مراد العمري
وأما الجد القريب مراد، صاحب الحيثية والاستعداد. فهو البحر الزاخر، والغمام الهموع المتقاطر. ربيع الحكم وصاحب المجد والكرم. روض الإفادة وغصن ساحة الكمال والسعادة. أمام فن العربية وترجمان لسانها، وعين أعيان البلاغة وإنسان إنسانها
لا ترجون له المثيل فإنه ... شمس الهدى وعناية الآداب
أحيا أموات العلوم، وعمر ربع المنثور والمنظوم. ملأ بآدابه جنبات الأرض، ونشر لواء فضله في طولها والعرض.
جال في ميدانها، واسترق أدباء عصرها وأوانها، صارم العزم، حاضر الحزم، ساري الفكر ثبت المقام، صلب العود، تهادت أهل العلوم، بفضله المرسوم. فتحقيقاته كثيرة حقيقة، وتدقيقاته غزيرة أنيقة. وتعاليمه رايقه، وتصانيفه فائقة. فضله ظاهر، وقد تعاطت سلافة أدبه الأكابر والأصاغر.
ومما أخبرني الوالد عن أبيه هذا الكريم الماجد قال: كان في
مراد بن عثمان بن علي بن قاسم العمري، كان مدرس الحضرة النبوية اليونسية وخطيب جامعها. وكانت له اليد الطولى في علمي المعقول والمنقول، عارفا بعدة لغات: التركية والفارسية والكردية. توفى سنة 1092 هجرية
وآثاره الآن دالة على توغله في كل فن. أمة بالحديث وعلامة بالتفسير، مرجع في كليهما للقليل والكثير. كأنه روض هذه العلوم الذي اعتدلت اسطاره، وابتسمت في حدائقه من أكمامها أنواره. قد منع الشمس من فضله ان ترمق ثراه، وعن أن تدرك خيال كماله في مروره ومسراه. وقد شهدت له بذلك الفضل ليالي وأيام، وتلت محاسن مواهبه الزاهية محابر وأقلام، وتعليقاته على المشارق نعم الأثر، وهو الذي يرشدك إلى صحة هذا البيان وثبوت هذا الخبر. وقد اثبت من نظمه الساطع، ما هو لكماله برهان قاطع. فمن شعره قوله:
بح بالغرام فما عليك ملام ... إن التستر بالغرام حرام
واترك ملامة لائم في حبه ... إن الملامة في هواه هيام
كيف التعرض للسلو وصده ... برء ووصل سواه لي أسقام
الوصال إذا لم يكن مراد المحبوب، فهو عندهم على الحقيقة غير مطلوب، والفراق ألذ من الوصل لأنه مراد المعشوق، والوصال مراد العاشق المشوق، وحصول مراد المعشوق على كل حال، هو عند العاشق غاية الطلب ونهاية الآمال. وقد قيل في هذا المعنى:
أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد وفي البيت المذكور ما يفيد ذلك.
ومن القصيدة المذكورة:
كيف التخلص من محاسنه التي ... فيها لأرواح الكماة حمام
فالطرف يرمي بالنبال ولحظه ... قد سل للعشاق منه حسام
وبقده الخطي أوهن مهجتي ... وحشاشتي فكلاهما أوهام
بالروح أفدي من إذا أبصرته ... لم أستطع ولهاً عليه سلام
ما لابن مقلة صاد مقلته ولا ... مثل العذار بما تحفظ لام
بين السيوف المرهفات وجفنه ... عهد على سفك الدماء دوام
أأروم من كلفي عليه تخلصا ... هيهات ذاك جرت به الأقلام
أو كيف تخل من الصبابة مهجتي ... ولنارها في الخد منه ضرام
هذا البيت لطيف جدا في بابه زائد على بيت ابن النبيه في قوله من قصيدة مدح بها الملك الأشرف موسى ومطلعها:
صن ناظراً مترقباً لك ان ترى ... فلقد كفى من دمعه ما قد جرى
يا من حكى في الحسن صورة يوسف ... واهاً لو انك مثل يوسف تشتري
والبيت المطلوب منها:
تعشو العيون لخده فيردها ... ويقول ليست هذه نار القرى
فإنه زاد على هذا نكتة لطيفة لا تخفي على المتأمل، إذ ما على خده من النار المضرمة إنما هي مستعارة من قلبه الذي هو منزله ومكانه. وأما بيت ابن النبيه فخلاصة ما فيه النار فقط (4).
ومثله للشيخ تقي الدين قوله:
وطال علينا الستر في ليل شعرها ... فهنا كانا قط لم نعرف الفجرا
ولكن بأعلى خدها رفعت لنا ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
*** ومن القصيدة المذكورة:
فاقت بدور التم طلعة وجهه ... فله عليها للطلوع ذمام
فإذا تبدى أو ترنح شاديا ... فالليل صبح والغصون حمام
وإذا رنا أسباك من ألحاظه ... سحر له هاروت فيه غلام
لله أي سويعة قضيتها ... فكأنها من طيبها أحلام
نادمته والعيش برد نعيمه ... صاف وما للحادثات نظام
أبرا بلذة أنسه وكلامه ... قلباً برته من الصدود كلام
في روضة عبق النسيم بطيبها ... وتفتحت عن نورها الأكمام
صدحت بلابلها على أغصانها ... فنمت لطيب سماعها الأجسام
كأنه أشار بهذا البيت إلى ما قاله مروان بن أبي حفصة إن الغناء غذاء الأرواح، كما إن الشراب غذاء الأشباح، وذلك لأن أصوات البلابل والحمائم ونحوها يختلف باختلاف السامع، فمنهم من جعله غناء، ومنهم من جعله عناء. إذ الإيقاعات المطربة لها في النفوس منزلة وتأثير عجيب، وموقع لطيف في تصفية الذهن، وتفريج القلب، وجلب السرور حتى قال بعضهم: أن أمهات لذات النفوس اربعة: لذة المطعم والمشرب
والنكاح والسماع. فالثلاثة الأولى لذات جسمانيةولا يتوصل إلى واحدة منها إلا بحركة تكلف. ولذة السماع نفسانية، ونشوة روحانية تدب في البدن، وتسري في الروح من غير تكلف فتنمي الأرواح كما تنمي الأشجار وأصوات الحمائم من هذا القبيل وفي تسميتها غناء قال ابن عبد الظاهر :
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأرى في الشجي ليست كذلك
خصبت كفها وطوقت الجيد ... وغنت وما الحزين كذلك
ومثله كثير. ومنها:
في ساعة سمح الزمان بطيبها ... وتفضلت بصفائها الأيام
والكأس في يده تدار وبيننا ... تب به لصدا القلوب رهام
من خمرة مثل الشموس وكأسها ... بدر إذا ما زال عنه غمام
ومثل هذا التشبيه كثير كقول بعضهم:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البر والبحر
ومنها:
وبمزجها تبدو نجوم سمائها ... من فوقها أنى يكون ظلام
حلت لنا وجلت فليس بشربها ... إثم ولا عنها يقال حرام
هذا لعمري للمحب هو المنى ... وهو الحياة وغيره أوهام
كتاب الروض النضر في ترجمة ادباء العصر -الجزء الاول-عصام الدين عثمان بن علي بن مراد العمري-ص38