السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان
ولد سنة ألف ومائة وتسع وتسعين، وفي سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين جلس أخوه السلطان مصطفى على تخت الملك، وما استقر أمره ولا صفا له دهره، فأمر بقتل السلطان سليم، وبقتل المترجم ذي القدر العظيم، فنفذ أمره في الأول، وأما الثاني وهو المترجم لما جاءه جنود السلكان مصطفى الذين يريدون قتله، أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده، فهرب وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة مصطفى باشا البيرقدار وكان من عصبة السلطان محمود، وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر البيرقدار إلى المترجم فرح به فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه، وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة في رابع جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، وأرسل البيرقدار المشار إليه جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه، فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وأرسل وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب وإنفاذ أوامر السلطان، طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمر السلطان، وتعهدوا بالمساعدة في كل ما يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً في الأسواق وعلى باب داره مكتوباً فيها قد قرب موت الصدر الأعظم، وساروا بأسلحتهم يطلبون قتل العساكر الذين تعلموا التعليم الجديد، فأخذوهم بغتة وشتتوهم وأحاطوا بمنزله وطرحوا فيه النار، ووقعت أمور يطول الكلام بذكرها.
وانقسم الناس فريقين فريقاً يريد التعليم الجديد وفريقاً يكرهه، وقتل بسبب هذه الفتنة خلق كثير، وأحرقت دور كثيرة، وحاصروا الصدر الأعظم في الدار التي كان فيها، وأطلق عليهم الرصاص وقتل كثيراً منهم، ثم التهبت عليه صناديق من بارود وكانت في داره، فمات بسبب ذلك، وكان قد أخرج جواريه ونساءه قبل ذلك، فأحيلت الصدارة إلى يوسف باشا، وكان ذلك في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعزل شيخ الإسلام عطا الله أفندي وأحيلت المشيخة إلى عرب زاده محمد عارف أفندي، وكتب السلطان مصطفى وهو محبوس كتاباً إلى عساكر الانكشارية يحرضهم على الغيرة وإرجاعه إلى سلطنته، فوقع ذلك الكتاب في يد بعض العلماء فذهب به إلى شيخ الإسلام، فجمع كثيراً من العلماء وأخذوا يتحدثون في عواقب هذه الأمور، ويتشاورون في إطفاء هذه الفتنة، وظهر لهم أنه إذا بقي السلطان مصطفى في قيد الحياة لا تنطفي الفتنة، فاختاروا رجلاً من بينهم يقال له منيب أفندي كان قاضي إسلامبول ليعرض على السلطان محمود رأي العلماء، ويلتمس منه قتل السلطان مصطفى، فسار منيب أفندي إلى السلطان محمود وعرض عليه ذلك، فقال السلطان محمود إن هذا أمر محال، وكيف يتصور أن يصدر أمري بقتل أخي من كوني قادراً على منعه من هذه الأعمال، وصار بينه وبين السلطان محمود محاورة كثيرة في ذلك، فقال له منيب أفندي في أثناء تلك المحاورة: قد جاء في الحديث الشريف: إذا اجتمع خليفتان فاقتلوا أحدهما فشق ذلك على السلطان محمود، وحول وجهه إلى شباك هناك ولم يجبه بشيء لشدة أسفه على أخيه، فقال منيب أفندي إن السكوت إقرار، ففي الحال أرسل منيب أفندي إلى كبير البستانجية وقال له: إن مولانا السلطان قد صدر أمره الشريف بقتل أخيه السلطان مصطفى، فاذهب وأتم أمره، فذهب البستانجي باشي ومعه جماعة من أعوانه إلى الموضع الذي كان فيه السلطان مصطفى، فأحس بهم وعرف مقصدهم، فاختبأ بين فرش كانت هناك، فدخلوا فوجدوه وراء الفرش فقتلوه خنقاً، وكان العلماء الذين اجتمعوا عند شيخ الإسلام ينتظرون رجوع الجواب إليهم، فلما أبطأ ظنوا عدم قبول السلطان فدخلوا جميعاً على السلطان محمود ترويحاً لكلام منيب أفندي، فلما دخلوا قبل أن يبتدئوا الحديث رأى السلطان محمود من الشباك إخراج أخيه ميتاً، فتألم كثيراً والتفت إليهم وعيناه ممتلئتان دموعاً، فعزوه ودعوا له بطول العمر، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ومدة سلطنة مصطفى سنة وشهران وعمره ثلاثون سنة.
