الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ محمد المغربي الأزهري المالكي
عالم وقته وأوانه وجهبذ عصره وزمانه، المحدث العمدة في العلوم والفاضل الذي تحل لديه مشكلات المنطوق والمفهوم، محط رحال السادة وكعبة طواف القادة، وحرم اعتكاف ذوي المعارف ومحراب توجه أهل الملح واللطائف. من سار في الآفاق ذكره وشاع في الناس علاه وقدره، الناهج في الكمال منهج الأوائل واللاهج بالأدب والتقوى وأنواع الفضائل.
حضر من الغرب سنة ألف ومائة وإحدى وستين تقريباً، ونزل في الجامع الأزهر والمقام الأبهى والأبهر، فتعلق بأذيال العلم تعلق الوالدة بالولد إلى أن امتزج به امتزاج الروح بالجسد، وأخذ عن الشيوخ الأكابر والجهابذة الذين حازوا المعالي كابراً عن كابر، ولم يزل معتكفاً على الطلب والاستفادة، إلى أن شهدوا له بأنه صار مستحقاً للتأليف والإقراء والإفادة، فخرج من الأزهر بعد الاستئذان وطاف في الأمصار إلى أن وصل إلى حلب ذات القدر والاعتبار، فوجد الناس في قيل وقال وجدال كاد أن يوقع أصحابه في حيز الوبال، فقال ما هذا الأمر الذي دهى ودهم فقالوا اختلفنا في حديث ذكره صاحب المختار وليس له غيرك من حكم، فإن صاحب المختار قد ذكر في مادة عكك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال طوبى لمن رأى عكّا، وبعض الناس قد سلمه اعتماداً على ناقله وبعض الناس قد رده ولم يعتمد على مثبته وقائله. وقال بأنه ليس إسماعيل كلام الذات المحمدية، ولا عليه طلاوة الأحاديث النبوية، فاحكم بيننا بالإنصاف فورودك علينا من كمال الإسعاف، فقال لهم دعوني الآن وسأكتب رسالة في هذا المرام، تزيل عنكم بعون الله الشكوك في هذا الحديث وأمثاله والأوهام. وقد ألف لهم رسالة قاطعة بأن هذا الحديث ليس من كلام النبوة، بل هو كذب مختلق مصنوع، وقد ذكرت هذه الرسالة بتمامها آنفاً لداعية دعتني إلى ذلك، وهي أن كثيراً من الجهال وبعض من يدعي الطلب، قد تداولوا هذا الحديث وهو طوبى لمن رأى عكة، وذلك سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وحكموا بصحته اعتماداً على ناقله وهو محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي في كتابه مختار الصحاح، مع أن ذكر المرقوم لذلك لا يدل على أنه حديث لأنه نقل من هو أعلم منه وأفضل، أحاديث كثيرة حكم عليها أهل الإسناد أنها موضوعة، لغايات قصدوها فأرادوا ترويجها فوضعوا لها أحاديث مكذوبة.
قال ابن الجوزي ما أحسن قول القائل إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع ومعنى مناقضة الأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة.
