فضيلة الدكتور محمد الفحام
هو الدكتور محمد محمد الفحام من مواليد منطقة الرمل بالإسكندرية في 18 من ربيع الأول سنة 1321هـ الموافق 18 من سبتمبر سنة 1894م حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة، والتحق بمعهد الإسكندرية، وظهرت نبوغته وهو في السنة الثانية الابتدائية، فكان الطالب مولعا بجميع المعارف والعلوم مقبلا على دراسة المنطق وحب الجغرافيا فألف رسالة في المنطق وهو في الثانية ثانوي وهي كتاب (الموجهات) وتم طبعها فيما بعد سنة 1932م وأقبل عليها الطلبة في الإسكندرية وغيرها، وانتفع بها طلاب العالمية، أما الجغرافيا فقد بلغ شغفه بها أنه كان يستأذن في أن يذهب إلى حجرة الخرائط ويغلقها على نفسه طوال الليل، ويظل يدرسها حتى الصباح.
وأثناء دراسته لاحت أمامه فرصة للالتحاق بدار العلوم وكان كثير من طلبة الأزهر يؤثرون ترك الأزهر أو الالتحاق بدار العلوم أو القضاء الشرعي رغبة في التجديد وطمعاً في مستقبل أفضل، واستشار الطالب والده فقال له: إنني واثق بجودة رأيك، وحسن اختيارك، فاتجه إلى ما تراه صواباً والله معك، أما أمه فكانت تتفاعل بالأزهر فأوصته ألا يتركه، واستجاب لوصية والدته وظل يعمل بها طيلة حياته.
واصل الدراسة بالقسم العالي بمشيخة علماء الإسكندرية ونال شهادة العالمية النظامية بتفوق في امتحان أداه بالأزهر سنة 1922م.
وبعد تخرجه اتجه الشيخ الفحام إلى التجارة فاشتغل بها ونجح فيها نجاحاً كبيراً ولكن مواهبه العلمية من جهة، ونصائح المخلصين من أصدقائه من الجهة الأخرى حملته على أن يعود إلى الحياة العلمية، وكان الأزهر قد أعلن عن مسابقة بين العلماء في العلوم الرياضية لتعيينهم مدرسين للرياضة بالمعاهد الدينية سنة 1926م فتقدم للامتحان وفاز فيه بتفوق، وتم تعيينه في معهد الإسكندرية في 4 من أكتوبر سنة1926م، فدرس علوم الحديث، والنحو، والصرف، والبيان، والحساب، والجبر لمدة 9 سنوات.
وفي سنة1935م نقل إلى كلية الشريعة لتدريس المنطق وعلم المعاني وفي سنة 1936م قامت الحرب العالمية الثانية، وكان يدرس في فرنسا ضمن بعثة تعليمية سافرت إليها، وفي أثناء الحرب اضطر إلى أن يهاجر إلى بوردو، ولم تعقه أهوال الحرب ولا أعباء الأسرة التي كانت معه على مواصلة الدراسة في صدق وعزيمة حتى نال دبلوم مدرسة الأليانس في باريس سنة 1938م، كما نال دبلوم مدرسة اللغات الشرقية الحية في الأدب العربي سنة 1941م، ونال في نفس العام دبلوما آخر في اللهجات اللبنانية والسورية، ودبلوم التأهيل لتعليم اللغة الفرنسية ونال كليهما من كلية الآداب بجامعة بوردو سنة 1941م.
وبعدها حصل على شهادة الدكتوراه بدرجة الشرف الممتاز من جامعة السوربون في أول يوليو سنة 1946م، وكان موضوع الرسالة (إعداد معجم عربي فرنسي للمصطلحات العربية في علمي النحو والصرف).
وفي سبتمبر سنة 1946م عاد من فرنسا حاملا الدكتوراه ليعمل مدرسا بكلية الشريعة ثم نقل منها إلى كلية اللغة العربية ليعمل مدرسا للأدب المقارن، وظل بها حتى رقي إلى درجة أستاذ صاحب كرسي، ثم عميد للكلية.
وفي سنة 1949م، اتصل به المسؤولون لنقله إلى كلية الآداب لتدريس النحو والصرف ولكنه رفض فاكتفوا بندبه مع بقائه في الأزهر فجمع بين التدريس في الأزهر والجامعة.
وفي سنة 1951م، زار نيجيريا - وهي أكبر دولة إسلامية أفريقية - بتكليف من مجلس الأزهر الأعلى فقضى بها خمسة أشهر زار فيها أهم مدنها وقابل علماءها وأمراءها واستقبلته الجماهير بحفاوة منقطعة النظير حتى كانت دموعه تغلبه من شدة التأثر.
