عبد الله باشا بن علي آغا الخزندار

تاريخ الوفاة1251 هـ
مكان الوفاةالمدينة المنورة - الحجاز
أماكن الإقامة
  • المدينة المنورة - الحجاز
  • عكا - فلسطين

نبذة

عبد الله باشا والي عكا ابن علي آغا الخزندار أحد مماليك أحمد باشا الجزار نقل صاحب المناقب الإبراهيمية، والمآثر الخديوية، إن المترجم المذكور، كان لا يركن إليه في أمر من الأمور، عديم الوفاء، متقلب الآراء، لا يرعى عهداً، ولا يحفظ وداً، عاكفاً على الملاهي واللذات، مشغوفاً بسماع الأغاني والأصوات، فساعدته يد العناية، حتى تمكن من الولاية، وطابت له الأيام، وبلغ القصد والمرام، وكان دأبه الاهتمام بإقامة العمار، وتحصين عكا بالأبراج والأسوار، وجمع الأموال من جميع الأقطار، وكان قد استولى عليه الطيش، واستخفه البطر وطيب العيش، حتى حاد عن الطريق المحمود، وتجاوز في الأحكام الحدود

الترجمة

عبد الله باشا والي عكا ابن علي آغا الخزندار أحد مماليك أحمد باشا الجزار
نقل صاحب المناقب الإبراهيمية، والمآثر الخديوية، إن المترجم المذكور، كان لا يركن إليه في أمر من الأمور، عديم الوفاء، متقلب الآراء، لا يرعى عهداً، ولا يحفظ وداً، عاكفاً على الملاهي واللذات، مشغوفاً بسماع الأغاني والأصوات، فساعدته يد العناية، حتى تمكن من الولاية، وطابت له الأيام، وبلغ القصد والمرام، وكان دأبه الاهتمام بإقامة العمار، وتحصين عكا بالأبراج والأسوار، وجمع الأموال من جميع الأقطار، وكان قد استولى عليه الطيش، واستخفه البطر وطيب العيش، حتى حاد عن الطريق المحمود، وتجاوز في الأحكام الحدود، وأشهر العصيان على الدولة، ذات الشوكة والصولة، أملاً بالاستقلال، وطمعاً في الجاه والأموال، ولما بلغ حضرة السلطان محمود خان، ما هو عليه من الجنون والهذيان، والتمرد والعصيان، وارتكاب الظلم والعدوان، غضب من سوء فعاله، وأرسل عسكراً لتربيته وقتاله، تحت راية البطل الهمام، درويش باشا والي دمشق الشام، فحاصره زمناً طويلاً، وأذاقه عذاباً وبيلاً، ولما اشتد عليه القتال، وأحاطت به الأهوال، وانقطع عنه الإمداد، من سائر البلاد، صحا من غفلته، واستفاق من سكرته، وداخله الخوف والفزع، واضطرب من الهلع، وأيقن أنه إذا طالت عليه تلك الحالة، يؤخذ أسيراً لا محالة، فابتدر بالعجل، لاستدعاء الأمير بشير حاكم الجبل، وكان من أفراد الرجال، موصوفاً بالفضل والكمال، وحسن التدبير وجميل الخصال، ولقد أجاد من وصفه فقال:
إنما أنت واحد غير أني ... لست أعطيك منزل الآحاد
فبماذا يبالغون وهم لا ... يبلغون الإنصاف بعد الجهاد
لك خوف لو صادف العين في م الحلم لصارت تخاف طيب الرقاد
تفخر الناس بالجدود ولكن ... أنت فخر الآباء والأجداد
وأرسله إلى الديار المصرية، ليستميل له خاطر الحضرة الخديوية، لإصلاح أمره مع الدولة العلية، وكان محمد علي باشا له وجاهة كبيرة، ومنزلة عند الدولة رفيعة خطيرة، فلبى دعوته، وأجاب طلبته، وكتب في شأنه إلى القسطنطينية، واسترضى الدولة بموجب إرادة سنية، ورفع عنه تلك الشدة، بعدما أقام في الحصار مدة، وصار له عليه حق الجميل والإحسان، على مدى السنين والأزمان، غير أن عبد الله باشا كبرت نفسه بعد ذلك عليه، وجحد فضل محمد علي باشا وإحسانه إليه، وحصول العفو له على يديه، وسلك معه سلوك اللئام، الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وتكلم في حقه بما لا يليق من الكلام، فلما بلغ محمد علي باشا هذا الخبر، زاد به الغيظ والكدر، وكتب إلى حضرة السلطان