ولما استقرت السلطة للسلطان محمود كانت أمور الدولة في غاية الارتباك، وكانت عساكر الروسية تتقدم إلى جهة الطونة بسرعة، فبعث جيشاً لمصادمتهم فلم يجد نفعاً، فطلبت فرانسا أن تتوسط في الصلح، فرفض السلطان مداخلتها لتأثره من الشروط التي عقدها نابليون مع الروسية سراً في تيلسيت، التي مضمونها اقتسام أوربا بينهما مع بلاد الدولة العلية، واستمر الحرب، مع كون الغلبة على العثمانيين، إلى أن وقع خلاف بين فرانسا وروسيا ونشرت بينهما راية الحرب، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، فالتزمت الروسيا أن تخرج عساكرها من حدود الدولة العلية، وعقدت مع الباب العالي صلحاً موافقاً للدولة جداً، فاغتنم السلطان محمود فرصة هذا الصلح لتسكين الثورات في ولايتي بغداد وايدين وغيرهما، فإنه في سنة ألف وما وست وعشرين أظهر سليمان باشا والي بغداد العصيان، فأرسل إليه السلطان محمود من قتله.
وفي عام ألف ومائتين وسبعة وثلاثين تجاهر اليونان في المورة بالعصيان على الدولة، وكانوا يهجعون بمراكبهم على سواحل البحر، فيقتلون ويسلبون وينهبون ويأسرون، وبيان ذلك مع الاختصار أن بلاد المورة وهي قطعة من بلاد الروملي كانت ولاية من ولايات الدولة العلية، فلما اقتضى نظر السلطان محمود قتل الينجارية وتبديل وجاقهم بالعساكر النظامية الموجودة الآن، ضعفت عساكر الدولة وقلت، وطمع فيها الأعداء من كل جانب، فحاربها الروس وملكوا بلاداً من أراضيها، وممن ثار عليها في تلك المدة أهل المورة، وطردوا ولاة الدولة العلية، وقتلوا أكثر المسلمين الذين كانوا في تلك البلاد متولدين ومتوطنين منذ قورن طويلة، وكان المسلمون هم أهل الأراضي والأملاك والمزارع، وكانت نصارى المورة بصفة خدامين عندهم، فلا زال أمر النصارى يتقوى بواسطة الكنائس ورؤسائها لما يجتمعون في أعيادهم ومواسمهم، وينصح بعضهم لبعض بالاستقلال، وشرعوا في تعليم أولادهم الحروب والرمي بالرصاص، وأتقنوا أسباب الشجاعة بأنواعها سراً، وتعلموا الصنائع التي يتولد منها الغنى، فأرسلوا أولادهم إلى بلاد أوروبا لتعليم الصنائع، والمسلمون في غاية الغفلة والبله، يتركون تربية أولادهم للنساء والمخاصي المعبر عنهم بالأغوات، فلذلك تنشأ أولادهم، عقولهم بين عقول النساء والمخاصي، وما ألذ وأحسن ما قاله الشاعر المتنبي في هذه المناسبة حيث قال:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... أن الرؤوس مقر النهى
فلما تبين لي عقله ... علمت أن النهى كلها في الخصى
ولما ظهر للسلطان محمود ما حصل لمسلمي المورة من القتل والسبي والنهب إلا من فر منهم وهاجر إلى بلاد الإسلام، جهز جيشاً عرمرماً من عنده، وأمر محمد علي باشا والي مصر بتجهيز جيش آخر من عنده، فاجتمع الجيشان في بلاد المورة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا، يزيد على خمسة وعشرين ألفاً، وعمارة بحرية، فأيس الأروام من النجاة ونوال الاستقلال، فاستنجدوا بالدول الأروباوية، فبادرهم كل من فرانسا وانكلترا بتوسط الصلح، فلم يقبل السلطان سؤالهما، فعند ذلك أطلق كل منهما نار حربه