الشيخ يحيى أفندي مفتي أنطاكية بن المرحوم....
عالم زمانه وإمام أهل وقته وأوانه، عمدة الأماثل ونخبة الأفاضل، ولد سنة ألف ومائتين وثلاثين تقريباً، ثم منذ نشأ وشب أقبل على العبادة والطلب، فبرع وفاق واشتهر في الآفاق وتفنن في العلوم وبرع في فني المنطوق والمفهوم، وأقبل الناس عليه للاستفادة منه والنظر إليه، وأخذ عن مشايخ ذوي رتب سامية أسانيدهم في الأخذ عالية، ولما رأوا منه المعرفة التامة أجازوه بالإجازة العامة، ثم ولي منصب الإفتاء بأنطاكية، وله بإقليمها شهرة عالية، وله معرفة بالسياسة قوية، ومهارة بالألسنة الثلاث العربية والتركية والفارسية، ونظره في الأمور دقيق، مقصود في الاستشارة لكل بعيد أو قريب أو عدو أو صديق.
وفي سنة ثلاثمائة واثنتين بعد الألف جاء إلى حلب جميل باشا والياً عليها، وكان له شدة عظيمة على أهل الرآسة في حلب وما يتبعها من بقية الولاية، فاضطر المترجم أن يخرج من محله وأن يخرج من الولاية فرحل إلى دمشق، واتصل برؤوسها وولاتها وأكابرها وذواتها، وله حاضرة عجيبة، وحافظة غريبة، فكثيراً ما كان يستشهد تارة في العربية وتارة في التركية وتارة في الفارسية، بأبيات لطيفة رقيقة ذات معان أنيقة، وله حكايات ونوادر تشهد له أنه في الأدب له المقام النادر، ومعرفته في الشطرنج حظها وافر، فكان كثيراً ما يلعب به مع الحكام والأكابر، وكانت لي معه الصحبة الوافرة، والمحبة المتكاثرة، والمباحثة والمذاكرة والمسامرة والمحاضرة، وقد أخبرني بأنه ولد في الشام حين كان أبيه بها مستقيما، ثم عاد به أبيه إلى وطنه المذكور، ثم إنه لا زال في الشام يعلو مقامه وينمو احترامه، إلى أن وقع بينه وبين المشير حسين فوزي باشا بعض منافرة، وكان قد عزل جميل باشا من حلب فرجع إلى وطنه، وذلك عام ألف وثلاثمائة وخمسة، أطال الله بقاءه وحرسه بمنه وأبقاه.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.