وفي سنة 1952م، زار الباكستان ممثلا للأزهر في المؤتمر الإسلامي المنعقد بكراتشي حيث ألقى بحثا ممتازا نال إعجاب الأعضاء.
وفى مارس سنة 1959م صدر قرار تعيينه عميدا لكلية اللغة العربية وظل يباشر عمله في العمادة والتدريس والتوجيه والإرشاد حتى حان موعد إحالته إلى المعاش في 18 من سبتمبر سنة 1959 فصدر قرار جمهوري بعد خدمته عاماً آخر، ثم صدر قرار آخر بعد خدمته ثلاثة أشهر حيث ترك العمل في 18 من ديسمبر سنة 1960م.
ولما أحيل إلى المعاش لم يخلد إلى الراحة والسكون لأنه خلق مفطورا على العلم وعلى العمل وكانت شهرته قد ذاعت فأقبلت عليه الهيئات العلمية في الداخل والخارج كل الإقبال، ففي سنة 1961م، حضر وزير أوقاف باكستان إلى القاهرة واجتمع بلفيف من العلماء بمكتب وزير أوقاف مصر لاختيار أحدهم لوضع منهج تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية بأكاديمية العلوم الإسلامية والعلوم الشرعية في باكستان وكان فيهم الدكتور الفحام وانفض الاجتماع، وسافر الدكتور إلى الإسكندرية، وما كاد يصل إليها حتى طلبه نجله تليفونيا للحضور إلى مكتب السفارة الباكستانية بالقاهرة لمقابلة وزير أوقاف باكستان حيث تم اختياره لهذه المهمة، ولما عاد إلى القاهرة زاره وزير أوقاف الباكستان في بيته، حتى لا يجشمه مشقة الانتقال إلى السفارة وأنبأه باختياره للسفر إلى باكستان لوضع المناهج المطلوبة فقضى هناك ستة أشهر أتم فيها مهمته، وأدى واجبه خير أداء انتهز الفرصة فزار مدن الهند وقابل علماءها الأعلام، واتصل بالهيئات الإسلامية فيها ووثق الروابط بينها وبين الأزهر الشريف.
وفي سنة 1963م سافر إلى موريتانيا ممثلا للأزهر لدراسة أحوال المسلمين فيها والوقوف على مدى حاجاتهم إلى المدرسين من علماء الأزهر ومعرفة مقدار المنح الدراسية المطلوبة من الأزهر للطلبة الموريتانيين، والمعروف أن علماء موريتانيا يتحدثون العربية الفصحى ويحفظون كثيرا من متون اللغة ومن عيون الشعر والنثر العربي فمنهم من يحفظ المعلقات، ومنهم من يحفظ مقامات الحريري ومنهم من يستظهر ديوان الحماسة ونظم بعضهم المغني لابن هشام في ثلاثة آلاف بيت وقد بهرهم الشيخ بعلمه الغزير وخلقه القويم وإيمانه العميق، فاجتمع العلماء ومنحوه لقب (مواطن موريتاني) وسجلوا هذا في وثيقة علم بها وزير الداخلية في موريتانيا فوقع عليها معهم وجعلها وثيقة رسمية.
وفى سنة 1964م كلفه المجلس الأعلى للأزهر بالاشتراك في المؤتمر الإسلامي التمهيدي المنعقد في باندونج بأندونيسيا وفي سنة 1965م عاد إلى أندونيسيا للمشاركة في المؤتمر الإسلامي المنعقد في باندونج والمكون من مندوبي الدول الإسلامية والأفريقية.
فتعرف إلى معظم زعماء وقادة العالم الإسلامي ومنهم العالم الإسلامي الكبير عبد الكريم سايتو زعيم المسلمين في اليابان الذي أهاب بعلماء المسلمين في المؤتمر لينشروا الإسلام في اليابان هاتفا بهم: تعالوا بنا - معشر المسلمين - ننشر الإسلام في ربوع اليابان وانعقدت أواصر الصداقة بينه وبين الدكتور الفحام منذ ذلك الحين.
وفي سنة 1967م، زار ليبيا والجزائر ثم أسبانيا وشاهد الآثار العربية الإسلامية الرائعة في مدريد وطليطلة وقرطبة وأشبيلية ومالقة والجزيرة الخضراء وغيرها، كما زار الاسكوريال واطلع على ذخائر التراث العربي فيها.
أما زياراته للمملكة العربية السعودية فقد تعددت حيث أدى فريضة الحج ست مرات وأدى العمرة ثلاث مرات.
