السيد عبد القادر أفندي بن السيد تقي الدين القدسي الحلبي الكاتب الثاني في المابين
قد ترجمه سعادة أحمد عزت باشا في كتابه المسمى بالعقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية فقال:
صاحب الخصائل الممدوحة والآداب والمعرفة، تدفق ذكاء وتجسم حياء قد صيغت أخلاقه من النسيم، وتهذبت أطواره بحكم التجاريب من الحديث والقديم، فهو من بيت شرف وعز مستديم. كان أبيه نقيب حلب الشهباء، وجده مفتيها ومرجع العلماء، فهم فيها عماد الشرف والمحامد، وركن الطارف والتالد.
ولد حفظه الله بحلب سنة ست وأربعين ومائتين وألف، وترعرع في حجر والده ونشأ على حال عظيم من الكمال والتقوى والأدب، وتلقى علوم العربية والفقه وغيرها من علوم السنة عن أفاضل حلب، ثم أتقن بعدها اللغة التركية والفارسية، وأحسن المنثور والمنظوم في اللغتين العربية والتركية، وله فيها الآثار الحسنة، والأفكار المستحسنة، ومن أعظمها أنه ترجم كتاب البرهان المؤيد مؤلف حضرة الغوث الرفاعي رضي الله عنه من العربية إلى التركية، ورسالة رحيق الكوثر التي هي من كلام الغوث الرفاعي الأكبر أبدع فيهما كل الإبداع، وترجم المجالس الأحمدية. وله غير ذلك من المآثر العديدة والآثار الحميدة، ما تتزين به الصحائف والأوراق وتهتز لها الأغصان بالأوراق. وقد تقلب منذ نشأ في خدمة الدولة العثمانية حتى أحرز المراتب العلية والمناصب السنية، وهو الآن الكاتب الثاني في المابين للجناب العالي السلطاني لا زال ملحوظاً بالأنظار الخفية والجلية بكل غدوة وعشية، وله نظم رقيق ونثر بكل مدح حقيق، ومن نظمه تخميسه على قصيدة حسن أفندي البزار الموصلي في مدح السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره آمين وهي:
يا سادتي فضلكم في الصحف مكتوب ... وحبكم بلسان الشرع مندوب
والحمد لله أني فيه مسلوب ... قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب
والصبر عن قربكم للوجد مغلوب
ولست أبغي براحاً عن مودتكم ... حسبي أعدد خيلاً في عشيرتكم
وقد فنيت بكم من فيض همتكم ... لا أستفيق غراماً في محبتكم
وهل يضيق من الأشواق مسلوب
عسى بإسعافكم أستحصل الأملا ... فالصبر مر وفيكم للمحب حلا
كم ذا أقول وقيد البعد قد ثقلا ... يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا
تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب
لعل يوماً بلطف منهم يصلوا ... أسير هجر وحبل الوصل يتصل
فلا تحد عنهمو مهما بدت علل ... همو الأحبة إن صدوا وإن وصلوا
بل كل ما صنع الأحباب محبوب
والقصيدة طويلة ذكرها بتمامها صاحب العقود الجوهرية، وهي تدل على كمال صاحب الأصل والتخميس، والأصل مذكور بتمامه في ترجمة صاحبه توفي في الآستانة سنة ألف وثلاثمائة وعشر تقريباً.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
عبد القادر القدسي
(1827 ـ 1890م)
مولده ونشأته: هو المرحوم السيد عبد القادر بن تقي الدين بن محمد القدسي، انحدر من أصلاب أسرة عربية كريمة، عريقة في المجد والشرف، أنجبت أفذاذ الرجال في الماضي والحاضر، وأبرزهم في هذا العهد القائد الوطني المثالي والسياسي الحكيم دولة الدكتور السيد ناظم القدسي رئيس مجلس الأمة السوري، وهو حفيد شقيق صاحب هذه الترجمة الفذة.
بزغ نجم هذا المؤلف والشاعر العبقري والثائر البليغ في مدينة حلب سنة 1827م، ونشأ في ظلال العز والنعمة بكنف والده الذي كان نقيباً لأشرافها، وجده مفتيها، وقد عني يتثقيفه أعلام عصره، وتلقى العلوم العربية والتركية والفارسية وآدابها وتعمق حتى وقف على أسرارها اللغوية، فدانت لقريحته الفصاحة والبلاغة.
مراحل حياته: ولما بلغ أشده وتجلت مواهبه؛ تولى وظائف إدارية كبيرة، وسنة 1872م انتخب نائباً عن حلب في مجلس المبعوثين التركي، فاستقال لاعتبارات يعود أمر تقديرها إليه وتوجه إلى الأستانة، ولكن المجتمع الحلبي الذي كان يتوسم فيه الخير والإخلاص أبى إلا أن يمحضه ثقته، فأصر على انتخابه مرة ثانية، ولما أقفل السلطان عبد الحميد المجلس النيابي، واستبد بالسلطةالتشريعية؛ انتقاه ليكون الأمين الخامس في الباب العالي بعد أن ذاع صيته واشتهر أمره وشهد له أعلام الترك في الأستانة أنه أحد النوابغ الذين امتلكوا ناصية القريض والنثر في البليغ في آداب اللغتين العربية والتركية.
تنقلاته: وأبدى رغبته في التنقل، فأسندت إليه متصرفية حوران وكليبولي، وبعدها عين مفتشاً في وزارة العدلية، واختص بتفتيش القضاء في ولاية طرابزون، ثم ممثلاً للحكومة التركية في مصر، وأظهر في هذه المناصب الحساسة كل جدارة ونزاهة.