محمود خان، يعلمه بهذا الشأن، ويلتمس من جلالته، خلع عبد الله باشا عن ولايته، فلم يكترث بخطابه، ولا أجابه على كتابه، واستعظم منه ذلك الأمر، ورآه من عجائب الدهر، ولم يعد يمكنه الاصطبار، على ذلك الذل والعار، فجهز ولده المعلوم بالعناد، والمبغوض لدى العباد، إبراهيم باشا رأس الفساد وخراب البلاد، أن يسير لحرب الديار الشامية، وأردفه بالعمارة البحرية، وأصحبه بثلاثين ألفاً من العسكر، الذين لا يبالون بالخطر، ولا يهأبين الموت الأحمر، فسارت العساكر، بالمهمات والذخائر، قاصدة الديار الشامية، على طريق البرية، وأما القائد العام، لهؤلاء العساكر الطغام، وهو إبراهيم باشا فإنه نزل في العمارة البحرية، مع باقي الجيوش العسكرية، وكان من جملة معاونيه، عباس باشا ابن أخيه، وإبراهيم باشا الصغير، وغيرهما من القواد المشاهير، وكانت العمارة المصرية، مؤلفة من ست عشرة قطعة حربية، وسبع عشرة سفينة وسقية، تحت رياسة أحد القوادين من الضباط المصرية، عثمان بك نور الدين، وكان خروجه من بغاز الإسكندرية، في غزو جمادى الأولى سنة 1247 هجرية، فوصل في خمسة أيام، إلى حيفا إحدى أساكل بر الشام، وهي بلدة تبعد عن عكا ثلاث ساعات، وأهلها يبلغون نحو ثلاثة آلاف من النسمات، ولما ألقت المراكب مراسيها نزل إبراهيم باشا إليها وخيم في نواحيها، فتزلزت بقدومه الديار الشامية، وارتجت من هيبته رجة قوية، وأما باقي الجيش والعسكر، الذي سار على طريق البر الأقفر، فإنه كان قد واصل التسيار، وجد في قطع البراري والقفار، فأشرف على عكا من الجهة الجنوبية، في عشرين من تشرين الثاني " سنة 1831 مسيحية "، وانضم إلى باقي الجيوش المصرية، وكان لما بلغ عبد الله باشا هذا الخبر، وأبصر الجيش والعسكر، أحاط به الخوف وانذعر، وطار من عينيه الشرر، ففرق الأموال، وجمع الفرسان والأبطال، وشرع في تحصين القلع والأسوار، واستعد للقتال والحصار، وأرسل يستدعي من حوله من الأكابر والأعيان، وكتب بخط يده إلى الأمير بشير حاكم لبنان، يستنجده لهذا الأمر، ويقول له: إن المشايخ بني الجرار وبني صقر وعرب السلط وبني صخر ينتظرون قدومه إليهم، ليكون رئيساً عليهم. وفي أثناء ذلك يذكره بالصداقة القديمة والمحبة، ويثنى على أمانته وحفظه المودة والصحبة، متمثلاً بقول الشاعر:
وأنت الخالص الذهب المصفى ... بتزكيتي ومثلي من يزكي
وكانت عكا في تلك الأيام، من أشهر مدن بر الشام، وكرسي الولاة والحكام، ذات أبراج حصينة، وقلاع متينة، مشحونة بالذخائر والمهمات، وآلات القتال والجباخانات، وفيها من رجال الحرب، وفرسان الطعن والضرب، نحو خمسة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، وكان إبراهيم باشا صاحب الهمة العلية، قد تقدم نحو عكا في فرقة قوية، من الفرسان والطوبجية، وبنى أتراساً متينة، على تل هناك تجاه المدينة، ويقال له تل الفخار، ووضع عليه المدافع والقنابل الكبار، وأرسل إلى عبد الله باشا يقول، ضمن كتاب مع رسول، أن يسلم المدينة، بطريقة أمينة، ويربح دم العباد، وسلامة البلاد، ويبادر إلى ملتقاه، ويعتذر مما جناه، ويدخل تحت لواء الحضرة الخديوية، ويعيش باقي أيامه في عيشة رغد ورفاهية، وعين له أجلاً للحضور وتسليم الحدود والثغور، إن تجاوزه ولم يخضع لأمره، يضربه بالمدافع ويجعل كيده في نحره، وحينئذ يأخذ أسيراً، ويرسله إلى مصر ذليلاً حقيراً، ولا يعود يفيده الندم، بعد فوات الفرصة وزلة القدم، فلما وقف على كتابه، وفهم فحوى خطابه، شق ذلك