من أخبار أبي بكر الهذلي
واسمه سلمان أو سلم، وقيل: سليمان بن عبد الله، وأمه بنت حميد بن عبد الرحمان الحميري. وقال ابن أبي خيثمة: اسمه سلمي بن عبد الله، وكذا قال يحيى بن معين.
قال أبو بكر: قال لي الزهري: أيعجبك الحديث؟ قلت: نعم. قال: أما أنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم! وقال: قال لي الشعبي: أتحب الشعر؟ قلت: نعم. قال: إنما يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثوهم. - وروى أبو بكر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: رخص رسول الله ﷺ في شعر الجاهلية إلا القصيدة الحائية لأمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وقصيدة الأعشى في ذكر عامر وعلقمة، فإنه نهى عن إنشادهما.
وقال أبو بكر: كنا مع الحسن في وليمة ومعنا محمد بن سيرين، فجاؤا بجام فضة - أو قال: صحفة فضة - فيها خبيص. فقال محمد: إليك إليك! فقال الحسن: هلم! فأخذ الصحفة فقلب ما فيها من الخبيص على رغيف، ثم رفع الصحفة وقال: كلوا! - قال: وكنا جلوساً عند الحسن البصري إذ جاء الفرزدق، فتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، الرجل يقول: لاوالله وبلى والله! لايعقد اليمين؟! فقال الفرزدق: لاشئ! فقال الحسن: وما علمك بذلك؟ قال: أوما سمعت ما قلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ":
ولست بمأخوذ بشئ تقوله … إذا لم تعمد عاقدات العزائم
قال: فسكت الحسن. ثم لم يلبث أن جاء رجل فقال: إنما نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة ذات الزوج، أفيحل غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال: الفرزدق: نعم! أوما سمعت ماقلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل ":
وذات حليل أنكحتنا رماحنا … حلالا لمن يبني بها لم تطلق
قال: فسكت الحسن.
قال: قال لي ابن سيرين: أيُّ بيت قالت العرب أنسب؟ فقلت: لاأدري. فقال: قول يزيد بن معاوية " من الطويل ":
إذا سرت ميلاً أو تغيبت ساعة … دعتني دواعي الحب من آل خالد
قال: فذكرت ذلك لمسعر بن كدام، فقال: بل قول كثير " من الطويل ":
وما أنصفت أما النساء فبغضت … إلينا وأما بالنوال فضنت
قال: ودخلت على محمد بن سيرين، وقد خدرت رجلاه، وقد نقعهما في الماء وهو يتمثل بقول قيس بن ذريح " من الطويل ":
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها … فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني … لألقيت نفسي نحوها فقضيت
فقلت: يا أبا بكر، أتنشد مثلها؟ فقال: يالكع، إنما هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح! وقال: قال لي السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم مابلغ؟ قال: قلت: ياأمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة؛ فلم يجاوز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهماً في تجارة، ولم يل لسلطان إمارة، ولم يأمر بشء حتى يدعه. فقال: بهذا بلغ الشيخ.
وقال أبو بكر الهذلي: اجتمعنا عند أبي لعباس السفاح، ولم يكن من أهل البصرة غيري، وكان من أهل الكوفة محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة، وحضر الحسن بن زيد. فذكروا أهل البصرة وأهل الكوفة، فقال ابن أبي ليلى: نحن والله، ياأمير المؤمنين. أكثر منهم خراجاًوأوسع أنهاراً. فقال السفاح: ذاك إن رضي أبو بكر. قال: قلت: معاذ الله! وكيف يكون ذلك ولنا السند والهند، وكرمان ومكران، والقرض والفرض، والديار وسعة الانهار؟! فقال ابن أبي ليلى: نحن أكثر منهم فقها، وأغزر علماً، مقر بذلك أهل البصرة لأهل الكوفة، كما أقرّ أهل مكة لأهل المدينة. فقال أبو بكر: هم أكثر أنبياء وأقل أتقياء وأعظم كبرياء، منهم المغيرة الخبيث السريرة وبيان وأبو بيان، وتنبت فيهم الأنبياء، والله ما أتانا إلا نبي واحد ﷺ، والله ما رأيت بلداً قط أكثر نبياً مصلوباً ولا رأساً مضروباً من أهل الكوفة. فقال الحسن بن زيد: أنتم أصحاب عليّ يوم سرتم إليه لتقتلوه. فقال أبو بكر: نحن والله أصحاب عليّ يوم سرنا إليه لنقتله، فكف الله أيدينا وشوكتنا عنه وعن غيره، وسار إليه أهل الكوفة فقتلوه، فأينا أعظم ذنباً؟! فقال الحجاج بت أرطأة: لقد أخبرني بعض أشياخنا أن أهل البصرة كانوا يومئذ ثلاثين ألفا، فلما ألتقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها فما كانوا إلا كرماد في يوم عاصف. فقال أبو بكر: كيف يكون ذلك وخرجت ربيعة سامعة مطيعة تعين علياً، وخرج الأحنف بن قيس في سعد والرباب وهم السنام الأعظم والجمهور الأكبر يعين علياً؟! ولكن سل هؤلاء كم كان عدتنا يوم استعانوا بنا! فلما التقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت الرجال أقرانها شدخنا منهم في صعيد واحد سبعة آلاف نقتلهم قتل الحمنانن! - يعني القردان الصغار. فقال أبن ابي ليلى: نحن أشرف منهم أشرافا، وأذكر منهم أسلافا، مقر بذلك أبو بكر! فقلت: معاذ الله! هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف ابن قيس في تميم البصرة يقول له الشاعر " من الوافر ":