وفي سنة 1970م بعد ولايته لمشيخة الأزهر زار السودان فقوبل بحفاوة منقطعة النظير، وفي السنة نفسها تلقى دعوة من علماء المسلمين في الاتحاد السوفيتي ورئيسهم المفتي ضياء الدين بابا خانوف لزيارة الاتحاد السوفيتي السابق فلبى الدعوة وزار جمهوريتين إسلاميتين من جمهوريات الاتحاد السوفيتي الآسيوية هما جمهورية أوزبكستان عاصمتها طشقند وجمهورية تاجيكستان وعاصمتها دوشمبيه، كما زار سمرقند وخرتنك، وفيها ضريح الإمام البخاري، كما زار موسكو وليننجراد وغيرها من البلاد الروسية والتقى بزعماء المسلمين وعقد معهم أوثق الصلات.
وفي سنة 1971م زار إيران بدعوة من وزارة الأوقاف الإيرانية فجال في كثير منمدنها الشهيرة مثل طهران وأصفهان ومشهد وقم والتقى بكثير من أعلام علماء الشيعة الإمامية وقد استقبلوه بحفاوة عظيمة تتفق ومكانته العلمية ومنزلته الكبيرة، وتجاوب معهم وتجاوبوا معه واتفق الجميع على العمل في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية الكاملة.
الشيخ والمشيخة:
صدر قرار جمهوري رقم 1729 بتاريخ 5 من رجب سنة1389 هـ الموافق 17 من سبتمبر سنة 1969م بتعيين فضيلة الإمام الدكتور محمد محمد الفحام شيخاً للأزهر فنهض بأعباء المشيخة وسط ظروف قاسية وبين تيارات عنيفة قاد بها السفينة في هدوء واتزان وفي هذه الأثناء ظهرت حركة التبشير عنيفة قوية عاتية، وقد استطاع الإمام أن يوائم بين واجبه الديني بوصفه إماما أكبر للمسلمين وواجبه الوطني في وحدة الصف وضم الشمل وتأمين الجبهة الداخلية، وكانت شخصية الإمام تقوم على دعامات عديدة أهمها:
- مواهبه الفطرية المزدهرة.
- علمه الغزير.
- تجاربه العديدة.
- معرفته بالعوامل الاقتصادية أو الطبائع البشرية أثناء اشتغاله بالتجارة.
- رحلاته العديدة المتنوعة.
- صداقاته الوثيقة بزعماء العالم الإسلامي.
- عمله بمجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية، حيث ازدهرت مواهبه وملكاته.
وفي سنة 1972م تم انتخاب الإمام عضوا بمجمع اللغة العربية في المكان الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ محمد توفيق دياب.
وقد أقام المجمع في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين 12 من صفر سنة 1392هـ الموافق 27 من مارس سنة 1972م حفلا لاستقباله، وقد ألقى كلمة الاستقبال الدكتور أحمد عمار عضو المجمع فنوه بالأزهر ورحب بالعضو الجديد في كلمة قيمة قال فيها: إن بين الأزهر الشريف ومجمع اللغة العربية لرحما ماسة ونسبا قريباً، هذا يحافظ على القرآن الكريم كتاب العربية الأكبر، وهذا يرعى اللغة العربية ويجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون والحضارة، فأعضاء المجمع ورجال الأزهر في الفصحى ذوو قربى تجمعهم وحدة المرمى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض)..
والأزهر للإسلام - على مر القرون - هو الطود الأشم تنكسر على عتباته أمواج الباطل، وهو لعلوم الدين - على تعاقب العصور - منار الهدى يبدد ظلمات الضلال، وهو للغة العربية على مدى السنين المنهل الصافي ينقع الغلة ويغترف منه طلاب البيان، وهو – بعد - كعبة العلم وملتقى العلماء حارس التراث الروحي للبشرية.
مؤلفاته:
- رسالة الموجهات في المنطق ألفها وهو طالب وطبعها وانتفع بها كثيرون من العلماء والمتعلمين.
- (سيبويه) بحث ناقش فيه آراء سيبويه وما لاحظه عليه النحويون.
- مقالات عديدة متنوعة نشرها الإمام في مجلة المعرفة التي كانت تصدر بالعربية والفرنسية في باريس، وفي مجلة منبر الإسلام ومجلة الأزهر ومجلة مجمع اللغة العربية وغيرها من المجلات.
- المسلمون واسترداد بيت المقدس أصدرته الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1970م.
انظر كامل الترجمة في كتاب شيوخ الأزهر تأليف سعيد عبد الرحمن ج/5 – ص 5 - 12.