مصطفى بن عباس بن مصطفى آغة. ولد في قصر جدّه ببلدة الكرم من الضواحي الشمالية لمدينة تونس، وكان جدّه مصطفى وزير الحرب في دولة المشير الأول أحمد باشا باي وهو شاعر وأديب.
تعلّم في منزله على عادة الأسر الأرستقراطية في عصره، وتلقّى مبادئ العلوم العربية على أساتذة خواص كمحمد القرطبي، وعثمان بن المكي التوزري. ودراسته على هذين الأستاذين حببت إليه المطالعة والاستفادة من كتب الأدب، فأقبل بنهم على مطالعة الدواوين الشعرية قديمها وحديثها فتكونت له ملكة أديبة وكان آية في الذكاء صاحب دعابة ونكتة ونقد لاذع
وقضى شبابه وصدرا من كهولته بقصره منعزلا عن المجتمع باستثناء بعض الأعيان الذين كانوا يزورونه لحضور مجالسه الأدبية كالشيخ أحمد بيرم الحنفي شيخ الإسلام، والأستاذ حسن قلاتي (بالقاف المعقدة) المحامي وحسن حسني عبد الوهاب الباحث المؤرخ، والشيخ محمد باش طبجي والأمير محمد الناصر باي، وغيرهم.
وقد أسس مع بعض أصدقائه «النادي التونسي» الكائن بنهج الكوميسيون بإشراف الأستاذين: عبد العزيز الزاوش، وعلي باش حانبة. والملاحظ أن هذا النادي كانت تؤمه الطبقة الأرستقراطية وكانت تجري فيه الأحاديث السياسية، والمناقشات الأدبية وغيرها، وبرز من هذا النادي مشاريع تونسية عديدة كجمعية الآداب التمثيلية التي تأسست عام 1910، وجمعية قدماء الصادقية التي ظهرت عام 1905، وجريدة «التونسي» التي صدرت عام 1907 كما تفرّع عن هذا النادي «الحزب الإصلاحي» الملاين للاستعمار والذي يرضى بما يلقي إليه الاستعمار من فتات الإصلاحات، فقد قبل إصلاحات 13 جويلية 1922 التي خوّلت تأسيس المجلس الكبير، والحجرات الاقتصادية، ومجالس الجهات الخمس، ومجالس العمل، وهذا الحزب لا يرى مانعا في سياسة المشاركة في المسئوليات مع الفرنسيين.
ونظرا لاختلاف وجهة النظر السياسية بين الحزب الدستوري القديم والحزب الإصلاحي فقد وقع الادعاء على الحزب الأخير بأنه يسعى لمناهضة اللغة العربية من خلال المسرحيات التي تقدمها جمعية «الآداب التمثيلية» المنتمية إليه، فأسس الحزب القديم لمناهضته جمعية «الشهامة» التي تولّى رئاستها الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وكان لهذا التنافس أثره في الحركة المسرحية فشاهدت الجماهير مسرحيات قدمتها فرقتا الحزبين.
وكان المترجم له منتميا للحزب الإصلاحي متحمسا لمبادئه متحملا لكل مكروه في سبيلها نوّهت جريدتا هذا الحزب «البرهان» و «النهضة» بالمترجم له ونشرتا له مقالاته وأشعاره.
وذكر الشيخ الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية في تونس» عمل المترجم له في الحزب الإصلاحي الذي تمسك بإصلاحات عام 1922 على عهد المقيم العام لوسيان سان، وكان يرى أنها خير من لا شيء فيقول عنه وعن المعركة الحزبية والسياسية التي أرادها الاستعمار لتفريق الصفوف وإضعاف المقاومة والقضاء عليها « ... واحتضن مصطفى آغة نادي الحزب ونوّهت به جريدتهم. وكان من شغوفه الذاتي وتساميه الفلسفي واعتداده بحكم العقل والمنطق في كل شيء ما أبعد الشقة بينه وبين الحركة الشعبية، وعملت جريدة الحزب الإصلاحي على إغاظة الشاذلي خزنة دار في مناصرة مصطفى آغة وتقديمه فكان للمعركة الحزبية السياسية دخل كبير في الميدان الأدبي بالمفاضلة بين الشاعرين، كما كان بين الوطنيين والإصلاحيين بمصر بين حافظ وشوقي.
واصطبغت قصائد كل من الشاعرين بصبغة المسلك الذي ارتضاه لنفسه فجاءت قصائد خزنة دار حماسية تفخر بالانتصارات وتثور في وجه الاعتداءات تصدر بمناسبة المواقع الكمالية وحفلات الهلال الأحمر وحوادث التنكر للوطنيين والابتهاج برجوع المبعدين وخروج المساجين ووصف المظاهرات وتشييع الوفود وانعقاد المجامع السياسية وتفيض كلها حماسا ووثوقا بانتصار الحق وحسن عاقبة الصدق ويقوم فنها الشعري على وحدة الغرض وتسلسل عناصره وطول النفس وتلافي القصر على طريق الأطناب فكانت قصائده كالخطب لها من الأثر في السامع وقت إنشادها ما لا يستطيع الناقد أن يكشف عنه ما لم يحدد الظروف التي مكنت لها من القبول، على أن النقد المنصرف للفن الصرف لا يستطيع أن يغطي على أسقام في التركيب، وزحافات في الأوزان، وابتذال في المعاني وحشو في الألفاظ، كانت الحرارة الفائضة من تلك القصائد تذيبها فلا يحسها السامعون.