عليه، وعظم الأمر لديه، وحدثه عقله السقيم، بعدم الطاعة والتسليم، وتصلب على المحاصرة والمقاومة، وأصر على المدافعة والمصادمة، ورفض أمر الصلح والمسالمة، وسعى بسوء تدبيره، على خرابه وتدميره، ولم يعلم أن أيامه قد مضت، ومدة أحكامه زالت وانقضت، واستمرت بينهما المخابرة نحو عشرة أيام، وعبد الله باشا يحاوله بالكلام، ولا يقدر عواقب الأيام، وكان مستر بيتر أبيت، قنصل دولة الإنكليز في بيروت، لما بلغته هذه الأخبار، سار قاصداً تلك الديار، واجتمع في إبراهيم باشا في الخيام، بعد مسيرة ثلاثة أيام، وأخذ يلومه بالكلام، على قدومه إلى بر الشام، بدون رخصة سنية، من الدولة العلية، بقوله له أن هذا العمل، لا توافق عليه بقية الدول، لا سيما الدولة الإنكليزية، المتحدة مع الدولة العثمانية، على حفظ الصداقة وإخلاص الطوية، فاغتاظ إبراهيم باشا منه وتأثر، غير أنه لم يظهر له من غيظه ما أضمر، وقال له اعلم، أيها الصديق الأكرم؛ أني حضرت بالعساكر الجهادية، لاستخلاص الديار الشامية، انتقاماً من عبد الله باشا بأمر الحضرة الخديوية، فإن كان ذلك لا يوافق دولة الإنكليز، فعليها أن تخاطب به جناب والدي العزيز، فمتى أمرني بالرجوع، عدلت عن هذا المشروع، وإلا فلا أرجع بدون ذلك، ولو قامت علي جميع الممالك، ثم نهض على الأثر وتوجه قاصداً المعسكر، ولم يلتفت إلى حديث مستر أبيت وكلامه، ولا اكترث بتعنيفه وملامه، واستمر على ما كان قد قصد. من ضرب الأسوار وهدم البلد، فلما انقضت مدى الميعاد المعهود، وفات وقت الأجل الموعود، وعبد الله باشا ما زال مصراً على عدم تسليم المدينة، معتمداً على قوته وعلى أسوارها الحصينة، استعد إبراهيم باشا وتأهب، في اليوم الرابع من شهر رجب، إلى ضرب المدينة، وهدم أبراجها المتينة، فأرسل إلى رؤساء الطوبجية، وقائد العمارة الحربية، يأمرهم بإطلاق النار، على الأبراج والأسوار، فامتثلوا ما أمر، ولم يمض إلا لمحة بصر، حتى أطلقت المدافع والقنابل، على الحصون والمعاقل، وكان الضرب متواصلاً من الخارج والداخل، كالغيث الهاطل، وكان قد أرسل إلى الأمير بشير حاكم الجبل، كتاباً يستدعي حضوره بالعجل، ليقرره في مركز حكومته، ويعيش في ظل نعمته، فلما وقف على هذا الخطاب، داخله الخوف والاحتساب، وجمع أكابر لبنان، ومن يعتمد عليهم من الأعيان، واستشارهم في هذا الشأن، فاستقر رأي الجمهور، على عدم التسليم والحضور، خوفاً من عواقب الأمور، فلما أبطأ في قدومه، وأصر على عدم تسليمه، استشاط إبراهيم باشا غضباً، وتبدل واسع حلمه لهباً، وكان قد صمم النية، على أن يدهمه بالعساكر النظامية، ويقبض عليه جبراً، ويستولي على لبنان قوة وقهراً، ثم توقف وعدل، عن هذا العمل، لأن أباه كان أوصاه به قبل خروجه من القاهرة، وبالعساكر الظافرة، نظراً لما كان وقع له عنده، من التقرب في المودة، وذلك عند زيارته الديار المصرية، وتمثله أمام الحضرة الخديوية، في طلب العفو والأمان، حسبما قررناه قبل الآن، فكتب إلى والده بمصر، يعلمه بهذا الأمر، فلما وقف العزيز على هذا الخبر، داخله الغيظ والكدر، وتأثر من مخالفة الأمير، وكتب إليه كتاباً على سبيل التنبيه والتحذير، يعاتبه على ذلك القصور ويتهدده بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر، لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية. هـ بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر، لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية.
