الإمام الشيخ عبد المجيد سليم
ولد الامام الشيخ في 13 من أكتوبر سنة 1882 هـ في قرية ميت شهالة، وهي الآن من أحياء (الشهداء) بمحافظة المنوفية ... التحق بالأزهر، وكان متوقد الذكاء مشغوفا بفنون العلوم متطلعا إلى استيعاب جميع المعارف؛ فلم يكتف بدراسة العلوم المألوفة بالأزهر، فدرس بجانب المواد الأزهرية الفلسفة حتى اشتهر بين زملائه باسم ابن سينا الفيلسوف العربي المشهور.
نال شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة1908م، وشغل مناصب عديدة بالمعاهد الأزهرية مع التدريس بمدرسة القضاء الشرعي لمادتي الفقه، وأصول الفقه، وظل مدرساً بالمعاهد الأزهرية، حتى فاز بعضوية جماعة كبار العلماء، ثم أصبح بعد ذلك وكيلا للمعاهد الأزهرية، ثم عهد إليه بالإشراف على الدراسات العليا بالأزهر فنظمها، ونسقها.
ظل الإمام يباشر شؤون الإفتاء زهاء عشرين عاماً وقد ترك لنا ثروة هائلة في فتاواه الفقهية التي تناولت مشكلات الحياة العامة، وما جد فيها من أحداث من وجهة النظر الإسلامية، وكان الشيخ متأثراً بآراء ابن تيمية، وابن القيم الجوزية.
وفي سنة 1946م حاولت الحكومة التدخل في شؤون الأزهر بتعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، فما كان من الشيخ عبد المجيد إلا أنه وقف بشدة في وجه هذا القرار وهدد رئيس الديوان الملكي وقتها، فما كان من الملك إلا أن ينذر الشيخ عبد المجيد ويرسل إليه غضبة من وقوفه في وجه القرار، فقال الشيخ الإمام: (هل يستطيع الملك الحيلولة بيني وبين المسجد) فقال رئيس الديوان: لا، فأجابه بقولته المشهورة: إنني ما دمت أتردد على المسجد فلا خطر علي، وقدم على الفور استقالته من منصبه، وقد كشف هذا الموقف عن عزة نفسه وقوة شخصيته، فلما خلا منصب شيخ الأزهر اتجهت إليه الأنظار، وصدر قرار بتعينه شيخا للأزهر في 26 من ذي الحجة سنة 1369هـ الموافق 8 من أكتوبر سنة 1950م، وكان الملك فاروق وحاشيته في هذا الوقت يتحكمون في الوزارات والوزراء وكبار رجال الدولة تبعا لأهوائهم، ولما ضغطت الحكومة ميزانية الأزهر غضب الأمام وقال: قصد هنا، وإسراف هناك، وكان يقصد بالإسراف ميزانية الجامعات، ولكن أعداءه فسروا الإسراف بتبذير الملك في مصيفه (بكابرى)، وفي هذا الجو وبعد هذه الوشاية أُعفى الشيخ من منصبه في 4 من سبتمبر سنة 1951م، وذلك بعد عام واحد من توليه المشيخة، ولكن بعد أن تأكد الملك من حسن نيته أعاده مرة ثانية في 10 من فبراير 1952 ولكن الشيخ الإمام استقال منها في 17 من سبتمبر من العام نفسه.
حاول الأستاذ فتحي رضوان وكان الوزير المشرف على الأزهر في حينها - في عهد الثورة - أن يقنعه بسحب استقالته فرفض رفضا باتاً.
بعد أن تولى الشيخ مشيخة الأزهر تحدث في مؤتمر صحفي عن منهجه في الإصلاح عقده في الأول من نوفمبر سنة 1950 م فقال: إن مهمة الأزهر تشمل تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم، ولغة كتابهم تعليما قويا يجعلهم حملة الشريعة، وأئمة الدين وعلى هذه الأسس لابد أن تقوم حركة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق أمال الأمة.
وتتلخص وسائل الإصلاح - في رأيه فيما يأتي:
- مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح منها، واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق.
- إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة.
- تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية.
- تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوربا للتزود من شتى الثقافات، ولا غضاضة في هذا فإن (العلم رحم بين الناس كافة).
- تنظيم الجامعة الأزهريةتنظيما يتفق مع خطر رسالتها بإنشاء مكتبة كبرى ودار كبيرة للطباعة وإكمال مباني جامعة الأزهر.
كان الشيخ الإمام مع تواضعه - يعتز بكرامته اعتزازا كبيرا، وكان يجهر بكلمة الحق ولا يبالي بما يترتب عليها من آثار، ونستطيع أن نضرب بعض الأمثلة لهذه المواقف الكريمة.