على عمارتي الدولة ومحمد علي فأحرقوهما، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين، ولما بلغ السلطان محمود ذلك التجأ لقبول ما اشترطاه من إبطال الحرب واستقلال الأروام. وكان أخذ المورة من يد المسلمين هو أكبر أسباب خروج الروملي بأجمعه من الدولة العلية، وفي سنة إحدى وأربعين أيضاً شرع السلطان محمود في تعليم بعض العساكر التعليم الجديد، وشرع يدبر تدمير الانكشارية وأبطال وجاقهم، فأبرز أمراً سلطانياً يتضمن القدح في وجاق الانقشارية، وبيان الخلل الواقع منهم، وتقلبهم على الدولة، وقتلهم بعض السلاطين، وأمر سليم باشا الصدر الأعظم أن يجمع العلماء في بيت شيخ الإسلام ويتلو عليهم الأمر الشاهاني ففعل ذلك، فأجأبيا بالامتثال بما يصدر به الأمر السلطاني، وتعهدوا بإنفاذه، وكان مع الحاضرين جماعة يميلون إلى الانقشارية، فتعصبوا لهم سراً، وأخبروهم بما صار عليه الاتفاق، فهجموا على بيت الصدر الأعظم وبعض العظماء من رجال الدولة، وأخذوا ينادون في شوارع إسلامبول ويقولون اليوم قتل العلماء ورجال الدولة وكل من كان السبب في وضع النظام الجديد، ويقتلون كل من صادفوه منهم، وينهبون البيوت ويضرمون فيها النار، ففر الصدر الأعظم منهم، وجاء إلى السلطان محمود وأخبره بتلك الحوادث، فأمره أن يجمع الطوبجية وسائر أهل الإسلام أمام باب السرايا، فاجتمع في ذلك النهار جمع غفير من العلماء ورجال الدولة، ينتظرون خروج السلطان إليهم، فلما خرج إليهم أخذ يحدثهم بكلام يهيج به نخوتهم، فأقسم جميعهم على أنهم يهرقون دماءهم في صيانة أوامره وتنفيذها، والتمسوا منه إخراج الصنجق الشريف النبوي ليهجموا على العصاة، فأراد السلطان أن يكون معهم، فتوسلوا إليه أن لا يتنازل إلى ذلك، وأرسلوا منادين في شوارع المدينة ويدعون أهل الإسلام للاجتماع تحت الصنجق الشريف، فلما علم بعض الانقشارية بذلك أرسلوا أناساً من جماعتهم ينادون لاجتماع الانقشارية، فلما قرعت أصوات المنادين آذان أهل الإسلام أسرعوا إلى فسحة السرايا أفواجاً أفواجاً، ففرقوا عليهم السلاح، وسلم السلطان الصنجق الشريف لشيخ الإسلام قاضي زاده طاهر أفندي وعاد إلى كرسيه الملوكي، وكان يشرف على الجميع أمام السرايا، وسار سليم باشا الصدر الأعظم أمام تلك الجموع التي كانت أكثر من خمسين ألفاً، وشنوا الغارة على الانقشارية صارخين الله أكبر على الأشقياء، وهجموا عليهم وأطلقوا المدافع والرصاص، وكان يوماً مهولاً عظيماً، فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، والباقون فروا إلى قشلهم وتحصنوا فيها، فهجم عليهم العساكر والأهالي وطرحوا فيها النار فاحترق كثير منهم، ومن بقي ولوا الأدبار، ثم قبضوا على كثير منهم فقتلوهم وطرحوهم في فسحات ميدان، وبعد ذلك دعا السلطان إليه العلماء ووكلاء الدولة وأخذ يريهم أثواب السلاطين العظام الملطخة بالدماء، الذين قتلهم العصاة الانقشارية طالباً ثمن دم السلاطين، فأجاب العلماء أن ثمن دم كل سلطان خمسة وعشرون ألف نفس، فصدرت الأوامر بتدمير الانقشارية في الآستانة العلية وفي جميع الجهات، فقتل منهم عدد