ولما بلغ السلطان محمود خان، قدوم إبراهيم باشا إلى عربستان ووضع يده على المدن والبلدان، استولى عليه الغيظ والغضب، وكتب إلى محمد باشا والي حلب، يقول له من جملة الكلام: اعلم أيها الوزير الهمام، قد انتهى إلينا في هذه الأيام، مجيء إبراهيم باشا بالعساكر المصرية، لفتح البلاد الشامية، والاستيلاء على ولاياتها، ومدنها وباقي ملحقاتها، واستولى على أطراف البلاد، وانقادت إليه العباد، فلذلك قد أصدرنا الأوامر والمراسيم، بتجهيز العساكر وإرسالها إلى تلك الأقاليم، تحت راية السردار الأكرم، حسين باشا الأفخم، فيجب عليكم، بوصول أمرنا هذا إليكم، أن تحصنوا القلاع والمعاقل، وتجمعوا العساكر والجحافل، وتستخلصوا منه تلك الأساكل، قبل قدوم الجيوش المذكورة، والعساكر المنصورة. فلما وصل هذا المنشور، إلى الوالي المذكور، شرع في تحصين البلد، بالسلاح والعدد والعدد، وجمع العساكر والجنود، وعقد الرايات والبنود، وسار إلى حمص من غير توان، في سبعة آلاف عنان، من الأرناؤوط والهواري والعربان، وعند وصوله إلى المدينة، حصن قلاعها بالمدافع والأبنية المتينة، وأقام بفرسانه فيها، وعسكر في جهاتها ونواحيها، منتظراً قدوم العساكر العثمانية، ومجيء حسين باشا من القسطنطينية، وأرسل أمامه عثمان باشا كامل، في أربعة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، لقتال العساكر المصرية، واستخلاص المدن البحرية، فسار بهمة وحمية، واستولى على اللاذقية، ثم تقدم بعزم وثبات، إلى نواحي طرابلس وتلك الجهات، فالتقاه من عساكر مصر شرذمة، نحو خمسمائة نسمة، وكان في مقدمتهم الأمير خليل الشهير، ابن الأمير الشهابي بشير، وبمعيته ستمائة بطل، من عسكر الجبل، ولما وقعت العين على العين، اشتعلت نيران الحرب بين العسكرين، والتقت الفرسان بالفرسان، والأقران بالأقران، واختلف الضرب والطعان، وسالت الدماء على أديم الصحصحان، وأخذ حده السيف والسنان، ولم تكن إلا ساعة من الزمان، حتى تضعضعت من عثمان الأركان، فولى الأدباء، واستنجد بالفرار، ورجع بمن معه من الفرسان والأنفار، إلى قلعة الحصن وبلاد عكار، وهو في حالة الذل والانكسار، وحينما بلغ إبراهيم باشا هذا الخبر، ومجيء محمد باشا إلى حمص بذلك العسكر، وهو إذ ذاك محاصر عكا الحصينة، وقد كاد أن يفتحها ويهدم أسوارها المتينة، تجهز من يومه وسار، في أربعة آلاف فارس كرار، قاصداً تلك الديار، وترك عكا تحت الحصار، ثم عجل في السير، وسابق بمسيره الطير، فأدرك عثمان باشا في أرض الزراعة بقرب القصير، وكان محمد باشا قد أمده بالمهمات والذخائر، وأضاف إليه فرقة من العساكر، فناوشه الحرب، وبادره بالطعن الضرب، فقهره وكسره، وفرق جيشه وعسكره، وفر عثمان باشا من ساحة المعمعة، وترك الذخائر والمهمات والأمتعة، ولجأ إلى حمص بمن سلم من جنده معه، بعدما قتل من عسكره نحو ألف قتيل، ومن المصريين نفر قليل، ثم رجع إبراهيم باشا على الأثر، بعدما غلب وقهر، وفاز وانتصر، وغنم وأسر وبلغ القصد والوطر، وأتى دير القمر، وترك فيها ألفاً وخمسمائة نفر، من شجعان العسكر، وعاد إلى عكا بعد ذلك الانتصار، وشدد عليها الحصار، وكان قد أرسل عباس باشا إلى بعلبك في اليوم الخامس عشر من نيسان، وأصحبه بألابين من الفرسان، ليقيم محافظاً في ذلك المكان، وكانت الحرب على عكا قائمة، والمدافع على أبراجها متصلة دائمة، حتى هدم أكثر حصونها وأسوارها، وسقط رونق مجدها وفخارها، من وقوع الكلل والقنابل، وهجوم الأبطال والجحافل، وكانت سكان البلد، من الشيخ إلى الولد، في خوف واحتساب، وقلق واضطراب، من سقوط الكلل وأصوات البارود، فكانوا يستترون تحت العقود، واستمر القتال، على هذا المنوال، مدة سبعة شهور، بلا انقطاع ولا فتور، وكان المصريون في أثناء الحصار، يحفرون حفراً تحت أساسات الأسوار، ويضعون فيها البارود ويضرمونها بالنار، فتهدم ما فوقها من البنيان.