ثم إن الواضعين للحديث أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة أي احتساباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركوناً إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح، ولهذا قال يحيى القطان ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير أي لعدم علمهم بتفرقة ما يجوز لهم وما يمتنع عليهم، أو لأن عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب، ولكن الواضعون منهم وإن خفي حالهم على كثير من الناس فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ونقاده، وقد قيل لابن المبارك هذه الأحاديث المصنوعة فقال تعيش لها الجهابذة " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ومما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا، فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، قال ابن حبان جمع كل شيء إلا الصدق. وروى ابن حبان في الضعفا عن ابن مهدي قال قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا، قال وضعتها لأرغب الناس فيها، وكان غلام خليل يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، وغلقت أسواق بغداد لموته، ومع ذلك كان يضع الحديث، وقيل له عند موته حسن ظنك، قال كيف لا وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثاً، وكان أبي داوود النخعي أطول الناس قياماً بليل وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع، قال ابن حبان وكان أبي بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه في السنة وأذبهم عنها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث، وقال بن عدي كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحداً وكان يكذب كذباً فاحشاً، وجوزت الكرّامية وهم قوم من المبتدعة نسبوا إلى محمد بن كرّام السجستاني الوضع في الترغيب والترهيب، دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب، ترغيباً للناس في الطاعة وترهيباً لهم عن المعصية، واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث من كذب علي متعمداً ليضل به الناس، وحمل بعضهم حديث من كذب علي أي قال إنه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم إنما نكذب له لا عليه، وقال محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الوضاع: لا بأس إذا كان كاملاً حسناً أن يضع له إسناداً! وجميع ذلك خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم، بل بالغ الشيخ أبي محمد الجويني فجزم بتكفير واضع الحديث، ووضعت الزنادقة جملاً من الأحاديث يفسدون بها الدين، فبين جهابذة الحديث أمرها ولله الحمد، روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث منهم محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، فروى عن حميد عن أنس مرفوعاً أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله، وضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التنبي. ومن الواضعين من يضع الحديث انتصاراً لمذهبه كالخطابية والرافضة وغيرهم، وروى ابن حبان في الضعفاء بسنده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً. وقسم من الواضعين وضعوا أحاديثهم تقرباً لبعض الخلفاء والأمراء موافقة لفعلهم وآرائهم، أو ترغيباً لهم في بلاد يعدونها لا قدر لها، فيضعون لهم أحاديث دالة على فضلها ورفعة قدرها، ترغيباً لهم بها، كالأحاديث الموضوعة في عكا على اختلاف أنواعها، وقسم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون منه في قصصهم كأبي سعيد المدايني.
فائدة قال النسائي الكذأبين المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام. ومن الموضوع الحديث المروي عن أبيّ بن كعب مرفوعاً في فضل القرآن سورة سورة من أوله إلى آخره، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين في تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي، قال العراقي لكن من أبرز إسناده منهم كالأولين فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه.
تنبيه ورد في فضائل السور مفرقة أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف وليس بموضوع، وإنما ذكرت هذا التنبيه لئلا يتوهم أنه لم يصح في فضائل السور شيء. واعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها الفاتحة، والزهراوين، والأنعام والسبع الطوال مجملاً، والكهف ويس والدخان والملك والزلزلة والنصر والكافرون والإخلاص والمعوذتان وما عداها لم يصح فيه شيء.
ومن الموضوعات أيضاً أحاديث الأرز والعدس والباذنجان والهريسة، وفضائل من اسمه محمد وأحمد، وفضل عين سلوان، وعسقلان، ووصايا علي، وضعها حماد بن عمر، والنصيبي ووصيته في الجماع، وضعها إسحق بن نجيح الملطي.
والحاصل أن الموضوع تحرم روايته مع العلم بوضعه، وإثباته في كتاب مع عدم التنبيه عليه بأنه موضوع في أي معنى كان، سواء كان في حكم من الأحكام، أو في قصة أو في ترغيب أو في ترهيب، وسواء كان معناه صحيحاً أو باطلاً، لحديث مسلم: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين.
ويعرف الوضع للحديث بإقرار واضعه أنه وضعه، كحديث فضائل القرآن فإن ميسرة قد اعترف بوضعه، وقال البخاري في التاريخ الأوسط حدثني يحيى اليشكري عن علي بن حدير قال سمعت عمر بن صبح يقول أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالوضع بإقرار من ادعى وضعه، لأن فيه عملاً بقوله بعد اعترافه على نفسه بالوضع، قال بعضهم: وهذا ليس باستشكال منه إنما هو توضيح وبيان، وهو أن الحكم بالوضع بالإقرار ليس بأمر قطعي موافق لما في نفس الأمر، لجواز كذبه في الإقرار. ويعرف الوضع أيضاً بغير ذلك مما هو مذكور في كتب مصطلح الحديث، كركاكة اللفظ أو المعنى، قال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوء كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره، وقال ابن الجوزي: الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب، قال الترمنيني:
والكذب المختلق الموضوع ... على النبي فذلك الموضوع
أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو مختلق ومبتكر من عند واضعه فهو موضوع ومحطوط المنزلة فلا معول عليه بالمرة لأنه من جملة الأكاذيب، ولا تجوز روايته إلا لتعريف حاله، لا بنحو قال النبي صلى الله عليه وسلم، بل بنحو: هذا الكلام موضوع وليس بحديث، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر ولو في ترغيب أو ترهيب، ويعرف الوضع بإقرار أو بركاكة.
