نَسِيب عَرِيضَة
(1304 - 1365 هـ = 1887 - 1946 م)
نسيب بن أسعد عريضة:
شاعر أديب، من مؤسسي " الرابطة القلمية " في المهجر الأميركي. ولد في حمص، وتعلم بها، ثم بالمدرسة الروسية بالناصرة. وهاجر إلى نيويورك (سنة 1905) فأنشأ مجلة " الفنون " سنة 1913 وأغلقها. ثم أعادها، وأضاع في سبيلها ما يملك. وعمل في التجارة. ثم تولى تحرير " مرآة الغرب " الجريدة اليومية، فجريدة " الهدى " " وتوفي في مدينة بروكلن.
له " الأرواح الحائرة - ط " ديوان شعره، و " أسرار البلاط الروسي - ط " قصة مترجمة، و " ديك الجن الحمصي - ط " قصة نشرها في " مجموعة الرابطة القلمية " .
-الاعلام للزركلي-
شاعر البؤس والكرامة العبقري المرحوم نسيب عريضة الحمصي
إذا أراد الله السعادة لإنسان جعل ألسنة البشر تلهج باسمه ومحامد ذكره وجليل صفاته وعظيم مواهبه، هو شاعر مسهد القلب في أمانيه، معذب الروح في شعوره وحواسه، سابق الشهب بشهرته، ومات قبل أن يبلغ منتهى آماله وأحلامه، عبس الدهر بوجهه فمضت به الحياة في صراع وبؤس، فلم يستسلم للألم والقنوط، إنه من أولئك الشعراء التعساء الذين اعتاد الدهر أن يستهدفهم في محنه وآلامه منذ يبصرون النور حتى اليوم الذي يفارقون فيه الحياة آسفين، ولعمري فالحظ في الحياة شررٌ من نجوم السعادة وبرق يومض ثم يختفي، هو شاعر أمة أيقظ شعورها الوطني بسحر بيانه، فاح أريجه العبق الذكي فعطر الأجواء، فإذا كان الشعراء والأدباء هم الكواكب الساطعة في آفاق الأمم، فقد كان فقيدنا شاعر الوحي والإلهام، شاعر الوطنية والكرامة، البدر اللامع في ميدان النهضات الأدبية والسياسية، وسيظل اسمه ومآثره خالدة خلود شعره على قمم الدهر.
لقد درست تاريخ حياته فكان مليئاً بالمآسي والفواجع، نكبه الدهر في كل شيء ولم يستلب منه تواضعه ـ وكان سر عظمته ـ ولا كرامته ـ وهي سر حياته المجيدة ـ، لا أدري كيف أصف هذا الشاعر العبقري في نبوغه ومواهبه، وهو شاعر فذ لا يرى في كل ما نظمه شيئاً يذكر، وأديب ألمعي لا يودّ أن يقرأ الناس ما كتبه، هذا ما ذكره عن نفسه، ولكن الدهر الذي أرهقه بالعذاب والمناوأة يريد أن يخط تاريخه تخليداً لعبقريته ومواهبه، وهذه سيرة حياته، وهي تمزّق القلوب أسًى وحزناً وحرية بأن يكون مدادها دم الأجفان.
أصله ونشأته: بزغ نجم الفقيد المرحوم نسيب بن أسعد عريضة في مدينة حمص سنة 1888م، وأسرته عريقة القدم، اشتهرت بالنبل والمحامد، درس في المدرسة الأرثوذكسية واكتسب من مواهب الأستاذ النابغة المرحوم داود قسطنطين الخوري، هاجر إلى أمريكا الشمالية سنة 1905م، وزاول الأدب والنظم فأتى بمعجزات من قوافي الشعر الرفيع الخالد، كان رئيساً لتحرير مجلتي الفنون ومرآة الغرب، ودبّج يراعه فيهما ما جادت به قريحته الوقادة من منظومات ومحاضرات أدبية تشهد له بالنبوغ وأنه في طليعة الشعراء والناثرين.
شعره: تتجلى في روح شعره براعة الاختيار وروعة الخيال، انبثقت شاعريته عن معين لا ينضب من البيان والبديع، فكان في حسن تصويره الوقائع شاعراً ملهماً يهز النفوس ويوقظ الحواس والمشاعر.