كثير وارتاحت الدولة والناس من مظالمهم، وألحق بهم بعض الدروايش من البكطاشية لكونهم يميلون إليهم ويساعدونهم ويفعلون في تكياتهم أفعالاً شنيعة محرمة وبدعا مسترذلة، فأمر السلطان بقتل أكثرهم وهدم تكياتهم، وأخذت الدولة في تكثير العساكر النظامية والجد في تعليمهم، وأبطلت وجاق الانقشارية، وفي أثناء تلك المدة غير السلطان محمود لبسه، ونزع العمامة والجبة، وتزيا بزي العسكر الجديد على هيئة الأوروباويين، وبالطربوش الصغير، ولم يبال بأقوال المعترضين.
ذكر القتال مع الروسية
وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، زحفت العساكر الروسية لمحاربة الدولة العلية عند نهر الطونة، وسار جيش إلى جهة الأناطول، فأرسلت الدولة عساكر لمصادمتهم تحت قيادة الصدر الأعظم سليم باشا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، وتغلبت عساكر الروسية وهزموا عساكر الدولة، واستولوا على جملة أماكن، وتقدمت عساكرهم إلى شوملة، وأقاموا الحصار على سليسترة واستولوا على مدينة وارنة، فعزل السلطان الصدر الأعظم سليم باشا وأمر بنفيه، وأقيم في الصدارة محمد عزت باشا، وسارت بعض عساكر الدولة إلى جبل البلقان، فتركت الروسية محاصرة شوملة، وكانوا قد استولوا على سليسترة، وكانت عساكر الروسية التي في الأناطول تتقدم، فملكوا القرص وبايزيد وطبراق وأرض روم، واستأسروا صالح باشا، وجاء جيش الروسية فيه مائة وستون ألف مقاتل وحاصروا أدرنة حصاراً شديداً، إلى أن استولوا عليها، ولما اشتد الأمر على رجال الدولة وعلى السلطان محمود اضطربت الأمور اضطراباً كثيراً، إلا أن السلطان محمود أظهر الثبات وقوة الجنان في وسط تلك الأخطار المحدقة به وبدولته، ثم تداخلت دول أوربا في الصلح، وأتموه بشروط، سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، ومآل تلك الشروط استقلال الأروام وتنازل الدولة عن إقليم السرب والأفلاق والبغدان لملوك من أهل تلك البلاد، تحت نظارة ملك الروسية، وعن بعض جزائر عند فم نهر طونة، وعن بعض أراض في الأناطول مع غرامة حربية قدرها مائة وعشرة ملايين فرنك، قال بعض مؤرخي الفرنج: وربما استغرب القارئ كيف أن الدولة التي سادت على أغلب ممالك العالم وأوقعت الرعب في قلوب جميعهم، لم تسمر في نموها وتقدمها، حتى التزم سلاطينها إلى أن يرتضوا هذه الشروط، فإذا نظر إلى هذا الأمر بعين خالية عن الغرض يحق الاستغراب من وجه آخر، وهو: كيف أمكن هذه الدولة أن تحتمل هذه الصدمات الشديدة والمقاومات المريعة من أعدائها مع وجود الخلل في داخليتها، بسبب أصحاب البغي والفساد وقلة الأموال، ولم تتزعزع أركانها بل استمرت في سلك الثبات العجيب، ولم تستطع قوة أو سبب آخر أن يثنيها، وإذا ضممنا إلى هذه الأسباب الخلل الذي أوقعه وجاق الانقشارية، وعدم تمام انتظام الترتيب العسكري الجديد، وعدم تمرن الجيوش بفنون الحرب وملاقاة الأهوال، لربما حق العجب كيف لم تنقرض هذه الدولة أصلاً، واستطاعت أن تناضل إلى هذه الدرجة، مستهينة بكل الموانع التي تعرضت لها، فهذا أعظم برهان على عظمها وسطوتها، انتهى كلامه.