وإنما أطلت الكلام في هذا المقام، لئلا يظن الإنسان أن نقل من هو معروف بالعلم والفضل لكلام مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه حديث ولا يحتاج إلى نظر ولا إلى استدلال، فهذا قصور لا ينبغي التعويل عليه، لأن كثيراً من أفاضل العلماء قد نقلوا أحاديث في الترغيب والترهيب وفضائل القرآن سورة سورة، وقد تناقله أصحاب التفاسير وأهل الرقائق في كتبهم، ومع ذلك قد نبه المحدثون النقاد عليها بأنها موضوعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فما كل ما صدر بقال صلى الله عليه وسلم يقتضي أن يكون حديثاً، إلا أن يجده الإنسان في كتب الحديث المسندة، وإن كان الناقل له عمدة كالواحدي والواقدي والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، وصاحب مختار الصحاح في نقل الحديث المتقدم، ونحن لا نقول بأنهم هم الذين وضعوا الأحاديث التي ذكروها في كتبهم مما نبه العلماء عليها بأنها موضوعة، بل نقلوها اعتماداً على قائليها من غير أن ينظروا بها، فقد تبين لك مما تقدم أن هذا الحديث الذي ذكره صاحب المختار موضوع ليس بحديث، وذلك لا يطعن في مقام ناقله كما عرفت ولا في علمه، وها هي الرسالة للمترجم المذكور بحروفها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حَمَى حِمى السنة المحمدية بأئمة جهابذة نقاد، ونشر أعلامها وأسس بنيانها بأطواد الأفراد، وخص هذه الأيمة المصطفوية بشرف سلاسل الإسناد، ونضر وجوههم في الدارين فرقوا مراقي الإسعاد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بحفظ سنته، وصونها عن المحرف الوضاع وكل ذي إلحاد، وعلى آله وصحبه ما سلسل محدث وأرسل وعنعن وأفاد، وعلى التابعين لهم من كل حافظ متقن ضابط خبير بالمدارك نقاد.
أما بعد فيقول فقير مولاه الغني، محمد بن محمد المغربي الأزهري منح فتح الجواد، لما وردنا موارد حلب العذبة الأوراد سنة 1173، لإزاحة ما على القلب من الإنكاد، وحللنا في منزل رحب في مقعد صدق يزري بإرم ذات العماد، عند جناب رفيع سيد طويل النجاد، باذخ شامخ الأوتاد، فرآه يسابق بشاشته كل وارد من الوراد، طيب الشمائل، عذب المناهل نخبة الأفراد، بيض الله غرة احواله وأثمر أغصان آماله، وألبسه حلل الإرشاد والسداد، ورد علينا سؤال حديث مضمونه التنويه بفضل عكا الشهيرة عن التعريف بين الحاضر والباد، فكتبت عليه بأنه موضوع وكل ما ورد فيها وفي عينها فهو مفترى عند أعلام الإسناد، ولما رأيت الجوهري وتابعه صاحب المختار أوردا طوبى لمن رأى عكا، هززت عطفي لتحقيق الحق وإرشاد الأمجاد، وسميت الرقيم: تحذير أعلام البشر من أحاديث عكا وعينها المسماة بعين البقر، وينحصر المسطور في مقدمة وخاتمة، فيها تمام المقصد، وقد لبست حلة الإنصاف التي هي سنة علماء السنة والله الهادي وعليه اعتمادي وبه الحول والقوة ومنه المنة.
