(المهاجر المجاهد إدريس أفندى الاندراوىّ) قد حصّل علومه ومعارفه عن علمآء عصره وكان عالما علامة وبارعا فهامة وصفه الشيخ محمد على الجوخى بأنه عالم محقق وكان أديبًا كاتبًا شاعرًا ليس فى شعره شدة وجمود بل قد يكون بحيث تتحلّى به المسامع من جودة العبارات والألفاظ هاجر لدى الامام شامل أفندى رحمه الله وقد خدمه بنفسه وقلمه مدة من السنين بالعفة والامانة والصّدق لم يصدر منه على الامام خيانة وعصيان وكان من علمائه المؤتمنين كان الامام يحبه ويرفعه فوق قدره وفى الأخير سعى فى حقه الوشاة الى الامام من النواب وغيرهم بالكذب والبهتان حسدًا منهم فأراد الامام قتله نظرًا على ظواهر أقوالهم فأرسل الامام هذا البيت الى ادريس أفندى:
مَن يزرع الشّرّ يحصد فى عواقبه ـ ندامة ولحَصْدِ الزّرع إبَّانُ
ولما علم ادريس أفندى ذلك هرب من عنده لدى الشمخال فى (تارغو) فأرسل الى الامام مكتوبا بالنثر والنظر ببيان حقيقة الأمر وخيانة نوابه ووشاته.
وهذه الأبيات مما أرسل خطابًا للامام:
والله والله والله العظيم لما ـ يتلوك من جهتى كذبٌ وبهتانٌ
كيف الأمان وفى ديارنا انتشرت ـ عقارب ثم سِرْحاٌن وثعبان
فلما قرأه الامام ندم على ما قصده من قتله وعلم خيانة نوابه وكذب وشاته وبكى وقال: "قد كاد الآن أن تضمحل دولتى وشوكتى" كذا أخبرنى به الحاج وَالِى أكاىْ الترغولى حاكيا عن المهاجر الغازى (روزمان) الباوتوغاوىّ الذى من أتباع الامام شامل رحمهم الله تعالى.
ثم رجع ادريس أفندى الى بلدته وتوفى هنالك سنة 1290.
ولإدريس أفندى آثار ومؤلفاتٌ ومن مؤلفاته (تحفة الأبرار) وهذه القصيدة كتبها ادريس أفندى على بعض مؤلفاته:
سالت سعادات أرواح وأبدان ـ يا فوز شاربها طوبى لريّان
فأشرب أباريق تسنيم مع الرّغد ـ وجد بكأسٍ رحيقٍ كلّ عطشان
وغيرها لكم نعمى بلا قيم ـ من كل فاكهةٍ نَخْلٍ ورمّان
غرست أشجار فوز لا نظير لها ـ فى روض سعد وعرفان وبرهان
والنفس بارقة أمطارها درر ـ من بحر أنوار وهّاب ومنّان
أنظر أخى الى آثار رحمته ـ فكيف تزهى به رياض أذهان
هذى المكارم منّى تحفة وصلت ـ لكلّ ذى رشدٍ من أهل عرفان
وهو الذى مرّ ذكراه وسيمته ـ علم وحلم وذو تقى و ايمان
لا ذو الغباوة والأهواء والعند ـ أعوان عادين من انسٍ ومن جان
نعوذ بالله من بَغْىٍ ومن حسد ـ وكلّ طاغ وأفاك وخوّان
وصلّ سلّم على محمد وعلى ـ آل وصحب وتباع باحسان
(تتمة) ولله درّ بعض أهل الأدب حيث قال هذا البيت الآتى وذيّله ادريس أفندى بالأبيات الآتية:
(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ـ ولا سراة اذا جهّالهم سادوا)
قال ادريس أفندى:
أين السّيادة ممّن جُلّ همتهم ـ نشر الحبائل للأموات أن صادوا
كيف التأسى بجهّال اذا حكموا ـ وبالضّلال الى أشباعهم نادوا
والجهل والكفر أخدانٌ بلا شبه ـ فالجاهلون الى أهوائهم قادوا
ضلّوا أضلّوا كثيرًا بعد ما خبطوا ـ فيا خسارًا اذا أحلامهم بادوا
وأىّ خير بدا من أهل مفسدة ـ ولا يكاد يرى للخير ينقاد
يجادلون بلا علم هدى كـتب ـ فتلك بَغْىٌ وعصيانٌ والحاد
ترك الأناس سُدًى أولى لهم شرفا ـ من أن يسود لهم خبّ وصيّاد
يا فوز أهل علوم هم شموس هدى ـ دلائل الخير بل للشرع أو ناد
شنّوا معانى قرآنٍ وقد حملوا ـ عرش الهداية ساداتٌ ونقاد
أضووا المساجد والدنيا فضرّتها ـ فالفعل عين هدى والقول ارشاد.
