الدكتور كلوت بك
مؤسس الإصلاحات الطبية في الديار المصرية.
الطب القديم
كانت مصر إلى آخر القرن الثامن عشر في حوزة الأمراء المماليك، ولا يخفى عليك ما كان من أمرهم في دولتهم، وإماتة العلم والصناعة واستنزاف أموال الناس، حتى لقد كان القطر يئن من شدة عتوهم، فلم يكن للعلم باب يدخل فيه أو تربة ينمو فيها؛ وخصوصًا علم الطب، فإنه كان من جملة العلوم الدائرة.
وكان الأطباء في الغالب من جالية بلاد المغرب؛ يطببون بالحجامة والكي والفصد وغير ذلك مما لا يزال جاريًا في أماكن كثيرة من هذه الديار، وغيرها من بلاد المشرق.
أما المدارس الطبية فلم يكن لها صورة في أذهان أولئك الحكام أو رعاياهم، على أن بعض هؤلاء الأطباء المغاربة كانوا يلقون دروسًا من تلقاء أنفسهم على من يرغب في تلك الصناعة من أهل البلاد أو غيرهم، وكان الغالب في إلقائها في البيمارستان المنصوري، بالنحاسين، أو في أروقة الجامع الأزهر، أو في بيوت أولئك الأطباء، وأما كتب التعليم فكانت مما كُتب في الأعصر الإسلامية القديمة؛ كعصر العباسيين أو الفاطميين أو غيرهما؛ ولذلك كان طِب القرن الثامن عشر طبّ القُرُون الأولى في صدر الإسلام، أو هو طب قدماء اليونان والرومان؛ كأبقراط وجالينوس؛ لأن المسلمين أخذوا الطب عنهم.
وما زالت حال الطب في هذه الديار على ما تقدم إلى زمن الحملة الفرنساوية التي أغار بها نابوليون بونابرت على هذا القُطر السعيد سنة 1798م، فدخلت الجنود وأوغلوا في مدنها، وكان في جملة تلك الحملة جماعة من العلماء الذين اشتهروا في العلم، ولا تزال أسماؤهم مشهورة في سائر أنحاء العالم، جاء بهم بونابرت إتماما لمعدات الاستعمار؛ ظنا منه بطول مكثه واستعماره الديار المصرية.
وقد بحثت هذه الجمعية في الآثار المصرية وتربة البلاد، وحللوها، ودرسوا طبائع الحيوان والنبات فيها، وكان في عزمهم أن ينشروا لواء العلم بين أهلها، لو لم تفاجئهم طوارئ الحدثان بالانسحاب إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات من احتلالهم (سنة 1801م) ولم يتمُّوا شيئًا مما كانوا شرعوا فيه في الإدارة أو العلم أو الصناعة، ولكنهم تركوا آثارًا من التمدُّن الحديث كانت بمنزلة جراثيم ضعيفة لو طال الأمد عليها كامنة لعفت آثارها وبادت، ولكن الله قيَّض لها رجل الإصلاح والحزم المغفور له محمد علي باشا؛ فبعد أن قبض على أزمة الإدارة والسياسة، ودانت له الرقاب؛ أخذ في تنظيم الأحوال وإحياء المعالم المصرية؛ أراد بذلك أن ينشئ دولة عربية، وقد علم أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الأمة إنما هي العلم والصناعة وحسن الإدارة.
أما حُسن الإدارة فكان هو الكافل لها مع من كان حوله من ذوي شوراه من المصريين، وغيرهم، وأما العلم فعَلِمَ أنه لا مندوحة له عن استخراجه من معدنه، فبعث الوفود إلى أوروبا يستقدمون رجال العلم والصناعة وأرسل جماعةً من أذكياء شُبَّان هذا القُطر إلى أوروبا؛ يتلقون العلوم عن أهلها؛ حتى يعودوا ويبثوها بين أبناء جلدتهم، وكان ذلك أول الإرساليات العلمية.
كلوت بك
وكان في جملة من استخدمهم للإصلاح العلمي النطاسي الشهير الدكتور كلوت بك، صاحب الترجمة استقدمه من أوروبا بقصد تطبيب الجيش؛ منعًا لتفشي الأمراض فيه، وهو فرنساوي الجنس والنزعة، واسمه الأصلي أنطون برطلمي كلوت، ولد في غرينوبل بفرنسا سنة 1793م من أبوين فقيرين وربي في شظف من العيش وضيق ذات اليد، ملامح النجابة كانت تلوح على وجهه، ومواهبه الطبية تتجلى في أعماله منذ كان صبيًّا؛ لأنه كان على صغره ولعا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها.
