محمد علي باشا الأرنأوطي خديوي مصر القاهرة
كان أصله من الأرنأوط، وقدم عسكرياً مع عساكر الترك القادمين لأخذ مصر من الفرانسيس لما استولى الفرانسيس عليها وكان الفرانساويون قاصدين التوصل من هناك إلى افتكاك الهند من الانكليز لما كان بينهم من الحروب والعداوة، بل وكانت سائر أوربا إذ ذاك ضد الفرنساويين حسبما تقدم ذلك في محله. فحينئذ عاضدت انكلترا الدولة العثمانية على حرب فرانسا وإخراجها من مصر، وكان المترجم كامل الأوصاف للرياسة فتقدم إليها بنفسه على بني جنسه، وانقاد له الجميع. وقررت ولايته الدولة على دفع خراج معلوم سنوياً وذلك سنة 1219، فوجد مصر في نهاية درجة الفقر والبربرية والجهل، بل حتى أن الأمراض الوبائية من الطاعون قد تمكنت فيها وصارت عادية تفني من الناس سنوياً خلقاً كثيراً، حتى قل العمران ولم يبق من مآثر تقدم المصريين سوى الاسم في التواريخ. نعم وجد للعلوم الشرعية بقية آثار في الجامع الأزهر من العلماء، وذلك كله لما مر عليها من تقلبات الدهر والظلم والجور والاستبداد والحروب في الأيام الخالية.
فشمر عن ساعد الجد ووافقه البخت وفتح لمصر عصراً جديداً، فنظم فيها جيشاً نظامياً من أهلها، ورتب الأداء على الأهالي على قانون غير مجحف، وألزمهم بتعمير الأرض وفتح الترع وإنشاء المدارس العلمية للعلوم الرياضية والحربية، وأحضر المعلمين من أروبا وأحيا المارستانات وألزم الأهالي بالنظافة، وتوسيع الطرقات والبناءات، وأرسل التلامذة إلى أروبا لتعلم الفنون، وأحيا نمو العلوم الشرعية، وسهل أبياب التجارة، وأنشأ معامل السلاح والسفن، وترجمت الكتب النافعة في فنون شتى من لغات شتى إلى العربية، فنشأ في مصر جيل جديد وعصر جديد، بسطت فيه طرق العمران والتمدن والقوة في مدة يسيرة، فافتتح النوبة وسنار واستولى على الشام والحجاز، وافْتَكّهُ من الوهابي، بل امتد بالاستيلاء إلى قرب الآستانة في الأناطولي، وخشيت شوكته من عصيانه على الدولة العثمانية، فتعصب الانكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من إنشاء دولة إسلامية شابة ذات قوة مثل تلك ومركزها مصر، فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح الانكليز، لا سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأروباوية مثل فرنسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على ضعف شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك، فقهروا محمد علي، ولكن لإتمام مقصد انكلاتيرة لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضاً، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه إستقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي والياً على مصر على أن تكون الولاية في ذريته من أكبر إلى أكبر، ويؤدي خراجاً سنوياً للدولة، ويعينها عند وقوع حرب معها بالعساكر الذين يبلغ عددهم الأربعين ألفاً، وكذلك يعينها بالسفن، وإن الرتب العالية في مصر يعين هو أصحابها، وتوليهم الدولة، والسكة والخطبة تكون باسم السلطان العثماني أيضاً، وأخرج الحجاز عنه إلى الدولة، وكذلك الشآم، وبقي على ذلك إلى أن ضعف بالسن، فتنازل عن الولاية لابنه الأكبر وهو رئيس جيوشه وحروبه إبراهيم باشا سنة 1265، وكان على قدم أبيه، وتوفي المذكور في تلك السنة.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.