الإمام حسن مأمون
ولد الإمام يوم 13 من يونيو سنة 1894م وقد عني والده بتربيته تربية دينية قويمة فحفظه القرآن الكريم وجوده، فكان والده المرحوم الشيخ مصطفى مأمون أحد العلماء المعروفين، وكان إماما لمسجد الفتح بقصر عابدين، وإمام هذا المسجد كان يعتبر إماما للملك ولابد أن يكون ذا علم وثقافة دينية واسعة، وورث الإمام عن والده هذه الصفات، ولذلك اتجه إلى الالتحاق بالأزهر، وبعد أن قطع المرحلة الثانوية اتجه إلى مدرسة القضاء الشرعي، وتخرج منها سنة 1918م، وقد أتقن اللغة الفرنسية بجانب اتقانه للعربية.
وفي 4 من أكتوبر سنة 1919م عين الإمام موظفا قضائياً بمحكمة الزقازيق الشرعية، وفي أول يوليو سنة 1920م نقل إلى محكمة القاهرة وفي 14 من مارس سنة 1921م تمت ترقيته إلى قاضي من الدرجة الثانية، وفي 27 من نوفمبر سنة 1929م تمت ترقيته إلى قاضي من الدرجة الأولى بمحكمة القاهرة الشرعية، وظل بها حتى ارتقى إلى قاضي عام في الأول من فبراير سنة 1939م، وبعدها عين قاضيا لقضاة السودان بمرسوم ملكي.
كان للشيخ الإمام مواقف وطنية رائعة أحفظت المستعمرين عليه لأنهم كانوا يخشون الثورات الوطنية مما أمكنهم منه فأصدروا في 3 من يناير سنة 1941م قرارا بعدم تعيين أحد المصريين في منصب قاضي القضاة بالسودان وقصروه على من يختارونهم من السودانيين، فعاد الإمام للقاهرة، وتم تعيينه رئيسا لمحكمة القاهرة الشرعية الإبتدائية وفي 13 من مايو سنة 1951م عين الشيخ حسن مأمون نائباً الرئيس المحكمة العليا الشرعية، ولما قرب سن إحالته للمعاش في 12 من يونيو سنة 1954م، وفي 16 من مايو سنة 1954م اقترح وزير العدل على مجلس الوزراء إسناد منصب المفتي إلى فضيلته للانتفاع بكفاءته فوافق المجلس بقراره رقم 323 لسنة 1955م، وتعيينه مفتيا للديار المصرية لمدة سنتين اعتبارا من 1 من مارس سنة 1955م.
وفي 26 من يوليو سنة 1964م صدر القرار الجمهوري رقم 2444 بتعيينه شيخا للأزهر، وباشر عمله الفعلي في 29 منه، وظل يباشر عمله في ثبات واتزان بضمير القاضي حتى أثقلته الشيخوخة وأحس المسؤولون حاجته إلى الراحة فاستجابوا لرغبته في الراحة حتى وافته المنية في 19 من مايو سنة 1973م.
نشأ الإمام في فترة حاول الاستعمار فيها أن يكتم الأنفاس وأن يقصم عرى الصلات الوثيقة بين الدول العربية بخاصة والدول الإسلامية بعامة وكان الأزهر - كعهده دائما - في مقدمة الثائرين على الظلم والطغيان، فلما انتهت الحرب العالمية الأولى قامت ثورة عارمة في مصر للمطالبة بالاستقلال وكان في طليعتها علماء الأزهر وطلابه، وكانت نفس الشيخ تموج بالوطنية العميقة، وشارك إخوانه في جهودهم الوطنية المشكورة، فلما ولى منصب قاضي قضاة السودان واجه الأساليب الاستعمارية مباشرة، وكانت له مواقف وطنيةرائعة تمسك فيها بكرامته كما تمسك بعروبته وإسلامه، وكانت أنظار المواطنين السودانيين تتطلع إليه كما تطلعت إلى الإمام المراغي أيام ولايته هذا المنصب بالسودان.
ولما ضاق الاستعمار ذرعا بهذه المواقف قدر ألا يعين مصريا هذا المنصب وقضى على التقاليد السابقة في هذا التعيين.