ولمناسبة البيت المذكور نذكر بيوتا قالها بعض علماء داغستان وخمسها كلها العالم سيّد الغازى قموقى وهى هذه:
ترك الأنام بلا رأس أقيم لهم ـ كالبهم تفسد ما يحمى الاناس لهم
يبغون فيما على النفوس ليس لهم
(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ـ ولا سراة اذا جهّالهم سادوا)
يكون للناس ساداتٌ بسيرتهم ـ ان أحسنوا فخيار ضدهم فيهم
لا هم أصلح أمور الناس أجمعهم
(قال العالم الحاج محمد القدوقى)
(لا بد للخلق من هاد ومصلحهم ـ أين الهداة وقد فساقهم قادوا)
اذا أراد اله العالمين بهم ـ خيرًا يولّى عليهم حافظين بهم
جادّين فى دفع ظلم نافعين بهم
(قال العالم محمد الضرير القموقى)
(لا بد للخلق من والٍ ومرشدهم ـ أين الرشاد وقد أخيارهم عادوا)
الله ولّى علينا الشيخ تولية ـ صارت به انتظام الشّرع وافية
من بعد ما كادت الأعلام خافية
(قال العالم النائب أملات)
(كفى لهم هاديًا شمويل تولية ـ لا شك خير امام الناس ما اهتادوا)
من يخشى نار جحيم صار يتبعه ـ سرًّا وجهرًا بجدّ سوف ينفعه
وقل ذا وهو الانسان يخدعه
(قال العالم الحاج يوسف)
(نعم به واليًا ان كان يتبعه ـ نوّابه طائعًا بترك ما اعتادوا)
يرون أنفسهم شوامخا بلخا ـ طباعهم طمع والزّهد قد سُلِخَا
لا يتركون مناكيرًا ولا وسخا
هيهات أن يتركوا طبعًا لهم رسخا ـ إلاّ اذا غيّروا غُرَلاً بل ازدادوا
انتهى.
وهذان البيتان الآتيان ينسبان للشيخ الأكبر محى الدّين العربى قدس سره وقد خمسهما ادريس افندى قال:
يا ربّ أعدائنا تاهوا وقد شططوا ـ وبالغوا جدّهم فى مدّ ما فرطوا
أى قادر عجّل لنقص ما ضبطوا
يا غارة الله حلّى عقد ما ربطوا ـ وشتـتى شمل أقوام بنا خلطوا)
الله حافظنا القهّار مانعهم ـ الله ناصرنا الجبّار خادعهم
الله يهلكهم فى النار جامعهم
الله أكبر سيف الله قاطعهم ـ وكـلّما قد علوا فى ظلمهم هبطوا)
انتهى.