المقدمة لا يخفى على الممارس أن أئمة الذين ذكروا ضوابط يعرف بها وضع الحديث كسماجة ألفاظه أو برودة معانيه، أو مخالفة للمحسوس أو لظواهر النصوص، أو لبلوغه في الحد مبلغاً يخرجه عن حده، فإن لكل شيء حداً، صرحوا بأن أحاديث البلدان لم يثبت منها إلا نزر يسير، وحذروا من أحاديثها غاية التحذير، وصرحوا بأنه لا يجوز أخذ حديث من أي كتاب كان، بل اشترطوا شروطاً يعرفها النبيل الخبير، وفي هذا المقام مهامه فسيحة يتيه فيها القطا ويحتاج معانيها إلى عون الملك الخبير.
القصد في ذكر الحديث الذي ورد علي في فضل عكا وليس هو عندي وقت هذه الكتابة، وإنما مضمونه أنها بلد على جبلين فمن دخلها رغبة فيها غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن خرج منها رغبة عنها لم يبارك له في خروجه، وبها عين من شرب منها أو اغتسل فيها فهو طاهر إلى يوم القيامة، أقول: أما أولاً فبرودة هذه المعاني لا تخفى على الممارس المعاني، وأما ثانياً فقد اشتمل هذا الحديث على أمور فاسدة، كونها على جبلين كذب ومين، فإني دخلتها وهي شهيرة عند الناس بينها وبين الجبال بون بعيد، وكون الداخل إليها رغبة فيها ينال تلك المغفرة التامة لا يصح، لأنه لم يثبت فيما هو أفضل منها بالنصوص القواطع، فكيف يثبت فيما لا فضل له أصلاً، ومما يؤيد ذلك قول المنلا علي القارئ في آخر كتابه في الموضوعات لما أورد حديثاً مضمونه أن الصلاة في بيت المقدس بخمسين ألفاً أن هذا الفضل محال، وإن روي في سنن ابن ماجه، فإن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيها هذا الفضل، فكيف يثبت في بيت المقدس، قال وإنما الذي ثبت في بيت المقدس أن الصلاة بخمسماية، فإذا تأملت ما قرره المنلا علي رحمه الله تعالى، علمت أن مدعي هذه المغفرة يحتاج إلى مغفرة لقرينه مكفرة، وأما دعوى أنه أمر جائز في العقول، وقد لا يثبت للأفضل شيء ويثبت للمفضول، فجوابه أن السنة وفضائلها لا تثبت بتجويز العقول، وشهد لما قلناه ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتحه، أن كل احتمال لا يقبل في مدارك الحديث، ومما يدلك على رد قوله غفر الله له ما تقدم الخ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ألف رسالة في الفضائل المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ولم يعرج فيها على حديث عكا، وأما نقل الناجي له في رسالته إن صح نسبتها له، فالناجي ليس من أئمة هذا الِشأن، الذين لهم القدح المعلا كما لا يخفى على من عرف أهل هذا اللسان، وكون عينها من شرب منها أو اغتسل كان طاهراً إلى يوم القيامة، هذا أدهى وأمر، فما معنى طهور الشارب والمغتسل إلى يوم القيامة، فإن كان من الجنابة ولو أجنب من بعد، فهذا مذهب أهل المعمودية، وهو منابذ لصريح الشريعة المحمدية، وإن كان طاهراً من الذنوب، فهو شيء لم يثبت للشارب المغتسل من زمزم المرغوب، وإن كان غير ذلك فلا ندريه.
والحاصل أنه لا معنى له فقبح الله واضعه، فإنه ما أراد إلا تنقيص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما جاهل مفسد، أو زنديق ملحد. وأما حديث الجوهري وصاحب المختار: طوبى لمن رأى عكا فهو من وادي الأول فإن المساجد الثلاثة التي شرفها الله تعالى بالنص والإجماع لم يرد فيها طوبى لمن رآها، ولا يغتر بذكره في الكتابين المذكورين، فإن أصحابهما ليس لهما قدم في السنة، ولا يجوز أخذ حديث من كتاب إلا بعد مراجعة أصوله المعتمدة، والقاعدة السابقة في البلدان ترده، والبينة على المدعي، فإن قواعد الأئمة لا تعارض إلا بثقل ثابت عن أثبات الأمة، وهذا الإمام الرافعي إمام السنة والتفسير والفقه المجمع على جلالته، أورد أحاديث في كتاب: التدوين، في مناقب قزوين ومرو وبخارى ونصيبين، فأقامت عليه علماء الأمة القيامة، ورموه بقوس واحدة مع أنه إمام علامة. والاغترار بكل ما سطر ليس على الفضل علامة، وطوبى هذه ليست طوبى الجنات بل هي طوبى تحتها عقارب وحيات، وكم من حديث فيه طوبى لا يساوي عند الأعلام طوبى، وأما عينها عين البقر، ففضلها مفترى منكر، غير معتبر.
