مولانا أبو المكارم أحمد بن خير الدين الكلكتوي
الشيخ الفاضل أبو الكلام أحمد بن خير الدين الكلكتوي، المشهور بأبي الكلام آزاد، وسماه والده غلام محي الدين، وهو من أذكياء العصر.
ولد ونشأ بكلكته، واشتغل بالعلم من صباه، وخالف أباه في بعض المسائل في صغر سنه، فغضب عليه وأقصاه، فشمر عن ساق الجد في الطلب والتحصيل، وقرأ بعض الكتب على أساتذة كلكته، ثم على أساتذة بمبئ، ولما حصلت له الملكة الراسخة في معرفة اللغة العربية أقبل إلى مطالعة الكتب وجد واجتهد، وأنشأ مجلة شهرية من بمبىء، ثم قدم لكهنؤ وولي إنشاء مجلة الندوة لسان حال ندوة العلماء، فأقام بلكهنؤ زماناً، ثم سار إلى أمرتسر وتولى إنشاء صحيفة الوكيل الأسبوعية، فأقام بها سنة، ثم سار إلى كلكته وأنشأ الهلال الصحيفة الأسبوعية سنة 1330 هـ،
وحصل له القبول العظيم في بلاد الهند لمهارته في أساليب الكلام، وبراعته في الإنشاء والترسل، ثم أنشأ صحيفة سماها البلاغ ثم صحيفة الإقدام ثم أقصته الحكومة عن ولاية بنغال في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف، وألزمته الإقامة في رانجي مدينة في ولاية بهار، ومنعته الخروج منها والاشتغال بالطبع والنشر، فاقتصر على التصنيف والتذكير، والاشتغال بالأذكار والأشغال، والتعبد والتلاوة، وانتفع به خلق لا يحصون، وأسسوا بأمره مدرسة لأطفال المسلمين، ثم أطلقته الحكومة سنة 1338 هـ فسار إلى كلكته، وأسس بها مدرسة عظيمة سنة 1239 هـ.
وكانت البلاد في ذلك الحين تشتعل قلقاً واضطراباً بتأثير ما حدث في ممتلكات الدولة العثمانية وسياسة الحلفاء، وفي مقدمتهم الحكومة البريطانية في قضية العثمانيين والبلاد الإسلامية كلها، وظهرتقرير رولت وصدر القانون الخاص بالمسلمين، وكانت حركة الخلافة على قدم وساق، فخاض أبو الكلام في هذه الحركة وأشعلها بخطابته الساحرة، ومقالاته البليغة القوية، ورافق مستر غاندي الذي كان قد احتضن حركة الخلافة وفكرتها، مجاراة لعواطف المسلمين، وتأييداً لقضية عادلة، وأيد أبو الكلام مبدأ ترك موالاة الحكومة الإنجليزية، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ومبدأ لا عنف ولا إعتداء المبادىء التي دعا إليها غاندي فأقام عليها الدلائل الشرعية، وجال فيها وصال، فكان لها الرواج والقبول في الأوساط الإسلامية، واضطربت لها الحكومة الإنجليزية، وقام بجولات واسعة مع غاندي وزعماء الخلافة في أنحاء الهند، وألقى الخطب الرنانة في المحافل الكبيرة. وأصدر صحيفة سماها بيغام الرسالة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف، ورأس مؤتمر الخلافة في آكره وأسرته الحكومة الإنجليزية سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف، وأدلى أبو الكلام ببيان في المحكمة في أسلوب أدبي بليغ، وفي لغة واضحة قوية، كان له الأثر العميق في نفوس المسلمين والمواطنين، وأطلقته الحكومة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف، وتلقاه الشعب بحماس وترحيب، واختير رئيساً لحفلة المؤتمر الوطني الهندي الخاص، الذي عقد في دهلي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف، دعا فيه إلى توحيد صفوف أبناء البلاد واتحاد الطوائف الهندية على اختلاف دياناتها وعقائدها، وظلت هذه دعوته وعقيدته إلى آخر حياته.