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس … ظللن مهابة منه خشوعا
وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة الذي يقول فيه الشاعر " من الخفيف ":
كل عام يحوي قتيبة نهبا … ويزيد الأموال مالا جديدا
دوخ السغد بالقنابل حتى … ترك السغد بالعراء قعودا
باهلي قد عصب التاج حتى … شبن منه مفارق كن سودا
وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب في أزد البصرة الذي يقول له الشاعر " من الطويل ":
إذا ما خشينا من أمير ظلامة … أمرنا أبا غسان يوماً فعسكرا
وهل كان في بني قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود في قيس البصرة الذي يقول له الشاعر " من الرجز "؟
أنت الجواد بن الجواد المحمود … سرادق المجد عليك ممدود
فانقطعوا كلهم، وضحك السفاح حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط.
ولما توفيت أمرأة الهذلي وبلغ ذلك المنصور فأمر الربيع الحاجب أن يأتيه ويعزيه عنها، ويقول له: إن أمير المؤمنين موجه الليل بجارية نفيسة لها أدب وظرف وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك. فلم يزل أبو بكر يتوقع ذلك فلم يره، وأنسيه المنصور، ثم حج وأبو بكر معه، فقال وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فانظروا لي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها، يكون معي فيعرفني ذلط! فقالوا له: ما تعلم أحداً أعلم بذلك من أبي بكر. فأمر بالحضور، وخرج المنصور على حمار يطوف معه في سكك المدينة، ويسأله عن ربع ربع وسكة سكة، فيخبره لمن هو ولمن كان، حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه، فقال: ياأمير المؤمنين، هذه بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص " من الكامل ":
يابيت عاتكة الذي أتعزل … حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأنشده القصيدة حتى بلغ قوله:
وأراك تفعل ما تقول ومنهم … مذق الحديث يقول ما لايفعل
فقال له المنصور: ويحك ياأبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولاينجز ويقول ولايفعا! قال: نعم، ياأمير المؤمنين، إذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت! أذكرتني ماكنت وعدتك، لاجرم والله لاتصبح حتى يأتيك ذلك! قال: فلم يصبح حتى وجه بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها ووصلنا بمال.
وقال الهذلي: طلبت اإذن على المنصور، فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم، فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدنا قليلاً، ثم خرج الآذان فأذن، وكنت هيأت كلاماً ألقى به أبا جعفر المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك. فلما رأيناه أرتج علينا وكان جهدنا أن أقمنا التسليم، فأومأ برأسه إلينا، فجلست أنا وأبو حنيفة في شق، وجلس عمرو بن عبيد في شق. فأقبل أبو جعفر ينكت في الأرض وقد طأطأ رأسه، فرفع عمرو رأسه فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والفَجر، وَليالٍ عشرٍ، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العتناد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد) ، ياأمير المؤمنين، بالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل مانزل بهم، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإن وراءك نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ. فقال: ياأبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير فآمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع؟ فقال: ياأمير المؤمنين، مثل أذن فأرة يجزيك من الطوامير، الله تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، إنك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل إذن لتقرب إليك من لانية له فيه! ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو. فقال له عمرو: ياابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئاً! فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادماً فسار بشئ، فأتاه بمنديل فيه دنانير، فقال: ياأبا عثمان، بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت! قال: ماكنت لآخذها! قال: لتأخذنها! قال: لاآخذها! قال: والله لتأخذنها! قال: والله لاآخذها! فقال له المهدي: أيحلف أمير المؤمنين لتأخذنها وتحلف أنت لاتأخذه؟! فقال عمرو: ياأبن أخي، أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني! فقال أبو جعفر للمهدي: اسكت فإن عمك بنا واثق. قال: فسكت وقعد قليلاً، وقمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: عدّ أنا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاءؤ به عمرو من كتاب الله؟! أبو بكر الهذلي - اسمه سلمي بن عبد الله بن سلمي - مات في سنة تسع وخمسين ومائة.
من كتاب نور القبس - أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (ت 673هـ)