وأقول أن ههنا سراً إلهياً لتأييدها، وهو سر بركة الإسلام وسر بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وسريان روحانيته لتأييد ملته وأهل دينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر استيلاء الفرنسيس على الجزائر
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، استولت الفرنسيس بقوة جبرية على جزائر الغرب مدعين أن أهلها كانوا يقبضون على مراكبهم التجارية ويربطون عليهم البحر في تلك الجهات ويفتكون بهم، فلما بلغ الباب العالي ذلك أرسل طاهر باشا قبودان باشا إلى الجزائر يتعاطى الصلح بينهم وبين أحمد باشا والي الجزائر، فلما وصل وأراد النزول إلى البر منعته الفرنساوية، فعاد راجعاً إلى القسطنطينية، والجزائر المذكورة كانت في حكم الدولة العلية من حين تملكها السلطان سليمان، فلما طالت المدة صار الولاة الذين فيها يتوارثون الولاية بالتغلب، ويدفعون خراجاً للدولة، ويكون تحت أمر الدولة ظاهراً ومتغلبين باطناً، فلما أحدثت الدولة العساكر السلطانية بالتعاليم الجديدة امتنع والي الجزائر من تعليم عساكرها، ولم يمتثل أمر السلطان في ذلك، فقيل أن السلطان محمود هو الذي سلط عليه الفرنسيس لتأديبه فجاؤوا بجيوش كثيرة وحاصروا الجزائر إلى أن قبضوا على الباشا المتولي عليها وذهبوا به إلى بلادهم، وتملكوا الجزائر وحصنوها بالعساكر، فلما تملكها الفرنسيس لم يرجع تلك الجزائر لحكم الدولة بل استولى عليها وبقي على ذلك إلى عصرنا هذا.
ذكر القتال بين محمد علي باشا والسلطان محمود
وفي سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، وجه محمد علي باشا والي مصر جيوشه براً وبحراً لتملك الشام وجعل قيادتها لولده إبراهيم باشا، فحاصر عكا وافتتحها مظهراً الانتقام من عبد الله باشا والي عكا لأسباب كانت بينهما، وفتح في طريقه غزة ويافا وحيفا فلما بلغ الدولة ذلك غضبت وأرسلت تأمر محمد علي باشا برجوع العساكر، وأنه إذا كان بينهما دعوى يقدمان إلى الباب العالي فيحكم بينهما، فلم يمتثل لأوامر الدولة، فأبرزت الدولة فرماناً بعصيان محمد علي باشا، وتنزيله عن ولاية مصر، وصدر الأمر السلطاني لوالي حلب بجمع العساكر لمحاربة إبراهيم باشا، وخرج حسين باشا بعساكر من الأستانة، وحصل القتال بين الفريقين خارج طرابلس، فهزم إبراهيم باشا واستولى على الأقطار الشامية، وقبض على عبد الله باشا والي عكا وأرسله إلى الاسكندرية لأبيه محمد علي باشا، ولما وصل إبراهيم باشا إلى داريا قرب دمشق خرج إليه علي باشا وزير دمشق، واشتبك الحرب بينهما فهزمهم إبراهيم باشا، وخرج أهل دمشق يسألونه الأمان فأمنهم ودخلها، وتقدم إلى حمص واشتبك القتال بينه وبين والي حلب، وكان يوماً عظيماً وحرباَ شديداً من أشهر الوقائع، قتل فيه خلق كثير، واستولوا على المهمات جميعها، وانهزم والي حلب