وقد دب الخلاف في صفوف المؤتمر الوطني، واندلعت نيران الفتنة والخلاف بين المسلمين والهنادك، بصفة خاصة، وحدثت اصطدامات عنيفة بين الطائفتين في طول البلاد وعرضها، تأثر بها أكثر زعماء الطائفتين، وغير كثير منهم اتجاههم، وقطعوا الرجاء من عودة الوحدة والانسجام بين الطائفتين، وظل أبو الكلام متمسكاً بعقيدته وفكرته مرتبطاً بالمؤتمر الوطني الهندي رابط الجأش، قوي الشكيمة، كبير النفس، يتلقى نقد الكثرة من أبناء ملته واتهاماتهم وسخطهم وسخريتهم، في صبر وأناة وعزة نفس، ولم يزل بذلك يبتعد عن الجماهير المسلمة، ويعيش في عزلة عن الشعب، مشغولاً بذات نفسه، وبما يكتب ويؤلفه من نقل معاني القرآن إلى أردو وتفسيرها في لغة أدبية عصرية، وهنا تحول من مصلح ديني وداعية إسلامي إلى زعيم وطني وقائد سياسي، وقد صرف فكره ونشاطه - بعد ما رأى مصير الخلافة العثمانية، وتفكك الوحدة بين الشعوب الإسلامية - من المجال الإسلامي العام إلى المجال الوطني الخاص، ومن خارج البلاد إلى داخلها، لا يرى له نشاط إلا في مجالس المؤتمر التنفيذية وحفلاته السنوية.
وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف، ألف حزب المؤتمر الوطني الوزارة في عدة ولايات هندية، وكان أبو الكلام من كبار المشرفين والموجهين في هذا التأليف، له الكلمة النافذة والرأي الوجيه في اختيار الوزراء، واستقالت هذه الوزارات سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف، وقد قويت حركة العصبة الإسلامية في هذه المدة ومطالبتها بباكستان، وثار المسلمون في جميع البلاد الهندية في تأييد هذه الفكرة، وتعرض أبو الكلام وزملاؤه الذين كانوا يعارضون هذه الفكرة، ويدعون إلى فكرة الهند غير المنقسمة للسخط العام من المسلمين، واكتسحت هذه الفكرة الكثرة من المسلمين، وبقي أبو الكلام على مبدئه وفكرته من غير هوادة وتذبذب، واختير رئيساً سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للمؤتمر الوطني الهندي للمرة الثانية، وألقى خطبة بليغة في أسلوب أدبي. ونشبت الحرب العالمية الثانية سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف، وبدأ المؤتمر المقاومة السلمية، وأسرت الحكومة أبا الكلام لسنة وثمانية أشهر، ولكن أطلقته قبل انتهاء هذا الميعاد، وأرسلت الحكومة السياسي الإنجليزي المعروف استيفورد كريبس، وجرت بينه وبين أبي الكلام مذاكرات بصفته رئيس المؤتمر، ظهر فيها ذكاؤه وحنكته، وأخفقت هذه المذاكرات، وفي رجب إحدى وستين وثلاثمائة وألف قرر مجلس المؤتمر التنفيذي الطلب من الإنجليز بأن يغادروا البلاد في أسلوب مكشوف سافر، وكان أبو الكلام رئيس هذا المجلس بحكم منصب الرئاسة، وألقت الحكومة القبض على جميع أعضاء المجلس، وفيهم أبو الكلام على إثر هذا القرار، واعتقلتهم في قلعة أحمد نكر التاريخية الأثرية، ودام هذا الاعتقال إلى رابع رجب سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف ثلاث سنين إلا شهرين، اشتغل فيها بالمطالعة وكتابة الرسائل الأدبية، التي وجهها إلى مولانا الأمير حبيب الرحمن الشيرواني، سجل فيها خواطره ومشاعره في أسلوب أدبي رفيع، وصدر هذا الكتاب باسم غبار خاطر.