تلقى الشيخ الإمام - وهو مفت - سؤالا عن حكم الشرع في رجل يراقص النساء، ويشرب الخمر في الحفلات، ويرتكب أعمالا يحرمها الإسلام، وكان المقصود بهذا السؤال ما يقام من حفلات ماجنة في قصور بعض الأمراء والأميرات، ويحضرها الملك ويجري فيها من فنون الخلاعة والشرب والعربدة ما يأباه الإسلام.
وأدرك الإمام المفتي الغرض من هذه الأسئلة، فلم يتهيب في الإجابة عنها فأصدر فتوى جريئة أحدثت آثارا عميقة في الرأي العام، ويقول مندوب مجلة المصور: إن الدوائر الرسمية والسياسية، قد اضطربت لهذه الفتوى واتصل الملك السابق بالإمام المراغي وطلب منه أن يطلع منذ الآن على كل فتوى يصدرها الشيخ عبد المجيد قبل السماح بنشرها.
* لما وقف الشيخ الإمام عبد المجيد سليم موقفه المعروف مع كبار رجال الأزهر في معارضة تعيين الشيخ الإمام مصطفى عبد الرازق، لأن القانون لا يسمح بهذا التعيين من جهة، ولأن الشيخ مصطفى رحمه الله كان منغمسا هو وأسرته في السياسة الحزبية من جهة أخرى، كان الشيخ عبد المجيد يريد حماية الأزهر من فتن السياسة وطغيان الأحزاب والحكام، وحاولت السراي إغراءه فرفض في إباء وعزة نفس، فاستدعاه النقراشي باشا وحاول أن يغريه بالوعود المعسولة المغرية إذا وافق على تعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق، فغضب الشيخ في وجهه غضبة أزعجته، وصاح به في انفعال: أتريد أن تساومني في الحق؟ ثم خرج ساخطا دون استئذان، وأوفد إليه القصر بعض رجاله ليقول له: إن معارضتك لرغبة الملك خطر عليك، فقال الشيخ: أيحول الخطر بيني وبين المسجد؟ فقال: لا، فقال الإمام: إذاً لا أبالي، ولم يكتف الإمام بهذا، بل أصدر بياناً بتوقيعه أعلن فيه نبأ هذه الحادثة.
تربص رجال الحكومة للشيخ وضاقوا بآرائه وفتاويه ذرعا، وذهب الملك فاروق إلى كابري - وهي جزيرة إيطالية قريبة من نابولي - يمارس فيها ألوان اللهو والخلاعة والمجون، فلما أعلن الإمام نقده الجريء وصاح صيحته المشهورة (تقتير هنا وتبذير هناك) طاروا بهذا النقد إلى فاروق وأغروه بعزله، ولم يبال الشيخ بما تعرض له في سبيل الجهر بالحق ولم يطأطئ رأسه أمام الطغيان.
حاول الملك فؤاد أن يستبدل نصيبه من وزارة الأوقاف ببعض أملاكه الجدباء، وتلمس فتوى ميسرة من الإمام الشيخ عبد المجيد فأعلن الأستاذ الإمام في تحمس صادق فتواه المشهورة: إن الاستبدال باطل لأنه لا يجوز لغير مصلحة الوقف وهي هنا مفقودة بل إن الخسارة محققة وعزز فتواه بالنصوص الفقهية الحاسمة.
أهدت مصلحة الترام إلى فضيلته تصريحين للركوب بالمجان هو وتابعه، فرفض الشيخ استعمال هذا التصريح وحمل تابعه على رفضه، وعلم أنه استعمله مرة فذهب الشيخ الإمام إلى إدارة المصلحة ودفع ثمن تذكرة تابعه.
أهم ما تركه الشيخ الإمام من آثار علمية هي فتاويه وقد ذكر بعض الباحثين أنها تبلغ خمسة عشر ألف فتوى.
وانتقل الشيخ الإمام إلى رحمة ربه في صباح يوم الخميس 10 من صفر سنة 1374هـ، الموافق 7 من أكتوبر سنة 1954م.
وقد ترك الإمام الشيخ عبد المجيد سليم تراثاً قيما من الكتب والمراجع الزاخرة بعلوم الفقه، والشريعة والفلسفة، كما ترك أيضا مجموعة من القيم، والأصول التعليمية الأخلاقية التي ما زالت محل تقدير كل دارسي وباحثي حياته.
شيوخ الأزهر تأليف سعيد عبد الرحمن ج/4 – ص 11 – 14.