ورجع إليها، فقفلت في وجوههم الأبياب، فساروا إلى أنطاكية، ولما وصل إبراهيم باشا إلى حلب خرج أهالي حلب لاستقباله، فدخلها وتسلم ما كان فيها من الذخائر والمهمات، وأمن أهلها، ثم سار إلى أنطاكية وحاربهم فيها ثم إلى بوغاز بيلان، ولما بلغ الباب العالي تقدم العساكر المصرية سير رشيد باشا الصدر الأعظم بالجيوش لحربهم، فتقدم قونية، والتقى الجيشان واشتبك القتال، وانهزمت عساكر الدولة وقبض على رشيد باشا الصدر الأعظم، وأتي به إلى إبراهيم، فقابله بكل إكرام ثم خلى سبيله، وامتدت هذه الفتنة والحروب إلى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، ثم صدرت الأوامر السلطانية إلى حافظ باشا ليسير لمحاربة إبراهيم باشا، فالتقى الجيشان بالقرب من مرعش واقتتلا، ووقعت الهزيمة أولاً على عساكر إبراهيم باشا، وكان في واد عسر فجمع العساكر وخرج بهم من ذلك الوادي، وصعد إلى تل كان تجاه معسكر حافظ باشا، وأخذ يطلق عليهم المدافع فعطل أكثر مدافعهم وفرق صفوفهم، ثم هجم عليهم بعساكره هجمة هائلة، فانهزموا أمامه تاركين مدافعهم ومهماتهم عائدين إلى مرعش، وقتل من الفريقين خلق كثير، وهذه الوقعة من أشهر تلك الوقائع التي وقعت في تلك الحروب، وأعقبها إبراهيم باشا بفتح أكثر الجهات في تلك البلاد، ولم تصل أخبارها إلى القسطنطينية إلا بعد وفاة السلطان محمود بثمانية أيام، ومن فتوحاته المعنوية اعتناؤه بأهل الحرمين كمال الاعتناء، فإنه صدرت الإرادة الشاهانية من دولته بتحرير ما كان يصرف لهم من قمح الجراية، فوجدوا أكثر ذلك بيد الأغنياء والتجار كانوا يأخذونه من الفقراء بالفراغ بعوض حقير، فصار الفقراء ليس لهم شيء، فصدر الأمر الشاهاني بنقض ذلك وإبطاله، وتجديد كتابة دفتر بأسماء المستحقين، فحصل تجديد ذلك في المدة التي كان فيها محمد علي باشا بمكة.
ومن خيراته وفتوحاته المعنوية أنه جدد لأهل الحرمين خيرات ومرتبات زيادة على الذي كان مرتباً لهم من أسلافه، وذلك أنه في سنة إحدى وخمسين بعد المائتين والألف رتب مرتبات للعلماء والخطباء بالحرمين الشريفين، وللقائمين بخدمة المسجدين الشريفين مثل المؤذنين والفراشين والكناسين والبوابين، وجعل للجميع مرتبات جزيلة من النقود الجليلة، بعضها شهريات وبعضها سنويات، واشترى لذلك عقارات كثيرة، وأوقفها ليصرف من غلاتها جميع المرتبات المذكورة، فصارت حسنة جارية إلى هذا الوقت يحصل منها كمال النفع والإعانة للمذكورين على معاشهم، ومن وقت هذا الترتيب كان ابتداء وضع المدير والمديرية بمكة والمدينة، ولم يكن ذلك موجوداً قبل ذلك، قم إن ولده مولانا السلطان عبد المجيد ضم إلى ذلك الترتيب مثله في مدة سلطنته، وكانت مدة سلطنة السلطان محمود اثنتين وثلاثين سنة وعمره خمس وخمسون سنة، وكانت وفاته تاسع عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.