وتوفي والده سنة 1801م بعد أن نزح إلى برينول، وكان له صديق اسمه الدكتور سابيه، فلما عاين ما في الغلام من المواهب على حاله من الفقر جعله مساعدًا له، يرافقه في أعماله الطبية، ويتمرَّن في الجراحة، وكان كلوت يُطالع ذلك العلم بنفسه ساعات الفراغ، حتى قرأ كتاب الجراحة تأليف (لافه) ثم رأى أن برينول - لصغرها – لا تفي بما تجنح إليه نفسه، ولا تروي مطامعه، فنزح إلى مرسيليا رغم إرادة والدته التي كانت كثيرة التعلق بولدها؛ هذا لأنه كان وحيدًا لها، ولكنه أصر على عزمه، وضغط على عواطفه طلبًا للعلى وسعيًا وراء العلم، وهو لا يملك إلا بعض الدريهمات وشيئًا من الثياب، على أنه لم يلاق في مرسيليا إلا الخيبة، فحدثته نفسه أن يسافر في سفينة جرَّاحًا لبحارتها، ويتحمل مشاق الأسفار وأخطارها سدًّا لعوزه وهو في التاسعة عشرة من سنه، فلم يقبله ربَّانها، وكان ذلك لحسن حظ المترجم؛ لأن السفينة غرقت في ذلك السفر.
فاضطره العوز لتعاطي مهنة الحلاقة، فصار يختلف إلى حلاق يعالج بالفصد والجراحة الصغرى، ثم عاد إلى بلده مرغمًا، ودخل في المستشفى بعد عناء وتكرار الالتماس، وأكب على الدرس والمطالعة حتى نبغ بين أقرانه، ولكن الفقر كان لا يزال ضاربًا أطنابه بين يديه.
وفي سنة 1817م أتمَّ دروسه، وعُيّن طبيبًا صحيًّا، وكان قد درس العلوم بنفسه وأتقن اللغة اللاتينية على أحد القسوس، ونال رتبة بكلوريوس في العلوم (بكلوريا)، وفيسنة 1820م نال شهادة الدكتورية بعد شق الأنفس ومعاناة البلاء، ولكنه أصبح قابضًا على ما يؤهله للعمل والتعيُّش، فعاد إلى مرسيليا وعيّن طبيبًا ثانيًا بمستشفى الصدقة، ومستشارًا جراحيًا بمستشفى الأيتام، فنمَّ به بعض ذوي الحسد فأقيل من منصبه، ولكنه لم يسعَ في الانتقام، بل تضاعفت همته في العمل؛ أراد بذلك أن يبرهن على عدم اكتراثه بالسعاية والوشاية، وأنه إنما ينال الشهرة والسعادة بالسعي والاجتهاد، فكتب كتابًا في استعمال آلات الولادة في الأحوال الخطيرة، حتى صار دكتورًا في فن الجراحة، وذاع صيته في مرسيليا، وكان ذلك كافيًا لرغم أنف حسوده.
وفي سنة 1825م اجتمع إليه المسيو تورنو، وكان تاجرًا فرنساويًا من نزالة مصر، بعث به المغفور له محمد علي باشا لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبَّب إليه المسير إلى مصر في ذلك المنصب، فقَدِم على طيب خاطر، فرأى أمامه بابًا واسعًا للعمل؛ لما قد علم من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكرًافي الوسائل المؤدية إلى المراد.
وكان محمد علي باشا يركن إليه، ويثق برأيه، ويُجيب مطاليبه، فأسس - أولا - مجلسًا صحيًّا؛ ليستعين بأعضائه على الإجراء والتنفيذ، وبث الوصايا الصحية، فرتّبه على مثال المجالس الصحية الفرنساوية، ولإتمام النظام العسكري أنشأ المستشفيات العسكرية، ومصلحة الصحة البحرية.