أما قصائد مصطفى آغة فقد كانت بمعزل عن هذه المؤثرات لم تشر إلى الحركة الوطنية بكلمة ولا جرى فيها ذكر زعيم ولا لفتة إلى السياسة بل تمحضت إلى النظر الفلسفي والوصف الاجتماعي، وأقيم هيكلها على تصوير المقامات وتخييل المحاورات بروح فلسفية ساخرة قانطة تنظر إلى البؤس المادي والشقاء العقلي اللذين حفا بحياة الناس كما ينظر المعري في «اللزوميات».وصوغها واضح جزل التركيب مستكثر من البديع، مطرد في الوصف يتمشى مع تنقل الحوار وتسلسل الأحداث والمعاني فتتواصل فيه الأبيات لأنها جملة واحدة حتى يكثر فيها التضمين وربما يتعاصى عليه اتحاد الميزان الشعري مع ما يريد من جزالة وسهولة في التركيب فيتغلب على ذلك بزحاف أو خبن، وكثيرا ما يقع بسبب ذلك في إهمال القواعد النحوية فيلحن لحنا فاحشا، على أنه شاعر الحكمة السامية وصاحب الخيال البديع، حقيق بشعره أن يحتل منزلة الاعتبار في مقاييس الآداب العالمية إلا أنه قليل التفنن منسوج على منوال واحد».
آثرنا نقل كلام الشيخ الفاضل بن عاشور على طوله لأنه فيه تحليل واف لخصائص شعر آغة ومميزاته غير أننا نلاحظ فيما يخص النظر الفلسفي في شعره أنه كان منعزلا عن المجتمع منطويا على نفسه فنمت عنده ملكة التأمل العقلي، وأودع شعره هذه التأملات العقلية وهي ليست بنظر فلسفي إلا على ضرب من التجوز. وهو لا يعرف الفلسفة ولا يتقيد بمذهب من مذاهبها ولا بأصولها. على أن هذه التأملات العقلية، وما يسري في أوصال شعره من حوار وقصص جعلته من المجددين في ذلك العصر ولفتت إليه الأنظار بالتقدير أحيانا وبالسخرية والدعابة أحيانا أخرى، فإن الأديب محمد الصالح المهيدي تندر عليه في جريدة «النديم» فإنه دعا التونسيين إلى الاستخفاف بما يكتبه هذا الشاعر من آراء وأفكار والضحك منها. ولو كان لشعره جلال النظر الفلسفي وعمقه لما تجاسر مثل المرحوم محمد الصالح المهيدي على الدعوة إلى الاستخفاف بشعره والضحك منه.
ومن الملاحظ أن الخلاف الحزبي بينه وبين الشاذلي خزنة دار لم يحل دون ربط علاقات صداقة بينهما، فكان المترجم له يتصل به في محل سكناه ب «منوبة» ويقضي معه الأيام والأسابيع في المراجعة والمذاكرة. وأهم ما تعلمه من خزنة دار أوزان الشعر والعروض والقوافي، وكان متخصصا فيها. وكان من الولوعين بشعر خزنة دار ومن المهتمين بتراثه الفكري.
والمترجم له ساهم في النشاطات الفكرية الاجتماعية والثقافية ابتداء من النادي التونسي بنهج الكومسيون إلى جمعية الآداب التمثيلية، إلى جوق التمثيل العربي الذي تأسس سنة 1921 واختير ضمن هيئته المسيرة، إلى الاتحاد المسرحي الذي عيّنه سنة 1937 في لجنة فحص الروايات، إلى نشاطه في الجمعية الرشيدية التي تأسست سنة 1934 وكلّفه رئيسها المؤسس لها السيد مصطفى صفر برئاسة لجنتها الأدبية التي اضطلعت بدور هام في ميدان تأليف الأغاني وانتقاء ألفاظها وتطهيرها من المعاني المبتذلة ونوازع الانحلال، وألف كثيرا من الأغاني ومن أشهرها قصيدته «هجر الحبيب» كما أنه غذى الإذاعة بمجموعة من أحاديثه الأدبية.
آثاره:
1 - ديوان شعر طبع بالمطبعة التونسية سنة 1339/ 1920.
2 - بيني وبين المعرّي: مجموعة أحاديث ألقاها بالإذاعة. هي عبارة عن حوار تتبع فيه «رسالة الغفران» وأبدى نقده لها.
المرجع: تراجم المؤلفين التونسيين - المؤلف: محمد محفوظ (المتوفى: 1408 هـ)
الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان / الطبعة: الثانية، 1994 م -