وانعقد مؤتمر في شمله حضره أبو الكلام كوكيل للمؤتمر، وأخفق هذا المؤتمر أيضاً، وقامت في سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف حكومة في المركز، كانت تتألف من ممثلي المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية واختير أبو الكلام وزيراً للمعارف، وزارت الهند بعثة كانت تتألف من كبار وزراء بريطانيا للوصول إلى اتفاق بين الحكومة البريطانية وأحزاب الهند السياسية في جانب وبين الطوائف الهندية في جانب آخر، تقرر بعد ذلك مصير الهند وتمنحها الاستقلال الذي اقتضته الظروف العالمية والأوضاع الداخلية في بريطانيا وفي الهند نفسها، ساهم في المذاكرات معها أبو الكلام مساهمة ذات قيمة، وظهرت فيها لبقاته ومرونته، وأصرت العصبة الإسلامية تحت قيادة رئيسها محمد علي جناح على المطالبة بالتقسيم، وتكوين دولة باكستان لا ترى عنها بديلاً ولا تجد عنها محيصاً، وكان أبو الكلام من أشد المعارضين لهذه الفكرة، ولكن استسلم لها كبار زعماء المؤتمر وجميع زملائه من الأكثرية، وقبل هذا المبدأ وتقرر التقسيم، وحدثت اضطرابات هائلة، وحروب طاحنة، ومذابح طائفية تقشعر لها الأبدان، ويشمئز منها الوجدان، قصمت ظهر أبي الكلام، وهدأت ثائرته، وفترت همته ونشاطه، فلزم البيت، وبقي عضواً في مجلس المؤتمر التنفيذي، ووزيراً للمعارف الحكومية المركزية، منطوياً على نفسه، بعيداً عن المجامع الشيعية، حتى وافته المنية لليلة خلت من شعبان سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف في دهلي، وصلى عليه جمع كبير من المسلمين، ودفن في الرحبة التي تواجه المسجد الجامع في مشهد شعبي عظيم وجم غفير.
إن أحمد أبا الكلام يحيط بشخصيته وحياته شيء كثير من الغموض والاضطراب وقد شاعت أخبار عن أسفاره إلى بلاد العرب، ودراسته في الأزهر، يصعب تصديقها على المتعمق في مطالعة التاريخ، والمتتبع لحوادث حياته ونشاطه، وقد روى في كتابه تذكرة، وروى عنه بعض خاصته أخباراً وتفاصيل عن أسرته وأجداده، ومآثرهم ومواقفهم في الدعوة وقول الحق لا يعتمد عليه المطلعون على تاريخ الهند وتراجم العلماء، وقد تناولها بعض النقاد بالبحث.
ولكن مما لا شك فيه أنه كان من نوابغ الرجال ونوادر العصر، فطنة وذكاء، وحدة ذهن وتوقد فكر، وثقة بالنفس واعتداداً بها، واعتزازاً بكرامته، وتمسكاً برأيه وعقيدته، وثباتاً على المبدأ وإباء عن الضيم، وترفعاً عن خسائس الأمور وسفاسفها، وكان جميلاً وسيماً أبيض اللون، مشرب الحمرة، فارع القامة، قليل شعرات اللحية، حسن الملبس والشارة، لطيف العشرة، مليح الكلام، فصيحاً في كتابته وخطبه وحديثه، ينتقي اللفظ الصحيح الفصيح، قوي الذاكرة كثير المحفوظ، حسن الاختيار للأبيات، حسن الاقتباس من القرآن والاستشهاد بالآيات، خطيباً مصقعاً، كاتباً بليغاً، وصحافياً بارعاً، وسياسياً ثاقب الفكرة سليم الذهن، مطلعاً على كتب التاريخ والأدب وأخبار الشعوب والبلاد، حسن التصرف فيما وعته ذاكرته، وحواه صدره، إذا تحدث في موضع ظن السامع أنه صاحب اختصاص فيه، سلفي العقيدة، قد رفض التقليد وخالف أباه - الذي كان شيخ طريقة - في الرسوم والبدع، وآثر مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومع ذلك كان يأخذ البيعة من بعض الناس، ويرشدهم في الطريق، وأثر في عقليته ما قرأه في ريعان شبابه من كتب العقليين والسيد أحمد خان وأصحابه، فتأثر بها مع معارضته السياسية والعلمية لهذه المدرسة وأصحابها، ذكياً. جيد الفهم لكثير من الآيات القرآنية، يفسرها بأسلوبه الأدبي القوي، فيعجب بها الشباب المتعلم، وذكاؤه يسبق علمه، وقوة بيانه تغلب على تعمقه في العلم وسعة نظره في كتب المتقدمين، له كتاب تذكرة في ترجمة حياته، وذكر مآثر أسلافه لم تمم، وغبار خاطر وكاروان خيال جمع فيهما رسائله الأدبية، وكلها وجهت إلى مولانا الأمير حبيب الرحمن الشيرواني، ومجلدان من ترجمة القرآن وتفسيره، وله غير ذلك من الرسائل والنشرات السياسية والاجتماعية.
الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى بـ (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)