ولا يخفى أن المستشفيات تحتاج إلى عَمَلَة من الأطباء والتومرجية وغيرهم، ولم يكن في مصر شيء من ذلك، فاضطر أن يعلم كُلَّا من هؤلاء واجباته من التطبيب وملاحظة المرضى، وغير ذلك.
وأشهر المستشفيات التي بنيت بناء على إشارته مستشفى أبي زعبل، وهي قرية على مسافة أربعة فراسخ من القاهرة، وكانت مقرَّ الجند، وأنشأ في المستشفى بستانا للبنات، وفي نحو سنة 1828م أسس المدرسة الطبية في تلك القرية أيضًا؛ وأراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد؛ حتى يفيدوا أبناء جلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده الذي يلقي الدروس بواسطة المترجمين؛ تسهيلًا لفهمهما، فتُرجمت كُتب عديدة إذ ذاك، وفي جملتها قاموس نستين الطبي، وغيره من كتب الطب والجراحة والعلوم الطبيعية.
وممَّا كان عقبة في طريق التشريح العملي أن تشريح جثث الموتى كان أمرًا منكرًا في عيون المشارقة، فبذل كلوت جهده حتى أبيح له التشريح سران على أن ذلك لم ينجه من غضب الأهالي عليه، حتى إن أحدهم جاءه يريد قتله خلسة بخنجر، ولكنه لم يفز.
وفي سنة 1832م سار الدكتور كلوت بك في 12 تلميذا من تلامذة مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية العلمية الطبية، فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة؛ وهاك أسماء هؤلاء التلامذة:
أحمد الرشيدي
مصطفى السبكي
حسن الرشيدي
محمد الشباسي
محمد منصور
محمد السكري
إبراهيم النبراوي
محمد الشافعي
حسين الهيهاوي
أحمد بخيت
عيسوي النحراوي
محمد علي البقلي
وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجبًا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورًازائدا؛ لأنهم سيكونون له عونًا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار.
وفي سنة 1838م نُقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة، وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني، ثم أنشأ فيها فرعًا لدرس فن القبالة، يتعلمها النساء؛ لعلمه أَنَّ عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على يد أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفى خاصا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدة عظمى؛ خصوصًا لأن النساء لمبالغتهن في التحجب لا يؤذن للطبيب بمساعدتهن في الولادة، ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض، فكم كان يموتُ منهن لنقص المعالجة! أما بعد مدرسة القوابل فصارت القابلة (الداية) تقوم بأعمال الطبيب في معالجة النساء، فكم شَفَتْ أنفسًا، وكم أنقذت أُناسًامن الموت بإذن الله
ثم رأى - تعميما للفوائد الصحية - أن ينشئ أماكن للاستشارة الطبية بالقاهرة والإسكندرية، ففعل وجعل في كل استشارة أجزاخانة، وأنشأ أماكن كثيرة لمعالجة المرضى؛ كالمستشفيات وغيرها في المدن الكبيرة في القطر، وأدخل تطعيم الجدري للأطفال والغلمان، ولم يكن متداولا قبل ذلك بمصر، فأوقف انتشار ذلك الوباء، وكان يموت بسببه قبل ذلك ألوف كل سنة، وقد ظهرت نتائج إجراءات الدكتور كلوت بك الصحية في ازدياد عدد سكان القطر إلى أضعاف ما كانوا عليه.
وأظهر الدكتور كلوت سنة 1830م من الهمة في دفع داء الكوليرا ومعالجة المصابين ما يشهد له به التاريخ، وقد عرف له ذلك محمد علي باشا، فأنعم عليه على أثر ذلك برتبة [بك]، وهي رتبة لم يكن ينالها إلا نفر قليل، وكلوت أول من نالها من الأوروبيين على ما نعلم؛ وأنعمت عليه الحكومة الفرنساوية أيضًا برتبة ليجيون دونور.
وفي سنة 1835م ظهر الطاعون بالقاهرة، فخاف الأطباء واعتزلوا في بيوتهم خوفًا من العدوى، إلا الدكتور كلوت بك وثلاثة من زملائه فإنهم ثابروا على خدمة المرضى ومعالجتهم، وقد رأى صاحب الترجمة أن هذا الداء غير معدٍ بمجرد الدنو من المرضى ومعالجتهم، وقد طعم نفسه بالصديد الجدري المعروف بالمادة الفحمية.