وهذه قصيدة لإدريس أفندى يمدح فيها أمير المؤمنين شامل أفندى:
يا عالما بارعًا فاقت روايته ـ وعادلاً ماهرًا راقت درايته
ولا تكاد ترى فى الفهم غايته ـ ذوو البصائر فى آرائه حاروا
اعجب بمن صيته فى الخلق رايته ـ ودار بين الورى طرّا فراسته
وكلّ ما باحثوا فالحقّ آيته ـ وحيث ما ينبرى فالنّصر أنهار
خليفة قلع الآثام والبِدعا ـ اشراق دعوته بين الورى سطعا
صدر اللئيم به قد ضاق وانصدعا ـ وفى قلوب العدا من هوله نار
بالعلم والأدب ازدادت مكارمه ـ وفى المعارك هَلْكَى من يصادمه
سالت مراحمه صالت صوارمه ـ حامى الذمارات نفّاع وضرّار
نسيم عرفانه يزين زين حجا ـ يحيى روائحه الأرواح والمهجا
حتى اضمحلّ عن الأشباح كل شجى ـ وفى مباراته ما دار ديّار
فيا له من كمال حاز كلّ نهى ـ وحار فى غوره كم عالم فقها
فكيف يرغب فيه كلّ من سفها ـ أصحاب شوراه أخيار وأبرار
فى الخَلْق والخُلُق الأقوام قد برعا ـ خزانة ملئت علما تقى ورعا
وكلّ ما يشتهى جنا حوى ورعى ـ ظل الاله لنا فالعيش معطار
يا فوز من فى البرايا فقهه قمرُ ـ أضواء نوره فى آفاقهم عبرُ
ومن مناقبه عين الهدى نهرُ ـ نظيره فى الندى وبلٌ وتيار
أعلام عدله فى الآبار عالية ـ فالعلم قيمته لداه غالية
وكلّ ما ينبغى اليه دانية ـ اذا دعى كسحاب الخير مدرار
صان الرّحيم له من كدرة غشيت ـ ومن سجال اياديه النهى رويت
وعن مكارمه عين العدا عميت ـ فانه لعباد الله زوّار
لواء سطوته الى السما سما ـ طراز شوكته تشعشعت كرما
وجيش أضداده لا زال منهزمًا ـ كم كم فراعنة بفتكه بادوا
الى ما يا سَاهٍ لا تدريه معتبرا ـ فكم أبى لهب فى خصمه بطرا
وكلّ ما زاد زاد الغىّ منهمرا ـ لكن عقباه اكدار واكدار
نظمت نظمًا بديع الشكل والصّور ـ فيمن تحلّى بما فى الآى والسّور
يا جندا من حوى ما فيه من درر ـ وكيف لا وخلال النظم أنوار
يا ربّ أيّده وانصرنا على الجدل ـ وامنح مآربنا طرّا بلا خلل
حتى تبيح لنا مقامًا ذا حلل ـ طابت خصائصه حور وابكار
صاح أنيـبًا الى الرّحمن مبتهلاً ـ تزوُّدًا عملا ولا تزد أملا
طاحت أمانى و فات العمر مرتحلا ـ أين المشاهر بالنعمى وأخيار
انتهى رحمه الله.
(واعلم) أن القصيدة الدالية الآتية قد خمسها ادريس أفندى ونحن نكتبها ونثبتها مع تخميسها له والناظم لم يعلم اسمه.
قال ادريس أفندى:
(باسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، وعلى آله وأصحابه الذين شادوا الدين وسادوا المؤمنين (أما بعد) فيقول العبد المبدى، ادريس افندى الاندرى، لما رأيت النظم البديع المبانى، العجيب المعانى، يجرى فى خزانة الأذهان، جريات الدّهن فى الألبان، أو العطر فى الأذهان، بل الرّوح فى الأبدان، ورأيت فى قرطاس بعض الاخوان، أنه مكتوب على صفحات الجدران، من حجرة سرّ البارى فى ايجاد الاكوان، حدانى حدآء الوجد والشغف أن أخمسه تخميسا يبين غُرَرًا من مطوياته، وينشر دررًا من مكنوناته، فعلّقت قلائد الدّرّ المنضود، على أجياد الخرائد الجود الخود، فان ردّها الأغبياء، فسيقبلها الأذكياء، أو حرّفه الأنجاس، فالذهب أو الدّر لا يُدَنّسهما الأدناس، فأقول وبالله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق والحق الحقيق:
بَـلّغْ الهى ندائى ربّ يا صمد ـ الى حبيبك ذى الخيرات والرشد