ولما كان يوم الجمعة الموافق من ذي الحجة سنة 1247 هجرية، صمم إبراهيم باشا النية، بقيام هجمة قوية، لينتهي بها الحال، وتكون واقعة الانفصال، فجمع أركان حربه إليه، وأخبرهم بما قد عول عليه، وأعطاهم الأوامر والإرشادات اللازمة، المتعلقة بكل واحد منهم في تلك المهاجمة، وعين لها اليوم الثاني من ذلك النهار، وهو السابع والعشرون من ذي الحجة والثامن والعشرون من أيار، ولكن لما كان الأحسن قبل القتال طلب التسليم على أحسن حال، أرسل إلى عبد الله باشا قائداً من العمد، يطلب إليه أخيراً أن يسلم البلد، قبل أن تفوته فرصة الأمان، ويقع في قبضة الأسر والهوان، وأنه غير منفك عن هذا الشأن، ولو تخربت عليه جبابرة الأرض ومردة الجان، فلم يلتفت عبد الله باشا إلى هذا التحذير والتنذير، وعده من باب الخوف والتقصير، وقال للقائد المذكور: إن مدة الحصار لم تتجاوز بعد سبعة شهور، والمدينة بحمد الواحد الأحد، مشحونة بالسلاح والعدد، وفيها من الجبخانات، والذخائر والعلوفات، ما يكفيها خمس سنوات، فمتى جاء الوقت المعهود، وفرغ الزاد والبارود، وانقطع عنها الإمداد والإسعاف، ننظر حينئذ في إنهاء هذا الخلاف. فلما عاد القائد إلى مولاه، وبلغه جواب عبد الله، تعجب من وقاحته وحار وأمر بإطلاق المدافع على الحصون والأسوار، فأطلق طول ذلك الليل، وانصبت على البلد كعارض السيل، ولما كان الصباح، تأهب العسكر للهجوم والكفاح، فقرعت الطبول، ولمعت النصول، وخفقت الرايات ونفخ النفير، وانقسمت الآليات إلى فرق وطوابير، وسارت العساكر، كالأسود الكواسر، بحسب صدور الأوامر، طالبة القلاع والأبراج، بدون خوف ولا انزعاج، وفي مقدمتها هاتف السعد والإقبال، ينشد قول من قال:
هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
نحن الأسود الكاسرة ... نحن السيوف الباترة
من أرض مصر القاهرة ... سرنا وقد نلنا المنى
هيا بنا هينا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
نحن الجهاديون لا ... نخشى غباراً إذ علا
ولم ندق في البلا ... صدراً إذا الموت دنا
هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
بارودنا شراره ... يشوي الوجوه ناره
وسيفنا بتاره ... من العدى تمكنا

ولم تكن إلا ساعة من النهار، حتى أشرفوا على الأسوار، واندفقوا عليها كالبحار، وكان أول من هجم بأمر إبراهيم، طأبير من الألاي العاشر على برج كريم، الكائن في الجهة الغربية، من الأسوار الشمالية، ثم أتبعه على الأثر ثلاثة طوابير أخر، تحت قيادة الشجاع الشهير، إبراهيم باشا الصغير، وهو والد جناب حيدر باشا وخليل باشا يكن، أصحاب الخلق الجميل والصيت الحسن، وانعطفوا بحملاتهم أسرق من البرق، على الكائنة تجاه الشرق، وكانت أكثر هذه المواضع، مثقوبة بكلل المدافع. وأما أسد الآساد، وسيف الجهاد، وقائد القواد، فكان سائراً على أثر العساكر، وبمعيته طأبيران من الألاي الخامس والعاشر، وكان يجول على ظهر جواده، بين صفوف فرسانه وأجناده، وهو يشجعهم بالكلام، وينشطهم على الهجوم والاقتحام، ويعدهم بالمكافأة والإنعام، فلله درهم من فرسان وأبطال، ما أشدهم في الحرب والقتال، وأثبتهم في ميدان النزال، على المخاطر