كان رحمه الله مثاليًّا في عزة نفسه وشممه، لا يحتمل منة مخلوق، ولم يتخذ الشعر وسيلة لتحقيق أمانيه، فإذا مدح إنساناً كان صادقاً في عقيدة مدحه، لقد تجلت عبقريته بإحساس غريب في إسداء الخير للناس، وكانت نفسه الوثابة تتغلب على آلامه النفسانية فلم يفقد سكينة صبره ولا فارقته فكاهته، فقد روض نفسه على الرضا بالأمر الواقع، وكانت عاطفته المتوهجة ميزة ظاهرة نسقتها عبقريته الشعرية في إطار من الخيال الرفيع.
وكانت طريقة قرضه الشعر وروعة مغزاها ومعناها عاملاً في ظهور عظمته، فإذا تجاوبت اللمحات الفكرية في خياله اختار منها أعذب المعاني والقوافي تأثيراً على النفوس، فترى في كل شطر من قصائده روائع الإلهام والإبداع في الوصف، يقذفها كالدر النفيس فيتغلغل مغزاها ومعناها في أعماق الأرواح.
أوصافه: لقد طغت آية النبل على شمائله الفريدة، وسخت عليه الطبيعة فحبته بالوقار المطبوع والمهابة الأصيلة، لا أثر لمظاهر الاستعلاء في نفسه، جمع إلى حدة الذهن وذكاء القريحة رباطة الجأش وسعة الصدر، إلى وسامة الوجه وإشراق الجبين كالبدر المنير، له عينان نضاختان بالسحر والذكاء، وفيهما عبقرية لا يستطاع سبر غورها وترجمتها بالألفاظ.
وفاته: لقد تعذر على أقرب الناس إلى الفقيد تحديد تاريخ وفاته، والمعروف أنه انتقل إلى رحمة ربه وهو في الثانية والخمسين من عمره، فتكون وفاته وقعت في سنة 1940م؛ لأنه لحق بأستاذه المرحوم داود قسطنطين الخوري بعد اشتراكه بحفلة تأبينه في سنة 1939م، لقد كان متشائماً في حياته، وتزوج ولم يعقب ولداً، وكأنه شعر بدنو أجله فقال:
ألا فاكتبوا فوق قبري | قضى عمره وليس يدري |
وقال:
كم قطعت الأيام في طرب | هازئاً والحياة تهزأ بي |
حاسباً أن لي بها أربا | وهي كانت تفوز بالأرب |
وتجاوز اليأس حد القنوط في حياته المريرة فقال:
أقيموا على قبري إذا مت دمية | بها رمز عيشي بعد موتي يعرض |
يدان بلا جسم من الصخر عادتا | إلى حيث كان الجسم يهوى ويبغض |
فيمناهما مبسوطة تشحذ الجدا | لتشبع جوع النفس والجوع يرفض |
ويسراهما فيها فؤاد مضرج | تقدمه للناس والناس تعرض |
ورثى أستاذه الشاعر العبقري المرحوم داود قسطنطين الخوري بقصيدة بليغة تفيض حبًّا ووفاء واعترافاً بفضائله، فقال:
سار في موكب الحياة يغني | منشداً من فنونه كل لحن |
آخذاً من حياته كل حسن | مانحاً من هباته دون من |
شاعر عنده الحياة نشيد | |
من جنان العاصي جنى الإلهاما | من نسيماتها استطاب المداما |
صاغ من هيثماتها أنغاما | فرأى الدهر عبقريًّا إماما |
أريحيًّا بما لديه يجود |
ومنها:
وسمت من جوار حمص مواكب | سائرات إلى العلى والرغائب |
حاملات من نور (داود) ثاقب | مظهراً ما في روعها من مواهب |
تتجارى إلى رضاها الوعود | |
ولها من أنغام داود حادٍ | ولها من علوم داود هاد |
حافظات له خلال البعاد | عهد حب والذكر ملء الفؤاد |
عهد داود كنزها المرصود |
ومنها:
وليالي داود ليست تعود | والمغنّي رهن البلى والعود |
هكذا سنة الخلود تريد | كلما اخضر برعم جفّ عود |
فعليك السلام يا داود |
أنظر كامل الترجمة في كتاب أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 105 - 108.