا في الرياض فوق الخمائل
درت قدما دواون الشعر حتى ... كدت من دورها أرى في سلاسل
ثم ناظرت في المياه أبا ثو ... ر لعمري وذاك خير مماثل
أنا بدر حللت في برج ثور ... وتنزلت مذ رأيت المنازل
فابن قابوس لو أتاه جدالي ... كان يملي من الدموع الجداول
أو صريع الدلا لكان ينادي ... من يساجله ماجداً فليساجل
أو يعد نفسه صريع الغواني ... بلحاق نادوه يا غير عاقل
ونداماي سادة قد تحلى ... دهرنا منهم وقد كان عاطل
أنا في ظلهم وفي مدح عليا ... هم على الحالتين أكرم قائل
كلما جارت الكؤوس عليهم ... لم يميلوا إلا إلى قد عادل
وغرير اللحاظ أسمر ألمى ... فوّق اللحظ ما تعدى المقاتل
عامل قده على الميل عني ... صدق القائلون في القد عامل
هازئ في اعتداله بغصون ... لا قصيراً جداً ولا متطاول
لم أطل نظرة إلى جسمه الغض ... لئلا يلفى بذلك ذابل
وإذا ما العيون أثرن فيه ... ليت شعري فكيف حال الغلايل
كلما قلت وجهه نسخة الحس ... ن ينادي يا بدر هل من مقابل
مبدع في الطباق قد خف خصراً ... وغدا طود ردفه متثاقل
كم حملنا فيه الملام وكم با ... ت من الفخر داجي الليل حامل
يا وزيراً وعالماً وأديباً ... وخليعا ينسى الخليع وفاضل
دمت في ارغد السرور بإخوا ... نك أكرم بهم وظلك شامل
وبقيتم بقاء نجم الثريا ... ونجوم الأعدا لديكم أوافل
وتكلفت بالمدائح فيكم ... داعيا والالتزام بالحج كامل
كتاب الروض النضر في ترجمة ادباء العصر-الجزء الاول-عصام الدين عثمان بن علي بن مراد العمري-ص372