والأهوال. وكان الرصاص يتناثر عليهم كالبرد، من الأبراج ومتاريس البلد وهم ثابتون ثبات الجبابرة، أو الأسود الكاسرة، غير مبالغين بالخطر، طمعاً بالنصر والظفر، وبلوغ القصد والوطر، بل كانوا يهجمون، على الأسوار والحصون، بهمم وعزائم، أمضى من الصوارم، وينصبون عليها السلالم، ويتسلقون فوقها كالضراغم، هذا ولم ينتصف النهار، حتى تمكنوا بالقوة والاقتدار، على أكثر الحصون والأسوار، ونشروا عليها بيارق الانتصار، فاستولى الطأبير الثاني، على المراكز والمباني، التي في الناحية الشرقية، المتصلة بأطراف الأسوار الشمالية، واستولى الطأبير السادس، من الألالي الخامس، على جميع الصوايح، التي في جهة النبي صالح، وهكذا استولى الألالي الاحتياطي، على المتاريس الواقعة بقرب الشاطئ، فلما رأى عبد الله باشا ذلك الهول العظيم، والخطب الجسيم، ندم على عدم الطاعة والتسليم، وعلم أن نجمه قد سقط، وعقد عزه قد انحل وانفرط، وأنه عما قريب يؤخذ أسيراً، ويقاد أمام عدوه ذليلاً حقيراً، بعد أن كان والياً ومشيراً، ولكنه أظهر الصبر والجلد، وسار بالعسكر إلى خارج البلد، بقصد المدافعة والممانعة، وسد أبياب الهجمات المتتابعة، فخاض ساحة المعركة، وجرت بينهم وقعة مهلكة، قتل فيها من قواد المصريين، وأبطالها المشهورين، الشجاع المقدام، إسماعيل بك القائم مقام، وبموت هذا الأسد الغضنفر، ارتد جيش المصريين وتأخر، وضعفت عزيمته وتقهقر، فلما رأى إبراهيم باشا أن العسكر، قد أمسى في ارتباك منكر، خشي من الهزيمة والانكسار، بعد ذلك الفوز والاستظهار، فتقدم نحو جنوده بحرسه، وهو راكب على ظهر فرسه، وجعل يحرضهم على الثبات والجهاد، ويحثهم على الصبر والجلاد، ويقول هذا يوم الانتصار، هذا يوم الافتخار، هذا يوم بلوغ الأوطار، فكانوا تارة يتقدمون وتارة يتأخرون، فعند ذلك سل سيفه من غمده، وانعطف بالحملة أمام جنده، واقتحم مواكب الأعداء فشق الصفوف والكتائب، وأظهر بشدة شجاعته وبسالته العجائب، فتشجعت عزيمة العساكر، من هيبة هذا البطل الكاسر، وداخلتهم الحماسة والفتوة، وكروا على أعدائهم بكل نشاط وقوة، فسدوا عليهم الطرق والطرائق، وأثخنوهم بضرب السيوف والبنادق، وأزاحوهم إلى ما وراء الخنادق، ثم قويت عزيمة المحصورين، وانعطفوا بالحملة على المحاصرين، وحينئذ اختلط الرجال بالرجال، والأبطال بالأبطال، والتحم القتال، واتسع المجال، وعظمت الأهوال، وجرى الدم وسال، وتمكنت الصوارم، في الرقاب والجماجم، والحراب والخناجر، في الصدور والخواصر، وكان يوماً من أعظم الأيام، وساعة يشيب من هولها رأس الغلام، لأن الدماء كانت تسيل كالمطر، والجثث تتساقط على الأرض كأوراق الشجر، والسهول والتلال، تهتز من ضجيج الرجال، وأصوات المدافع التي تزعزع الجبال، حتى خيل للنظار، في ذلك النهار، أن الساعة اقتربت، والأرض ارتجت واضطربت، والسماء غابت واحتجبت، والمدينة احترقت وانقلبت، ولقد أحسن المقال، وصدق من وصف عكا في ذلك وقال:
قد قيل أن جهنماً تحت الثرى ... مالي أراها فوق عكة تضرم
لو لم تكن دار الشقاوة عكة ... ما أضرمتها بالشرار جهنم