وعاد الشيخ الإمام إلى مصر، وقامت الحرب العالمية الثانية وأنشأ الاستعمار إسرائيل ومكن لها في فلسطين، وأتاح لها أن تغزو مصر والبلاد العربية المجاورة فشرع الإمام قلمه ولسانه في حرب إسرائيل ومن وراء إسرائيل، واستطاع أن يثير في الشباب شعلة الوطنية الوهاجة وأن يوقظ فيهم روح الكفاح القوى ضد الاستعمار، وكان حريصا على أن يثبت في أنجاله حب التضحية والفداء منذ نشأتهم، فاستجابوا له، وقال في ذلك: أذكر في سنة 1956 - أثناء العدوان الثلاثي - أني كنت أمر بسيارة على جسر (كوبري) قصر النيل وكان معي أصغر أبنائي وكان طالبا بكلية الهندسة وكان يقود لي السيارة، وبغتة نظر إلي وهو يبكي وأشار إلى مجموعة من الشباب تقف علىأهبة الاستعداد في حراسة الجسر، وقال لي: هؤلاء أصغر مني سنا، وهم يقومون بواجبهم الوطني، وأنا أسوق عربة؟ فقلت له: مادام هذا شعورك فاترك السيارة واتركني وقم بواجبك ولم يلبث أن نفذ الوصية وتقدم برغبته إلى المسؤولين وتولى حراسةکوبري مسطرد ولم يعد إلى البيت إلا بعد النصر.
وكان الإمام لا يكف عن الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله فقد شرع قلمه ولسانه في دعوة الشعوب العربية والإسلامية إلى مكافحة أعداء الإسلام وأهاب بالحكام والجنود أن يهبوا للدفاع عن أوطانهم وتخليصها من قيود الاستعمار والعدوان، وقال في نداء له: (أيها المجاهدون الأحرار لا تقعدوا عن القتال لإجلاء العدو عن أرضكم ومنعه من الاستمرار في احتلالها لأن كل محاولة من جانب الاستعمار لاحتلال أي جزء من البلاد الإسلامية تعتبر محاولة باطلة شرعا، لا يقرها الإسلام ولا يرضاها الله ورسوله، ويأمر كل قادر من المسلمين علىالكفاح وأن يحمل السلاح ليخلص أرض بلاده من دنس الاحتلال الذي لا يحترم مبادئ الإسلام وتعاليمه.
كما وجه فضيلته نداء إلى الملك إدريس السنوسي عاهل ليبيا مناشدا إياه باسم الإسلام أن يقضي على القواعد العسكرية التي أقامتها أمريكا في طرابلس وانجلترا في بنغازي وطبرق، لأنها خنجر مصوب إلى ظهر مصر المجاهدة المستبسلة، وكرر هذا النداء أكثر من مرة وتنبه الشعب الليبي فطالب بإزالة هذه القواعد وظل يطالب بهذا حتى قامت الثورة في ليبيا فحققت هذا الأمل الكبير.
ولما دبر اليهود إحراق المسجد الأقصى وجه الإمام نداء قويا للمسلمين في مصر وفي سائر البلاد العربية والإسلامية وفي كل بقاع الأرض، قال فيه: (إنَّ الله فرض على كل مسلم أن يجاهد في سبيل الله لرد أي اعتداء تسول للعدو نفسه الإجرامية القيام به على كل بلد إسلامي...
إنَّ الجهاد فرض على جميع المسلمين يردون به أي اعتداء على بلادهم ومقدساتهم وأماكن عبادة ربهم ويستردون كل جزء من أراضيهم التي لجأ العدو فيها إلى إحراق بيت من بيوت الله هو أول القبلتين وثالث الحرمين…
ولما وقع العدوان على مصر والبلاد العربية وجه الإمام في يونيو سنة 1967م أكثر من نداء إلى حكام العرب المسلمين يناشدهم فيه استخدام سلاح البترول قائلا (أيها المسلمون إن مصر لا تحارب إسرائيل وحدها إنها تكافح العدوان الموتور عدوان أمريكا وبريطانيا وإن الإسلام ليحتّم علينا أن نقابلهم بالسلاح القوي الذي يدخل الرعب إلى قلوبهم، ذلكم السلاح هو سلاح البترول، فعزتك أيها العربي وبقاء العروبة وعزة الإسلام كل هذا ينادي أن تقطع عنهم شريان حياتهم حتى يكتب الله لك النصر والتأييد.
لم تذهب صيحة الإمام هباء بل نفذها العرب - بعد بضع سنوات - وكان قطع البترول من أمضى الأسلحة الفتاكة التي حققت النصر وردت للعرب كرامتهم المسلوبة وأعادتهم إلى مكانتهم السامية عبر القرون.
وأصدر فضيلته فتوى خلاصتها: (أن المعركة ليست معركة مصر وحدها، وإن تعاون المسلم مع الأعداء خيانة عظمى في الإسلام، والخيانة من أشد الجرائم وعقوبتها من أشد العقوبات في الشريعة الإسلامية).