يا مصطفى يا شفيع الخلق يا سند
(يا سيّدى يا رسول الله خذ بيدى ـ ما لى سواك ولا ألوى الى أحد)
ذراك ذروة مجد غير كامنة ـ تجرى عيونى بِعبْراتٍ مسخّـنة
ولا يرى قطعها بثوب خائنة
(فأنت نور الهدى فى كلّ كائنة ـ وأنت سرّ الندى يا خير معتمدى)
شوقى لصفوة خلق الله أكرمهم ـ وتحت رايته فى الحشر جامعهم
وفى ميادين آى الله بارعهم
(وأنت حقّا غياث الخلق أجمعهم ـ وأنت هادى الورى لله ذى السّدد)
يا من الى درجات القرب قد صعدا ـ حتى تدلّى من الرّحمن معتمدا
بقاب قوسين أو أدنى كما وردا
(يا من يقوم مقام الحمد منفردًا ـ للواحد الفرد لم يولد ولم يلد)
لك العلوم كذا الآيات ساطعةً ـ حتى تحِنّ لك الأشجار خاضعة
تسمو اياديك للآمال جامعة
(يا من تفجّرت الأنهار نابعة ـ من أصبعيه فروّي الجيش بالمدد)
يدى بعروة وثقى لا تذلّـلنى ـ دخلت حرزًا متينًا لا يخادعنى
فمَنْ يفنّدنى وما يفجّعنى
(إنى اذا مسّنى ضيْمٌ يروّعُنِى ـ أقول يا سيّدَ السّادات يا سندى)
بجاه سرّك يا سؤلى يا أملى ـ وحقّ قدرك عند البارئ الأزلى
اسمع ندائى سماعًا شافيًا عللى
(كن لى شفيعًا الى الرّحمن من ذللى ـ وامنن علىّ بما لا كان فى خلدى)
لواء مجدك ظل العالمين غدا ـ وضوْء وجهك بين الخافقين بدا
فحرّ وجدى صَلَى الأحشاء والكبدا
(وانظر بعين الرضى لى دائما أبدا ـ واستر بطَوْلك تقصيرى مدى الأمد)
بسرّ عزّك عند الله ترحمنى ـ أيا مُجيرى لدى الأهوال تنصرنى
وفى جوارك فى عقباى تجعلنى
(واعطف علىّ بعفوٍ منك يشملنى ـ فانّنِى عنك يا مولاى لم أحِدِ)
علوّ رتبته فينا أجلّ منن ـ يا رحمة فرجت عن عالمين حزن
وأين عن حدّها أفهام أهل فطن
(انّى توسّلت بالمختار أكرم من ـ رقى السموات سرّ الواحد الأحد)
هو السمآء الذى شالت بوارقه ـ على أهالى الرّدى دامت صواعقه
ولا تعدّ ولا تحصى روائقه
(ربّ الجمال تعالى الله خالقه ـ ممثـله فى جميع الخلق لم أجد)
وهل مساويه بين العالمين يُرى ـ ومن جلالته صلآه كل ورى
لولاه لم توجد الأفلاك ثم ثرى
(خير الخلائق أعلى المرسلين ذرى ـ زخر الأنام وهاديهم الى الرشد)
أدنى مفاخره أعلى من الزّحل ـ به تساقطت الاثام كالقـلل
ونوره الشرق للأديان كالظلل
(به النجاة لعلّ الله يغفر لى ـ هذا الّذى هو فى ظنّى ومعتقدى)
جائت مدائحه فى الآى والسور ـ مضمون منطوقها أضوى من القمر
فحوى دلالتها روّاقة النظر
(فمدحه لم يزل دأبى مدى عمرى ـ وجدته عـند ربّ العرش مستندى)
ضوء النّهار سواد اللّيل قد سجدا ـ له فَرُمْ عيشته من فضله رغدا
وَزِدْ صلاةً له يا طالبا مَدَدًا
(عليه أذكى صلاةٍ لا تزال أبدا ـ مع السّلام بلا حصرٍ ولا عَدَدٍ
صلّوا صلاة الى الفردوس جاذبة ـ بنور أنوارها الاكوان ثاقبة
على نبىّ سعادة مواظبةً
(والآل والصّحب أهل المجد قاطبةً ـ بحر السّماح وأهل الجود والمدد)
ترجو جوار رسول الله شافعهم ـ فى وصل خيرات قرب الله مرجعهم
حبا له ولآل الله رافعهم
(والتابعين وأهل العلم أجمعهم ـ والصّالحين وأهل الخير والرّشد)
يا ربّ هب لهما غايات ما حويا ـ وامنح هما فوق ما فى القلب قد نعيا
وَالْطُفْ بعبدك ادريس كما رضيا
(بحقّ مضمون هذا السّرّ منطويا ـ على المدادات والآمال كالذبد)
انتهت.
نزهة الاذهان فى تراجم علماء داغستان - نذير بن محمد حاج الدركيلى الداغستانى