واستمرت تلك المعاركة، والمهاجمة المتداركة، من الصباح إلى بعد العصر، حتى هبت ريح النصر، وكانت قد كلت جموع عبد الله باشا، وانحل عزم نشاطها وتلاشى، وعجزت عن حماية البلد، ولم يعد لها أدنى ثبات ولا جلد، فألقوا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، خوفاً من حلول البوار، ونزول الدمار، وطلبوا لأنفسهم الأمان، واختاروا الأسر والهوان، وانصبت العساكر المصرية كالسباع، واندفعوا على البلد أشد اندفاع، بقلوب لا تخشى الموت ولا ترتاع، وتسلموا باقي الأبراج والقلاع، واستولوا على مدينة عكا عنوة وقهراً، بعد انحصار سبعة أشهر براً وبحراً، وتسلم إبراهيم باشا زمام تدبيرها، وقبض على عبد الله باشا وزيرها، وألقاه تحت الحفظ والترسيم، بعدما وبخه على فعله الذميم، وسلوكه الغير المستقيم. وفي اليوم الثاني وهو يوم الأحد، نزل في قصر البهجة خارج البلد، وهو أحد القصور، المختص بعبد الله باشا المذكور، ولما استقر في ذلك المكان، خرج إليه الأكابر والأعيان، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى ذلك الشان، وعاملهم باللطف والإحسان، ثم أمر بكتابة الأوامر والمراسيم، إلى ولاة المدن والأقاليم، يعلمهم بذلك الفتح والنصر، وأنه استولى على عكا بالقوة والقهر، فكتبت في الحين، وأرسلت إلى الولاة والمحافظين، وهذه صورتها: بعد السلام عليكم، المنهى إليكم، إنه نهار أمس، عند طلوع الشمس، زحفت عساكرنا المصرية الظافرة، بالقوة والسطوة القاهرة، واندفعوا على مدينة عكا اندفاع الأسود الكاسرة، وبادروها بالمهاجمة، واقتحموها بالمصادمة والمقاومة، إلى أن فتحوها بقوة الحرب والنار الدائمة، وصعدوا أسوارها الرفيعة، ووطئوا أبراجها المنيعة، وغدت عساكر الأعداء مقهورة، أما عساكرنا المنصورة. ولما تضعضعت منهم الأركان، ورأوا ما جرى وكان، ورفعوا الرايات وطلبوا الأمان، فأجبناهم إلى سؤالهم، وبلغناهم غاية آمالهم، وعاملناهم بالرفق والإحسان، شفقة على الأهالي والسكان، ورأفة بالبنات والصبيان، والأطفال والنسوان، وأخرجنا عبد الله باشا وكتخداه، وقواد عسكره وزعماه، واستولينا على عكا قهراً بإذن الله، ولأجل إعلان هذه البشرى حررنا لكم هذا المنشور، من ديوان عسكرنا المنصور، لتعلنوا مضمونه بالشنلك والسرور وتواظبوا تأدية الدعوات الخيرية، إلى حضرة باري البرية، بدوام بقاء سعادة ولي النعم، جناب والدنا المعظم. حرر في 28 ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين وختمه تحت الإمضا: سلام على إبراهيم.
وبعد ذلك استدعى بعبد الله باشا فحضر بين يديه، وسلم عليه، واعتذر إليه، وتصور الموت نصب عينيه، فلاطفه وطيب قلبه، وسكن روعه ورعبه، وأجلسه بالقرب من حضرته، وقابله بما يليق بمقامه ورتبته، ثم أرسله إلى أبيه أسيراً، وعند دخوله على أبيه وقع على قدميه مستجيراً، ملتمساً منه الرضى، والعفو عما قد مضى. فلما رأى حاله، صفح عنه وأذهب أوجاله، وأنزله في أحسن السرايات، وأجرى له ما يلزمه من الحوائج والنفقات، ثم أرسله بالتكريم إلى دار السعادة، فبعد وصوله أرسلته الذات الشاهانية شيخاً على حرم المدينة الشريفة ذات السيادة. ولم يزل في المدينة عدة سنين، حتى توفي بها سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.