وكان الإمام ينتهز كل فرصة سانحة لإلهاب المشاعر الوطنية..
ولما احتفل المصريون بعيد الأم في مارس 1969م وجه فضيلته كلمة إلى شعب مصر قال فيها: إنني إذ أوجه إليكم كلمتي احتفاء بعيد الأم فإنني لا أنسى أمنا الكبرى التي درجنا على أرضها، وشربنا ماء نيلها، وعشنا فيها أيامنا، أمنا مصر والأمة العربية جمعاء، الأم الروم، فما أجدرنا الآن أن نحتفي بها لأنها الأم التي أبت الضيم طوال حياتها وكانت فخورة بأمجادها ... ما أجدرنا أن نتذكر معاني الحرية والعزة والكرامة، فنذود عن أرضها العزيزة وترابها الطهور تلكم الطغمة الملعونة التي اغتصبت أجزاء نعتز بها بعد عزتنا بالله ونحافظ عليها لأنها مهد النبوات، فأجمعوا أمركم ووحدوا صفوفكم ويومئذ نبدأ السعي في طريق النصر وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم.
كان الإمام الشيخ مأمون يخشى بوادر هذه الفتنة فكان ينتهز فرصة المواسم المسيحية فيوجه فيها إلى المسيحيين التهنئة، ويذكرهم بالروابط الوثيقة بين المسيحية والإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان فضيلة الإمام يأبى كل الإباء أن يجعل الدين في خدمة السياسة أو يتخذه وسيلة لإرضاء الحكام، حدث وهو شيخ للأزهر أن تقدم أحد الأعضاء البارزين في مجمع البحوث الإسلامية إلى مؤتمر المجمع مقترحا أن يصدر أعضاء المؤتمر قرارا بأن الاشتراكية هي روح الإسلام، فوجم الأعضاء وغضب الشيخ وأعلن أن الإسلام فوق جميع المذاهب السياسية التي وضعها البشر، وأن وجود شبه بين الإسلام وبعض المذاهب السياسية لا يعني أن الإسلام هو روح هذا المذهب أو ذاك، أعلن الإمام هذا فوافقه عليه الأعضاء مع علمه أن هذا الموقف لا يرضى عنه بعض المسؤولين وقت قيام المؤتمر.
فتاواه:
إن أبرز صفات الإمام أنه فقيه مستنير، وقد قضى معظم حياته الوظيفية قاضيا يستعرض أدلة الفقهاء في المذاهب الفقهية المختلفة ويوازن موازنة دقيقة معتمدا على نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف وروح التشريع الإسلامي، وكان ذا بصيرة ملهمة في فقه النصوص الدينية، يتجلى هذا في قضاياه كما يتجلى في دراساته وفتاواه.
أما فقهه للقرآن الكريم فتراه واضحا في تفسيره لسورة الضحى والانشراح والقدر، ونلاحظ أن أسلوبه في التفسير أسلوب موجز سهل واضح يُعنى بعرض المعاني الكلية دون دخول في التفصيلات الفرعية، ويجنح إلى التفكير المنطقي والدليل العقلي دون تكلف أو افتعال، ولو أتيح للإمام أن يكمل تفسير القرآن الكريم لقدم لنا نموذجا سهلا واضحا ينتفع به جمهرة المثقفين من الشباب، أما إلمامه بالحديث الشريف فيتجلى في جميع فتاويه فهو يستند في كل رأي من آرائه إلى القرآن الكريم ثم إلى الحديث الشريف وهو إذا ذكر الحديث حرص على ذكر درجته (صحيح أو حسن أو ضعيف) وهو إلى هذا ملم بالسيرة النبوية كل الإلمام.
ولقد كان - رحمه الله - ينظر في أمر صاحب الفتوى ليرى ماذا يقصد من الاستفتاء فإذا أيقن أنه يريد أن يستغل الفتوى في أمر دنيوي أو في تدبير كيد سياسي أبى أن يصدر فتواه خشية أن يأخذ المستفتي كلمة حق ليحقق بها باطلا.
حدث أن استفتاه بعض ساسة الباكستان في أمر ولاية المرأة للشؤون العامة وأيقن الإمام أنهم يريدون استغلال فتواه ضد السيدة (فاطمة علي جناح) المجاهدة الباكستانية فرفض الإجابة عن فتواهم.
انظر كامل الترجمة في كتاب شيوخ الأزهر تأليف سعيد عبد الرحمن ج/4 – ص 80 – 87.