وأما الحديث الطويل الذي آخره: واختار من العيون أربعاً، فذكر فيها عين عكا، فقد قال السيوطي وابن عراق وصاحب مثير الغرام منكر بالمرة. وهذا صاحب مثير الغرام وصاحب الأنيس الجليل، قد ذكرا فضائل مدن الشام على ما فيها، ولم يذكرا لعكا فضيلة مع أنهما بهذا الصدد، فلو ثبت لها أدنى فضيلة لطرزا بهما كتابيهما، فإنهما لم يصنعا كتابيهما إلا لنشر المحاسن الشامية، وأي محاسن أعظم من غفران الذنوب وطهارة الأبد؟ لا جزى الله الواضعين خيراً في الدنيا والآخرة، الذين ينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصب الفضلاء، فضلاً عن مقام سيد الأنبياء.
الخاتمة: لا يهولنك ويعظم عليك قولنا سابقاً لا يغتر بذكر الجوهري وصاحب المختار فتقول هذه جرأة على الجهابذة الأخيار، فاعلم أنه ليس كل قيل يقال، ولا كل ميدان تجول فيه الرجال، فكم من همام جهبذ في علم لا قدر له في علم الآخر، وهذا القاضي البيضاوي سيد المحققين قد أودع تفسيره أحاديث السور، وغالبها موضوع بإجماع المحدثين أهل النظر، وهذا الجلال المحلي على جلالة محله، نقل حديث أنا أفصح من نطق بالضاد، وكذا شيخ الإسلام تلميذه، وهو موضوع عند النقاد، ولو تتبعنا أمثال هذه لأسهبنا وأبعدنا كل الابعاد. ولقد كنت نظمت أبياتاً قبل هذه الرسالة، فأحببت ذكرها لتتميم المقالة وهي:
أقول لأرباب الحديث تبصروا ... حديثي فقولي عندكم غير مفترى
أحاديث عكا لا يشك بأنها ... أباطيل لا تعزى إلى سيد الورى
كقزوينهم السكندرية مثلها ... ومرو، ولو كان الحديث مسطرا
وما صاحب المختار يروى حديثه ... ولا الجوهري من بالصحاح تجوهرا
وأما الإمام الحال مجد زمانه ... فذاك من الحفاظ ممن لها درى
وها الرافعي مع مجده ورسوخه ... بتدوينه المعروف يرويه من قرا
أفاد أحاديثاً لقزوين مدحة ... فزيفها الأعلام ممن رقى الذرى
ومن شرطه لا اغترار بكل ما ... يسطر في كتب إلى أن ينقرا
فهذا سبيل الراسخين سلكته ... مخافة يوم العرض من وصمة الفرى
وأهدي صلاة من سلام لأحمد ... وآل وصحب ما رياض تعطرا
تذييل: لا يغتر بأحاديث الخطب ولا كتب التواريخ ولا القصص ولا الرقائق ولا كتب اللغة حتى تراجع أصولها، وتحقق فصولها، وهذا المقام واسع المدى فياض الندى، وفي هذا القدر كفاية والله ولي العناية، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ما طابت بذكره الأفواه، قال مؤلفها رحمه الله: تمت في ذي القعدة سنة 1172 وقد تم نقلها من نسخة منقولة عن نسخة مؤلفها.
توفي المترجم المرقوم رحمه الله تعالى بعد المائتين بقليل ولم أقف على مكان موته ودفنه.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.