وكان لخدمته هذه وقْع حسن في عيون محمد علي باشا وسائر من عرفه، فبعد انقضاء تلك الأزمة أنعم عليه محمد علي باشا برتبة (جنرال)، وكتب إليه بذلك يقول: لقد تقلَّدت بصنيعك هذا قلادة الفخر؛ فقد جعلتك لذلك جنرالا.
وأنعمت عليه الدولة الفرنساوية برتبة أوفيسيه دي لاليجيون دونور، وأهدته سائر الدول الأخرى نياشين بطبقات مختلفة؛ إقرارًا بخدمته لها في معالجة رعاياها أثناء ذلك الوباء.
وفي سنة 1840 سار إلى فرنسا، وعرض كتابين من تأليفه؛ أحدهما يشتمل على أعماله في مصر، والثاني في الحوادث الوبائية، وَلَمَّا سار المرحوم إبراهيم باشا في حملته إلى الشام رافقه صاحب الترجمة، فزار أكثر مدن الشام، والتقى في بيت الدين بالأمير بشير الشهابي، فالتمس منه هذا أن يتوسط له لدى عزيز مصر في إدخال نفر من اللبنانيين مدرسة قصر العيني؛ لدراسة صناعة الطب على نفقة الحكومة المصرية، فأجاب ملتمسهثم عاد إلى مصر.
وما زال عاملًا بنشاط وغيرة حتى توفي محمد علي باشا ثم إبراهيم باشا، وتولى عباس باشا الأول سنة 1849م، فاستأذنه الدكتور كلوت بك بالذهاب إلى مرسيليا، وبقي هناك حتى تولى سعيد باشا سنة 1856، فعاد كلوت بك إلى مصر وسنه 63 سنة، والظاهر أنه رحل إلى مرسيليا في عهد عباس باشا الأول؛ لوحشة بينهما، فاستشار سعيد باشا في مَن يليق لتولي إدارة المدرسة الطبية، فاختار له خمسة من نوابغ الأطباء؛ وهم: كلوتشي بك، وفيجري بك، وبرجير بك، وشافعي بك، ومحمد علي بك، فتبادلوا رئاسة المدرسة الطبية والمستشفيات زمنًا.
أما كلوت بك فإنه عاد إلى باريس في سنة 1856م، ونشر نبذة تتعلق بالحجور الصحية، فأنعمت عليه الحكومة الفرنساوية برتبة كومندور دي لاليجيون دونور، ومما ناله من علامات الشرف أيضًا لقب (كونت روماني) لقَّبه به بابا رومية لخدمة قام بها نحو المسيحيين، وهو لقب يُعطى لمن لا يقبل الرشوة، وفي سنة 1860م سافر إلى مرسيليا، وتوفي فيها في 28 أغسطس سنة 1868م.
وكان الدكتور كلوت بك لين العريكة، حسن الطوية، محبًّا لأبناء وطنه، محافظا على كرامة ديانته راغبًا في العمل، نشيطا، غيورًا، متقناً لمهنته، مخلصًا في خدمة الإنسانية، نزيها عن الأغراض الشخصية؛ ولذلك فقد تسابقت الدول إلى إهدائه النياشين والرتب، وقد أهدى ولده تمثاله إلى مدرسة الطب سنة 1894م، فنصبوه بمشهد حافل من الوجهاء والعلماء والأطباء، يتقدمهم ناظر المعارف بالنيابة عن الحكومة الخديوية.
وألف صاحب الترجمة - فضلًا عن المواضيع الطبية - كتابًا عن مصر في مجلدين، طبع سنة 1840م، بالفرنساوية، صدَّره برسم محمد علي باشا، ووصف فيه مصر إداريًا وزراعيًا واجتماعيًا على اختلاف الأزمان، وأفاض في تاريخها الطبيعي، وتقويمها بما فيها من السكان وعددهم، واختلاف أجناسهم وآدابهم وعوائدهم، ونظر في مصر نظرًا دقيقًا من حيث تجارتها وصناعتها وعُلُومها وجندها وأعمالها في الري وحفر الترع، وما يُشاهد من آثارها، إلى غير ذلك مما يعجز عن مثله سواه.
وخلاصة القول أن الدكتور كلوت بك ممَّن يُخلَّد ذكرهم في التاريخ المصري مدى الدهور.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، الجزء: 2 – ص: 11 – 17.