عودته إلى الباب العالي: وبدت الرغبة السامية بإعادته إلى العمل في الباب العالي، فاصطفاه السلطان عبد الحميد بعد تزكية من قبل الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي، فجعله أمين سره الثاني، ومن عرف أسرار الباب العالي في ذلك العهد الاستبداديأدرك حراجة هذا العربي المخلص لقوميته بين عناصر الشر في جو مليء بالدس والتجسس والحسد، ولكنه خاض رحاب المثل العليا بألمعيته ونبوغه وأخلاقه الفاضلة، وخرج من الباب العالي ليلقى وجه ربه بكرامة لائقة فائقة.
كان ذا عاطفة عامرة بالتفاني والإخلاص، لم ينحرف عن سيده السلطان الذي وثق به وائتمنه، ولم يعرف عنه أي ميل إلى التزلف في غاية أو مغنم، وكان ينبذ كل تدخل ووساطة تؤثر على وجدانه في سير العدالة الاجتماعية والنزاهة المعنوية.
صفاته: وبالرغم من منصبه الرفيع وما تمتع به من ثقة السلطان وعطفه فقد كان بعيداً عن آفة الغرور والحسد، محبًّا للخير، سديد الرأي، عزيز النفس، نبيلاً جسوراً مقداماً مهاباً، جليل القدر، وكان طموحه يبعد به كثيراً عن مستوى حساده على رفعة مراتبهم، فكم تنكروا له فأنكفؤوا خائبين.
صلاته مع العظماء: لقد كان للمرحوم السيد أبي الهدى الصيادي اليد الطولى في تقديمه للسلطان عبد الحميد والتعريف به لدى الكبراء والعظماء في الأستانة، ومن ذكائه اللماح أنه لما رأى الصيادي يعشق أدب الشاعر العربي الوجداني الشريف الرضي؛ انكب على دراسة شعره وحفظ ديوانه ليساجله ويطارحه الشعر في الحالات التي يضيق فيها المرء بالدنيا، فكان يجد في معاشرته جذلاً مبتهجاً، وهذا نوع من الوفاء قل مثيله بين البشر، وقد دامت المودة بين هذين القطبين العربيين حتى فرق الموت بينهما.
كرمه: من مواهبه سجية الكرم، فقد كان حاتمي المشرب ورمز الحمية والنجدة، فهو على وجوده في مركزه الرفيع في بسطة من الجاه في أكناف السلطان وأسرته الكريمة مات فقيراً مثقلاً بالديون التي حددت بخمسة آلاف ليرة ذهبية، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لذلك العهد، فأمر السلطان بوفاء ديونه من خزانته الخاصة، وهذا أكبر دليل على كرمه ونزاهته، فإنه لم يخن، ولا جنح إلى خيانة، ولا استثمر نفوذ وظيفته لجمع الأموال عن طريق التواطؤ مع الشركات وغيرها، كما اشتهر عن غيره ممن حسبوا للطوارئ حسابها، فأودعوا ما جنوه من مال حرام في المصارف الدولية.
أدبه: كان شاعراً وناثراً بليغاً، ذا قريحة فياضة وعاطفة عامرة بالإلهام وسمو البيان، فقد خدم أمته بلسانه وقلمه وعلمه وأنجدها بوطنيته وشهامته، وهو يعتبر من قادة الفكر والأدب، أنشأ في العربية والتركية مؤلفات نفيسة، منها المطبوع والمخطوط، وترجم الكثير من الكتب النادرة، منها كتاب (البرهان المؤيد) وهو مؤلف السيد أحمد الرفاعي الكبير إلى التركية، ورسالة (رحيق الكوثر) للرفاعي أيضاً، و(مجالس الأحمدية)، ونظم حلية الرسول الأعظم، وأبدع في هذه التراجم ببيانه السائغ المطبوع، فنالت شهرة واسعة، كل ذلك تودداً لفريد زمانه صديقه الصيادي الرفاعي.
شعره: لقد دانت لقريحته نواصي القريض وجادت بالنظم البديع، ومن شعره تخميسه قصيدة الشاعر ملا حسن الشهير بالبزاز، وهي طويلة، نقتطف منها بعض أبياتها، وقد أشاد فيها بما يكنه فؤاده من الحب والوفاء لصديقه الصيادي رحمهما الله:
ولست أبغي براحاً عن مودتكم
حسبي أعد دخيلاً في عشيرتكم
وقد منيت بكم منفيض همتكم
لا أستفيق غراماً في محبتكم
وهل يفيق من الأشواق مسلوب
عسى بإسعافكم أستحصل الأملا
فالصبر مر وفيكم للمحب حلا
كم ذا أقول وقيد البعد قد ثقلا
يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا
تجزع لذلك فبعض الهجر تأديب
وفاته: لقد بقي قائماً بمنصبه الرفيع في الباب العالي وهو أشد ما يكون في نشاطه وقوته، غير أن القدر أبى إلا أن يواجه السلطان بالواقع ويصدمه، فقد وافته المنية سنة 1890م، فارتاع سيده وندب شمائله الرضية ومواهبه الفذة، وقد شيع على نفقة السلطان بجنازة حافلة، ودفن في مقبرة (دركاه يحيى أفندي) في محلة بشكطاش بالأستانة، وتبارى الأتراك في رثاء من شهدوا له بالبلاغة والنبوغ الأدبي.
له ترجمة في الكتاب المرفق: أعلام الأدب والفن – لأدهم الجندي – الجزء 2. ص 23