عبد القادر الحمصي
مقرئ ، فاضل ، أديب . عبد القادر بن سعيد ، الحمصي ، البصير ، الحافظ . كان يقرأ في المآتم والمناسبات ، له فطنة وذكاء ، وذهن ثاقب .
صنف مولدا نبويا عريبا نحا به نحو مذهب الصوفية أوله : « الحمد لله الذي أظهر من باطن خفاء عماء ليل هويته الأحمدية ، مطالع أنوار فجر صبح حضرة الحقيقة المحمدية ... » وقد اشتهر هذا المولد في دمشق ، وحفظه كثيرون ، وصاروا يقرؤونه في المناسبات والحفلات .
من كتاب تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة.
يوجد له ترجمة أوسع في الكتاب.
وفيما يلي نص المولد النبوي الشريف المذكور أعلاه:
الحزب الأول
الحمد لله الذي أظهر من باطن خفاء عماء ليل هوية الأحدية، مطالع أنوار فجر صبح حضرة الحقيقة المحمدية، ثم سلح منها جميع العالم، فكانت للأشياء في نسابة آدم، فرفع بها ووضع، وفرق وجمع، وقرب وأبعد، وأشقى وأسعد، فهي كلمة الفصل التي لم تزل راجعة للأصل، ونقطة الشكل التي بها سر الوصل، ونون الكاف عند أهل الأعراف، قديمة في العلم، حادثة في الجسم، معناها الوجود، ومجلاها الحدود، سارية في الأزمان، كالشمس في الأكوان، تعدل ما يكون وما كان، مكة الأزل دارها، ومدينة الأبد قرارها، خلاصة العبارة التي نطقت بها الإشارة مباركة عربية، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار عند أهل البصائر لا الأبصار، مصانة عن سواه، في حضرة من براه. ولولا نور الرداء، لظهر سر الخفاء، فحماها الكمال، من توضيح علم المآل، فوضعته بالرمز، بأنها برزت من الكنز. ولما حكمت الرسالة واقترن الاسم بالجلالة، وأشرق القمر على صورة البشر، ناداه القبول، يا أيها الرسول، فأقام الدليل، وأوضح السبيل، وأعلن بكلمة التوحيد، فبان الشقي من السعيد فأرسلت العين تفيد إلى الثقلين، على لسان الأمين، بحق اليقين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، صلوا عليه.
الحزب الثاني
فسبحان من خص المختار ﷺ بهذا المقدار، وأطلع آل تلك الدار على هذه الأسرار، فهو ﷺ الكلمة التامة، والرحمة العامة المحيطة بكل صامت وناطق، المحمولة على سفينة ضمنها جميع الخلائق، ليس بشريك ولا ند، بل رسول عبد، في حضرة قاب قوسين أصل غينه عين، وهو الجامع بين الاثنين، شمس ذاته لا تكسف وقمر صفاته لا يخسف المسلمون تحت لوائه المعقود، والمؤمنون على حوضه المورود، والمحسنون من مقامه المحمود وسيلة الوسائل الخلقية، وفضيلة المقاصد الحقية، والدرجة الرفيعة الدنيوية والأخروية، مأوى العارفين في قرار التبيان، ودار سلام السائرين إلى نعيم العرفان وخلود المحققين في عدن الصفا، وفردوس المشاهدين في حظيرة قدس الاصطفا، كوثر الشاربين صدقاً، وتسنيم المقربين حقاً، وسلسبيل الذائقين معرفة وعشقاً، بحر كون لا إله إلا الله، وعين يشرب بها عباد الله، كافور أرواح المحققين، وزنجبيل أشباح المصدقين، شجرة طوبى الأعمال، وسدرة منتهى الآمال ونضرة سرور الحال والمآل. ومذ تعلق الشأن ببدائع الإمكان، افتتح كتاب الوجود، بنور المحمود، فكان أول من تعين، في أصل ما تبين فأعلن بلبيك، منك وإليك. فحفت العناية بنزول الآية مع روح السماء، لجلاء العماء، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}[الأنفال:17]، صلوا عليه.
الحزب الثالث
فهو ﷺ على الله دليل، وإلى الرحمن خليل، وبالرحيم عالم، وللملك خاتم حاكم بالقدوس، سلام للنفوس مرآة المؤمن، نوره المهيمن، أعزه العزيز بعزته، وقلده الجبار بسطوته، وألبسه رداء العظمة المتكبر، لأنه خيرة الخالق ونعمة البارىء، وصفوة المصور. غفر له الغفَّارُ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقهر به القهار كل من أدبر واستكبر. وهبه الوهاب الشفاعة، ورزقه الرزاق القناعة، وفتح له الفتاح باب العطاء، فعلم بالعليم علم جميع الأشياء، فصار ﷺ بالقابض ترقيه، وبالباسط تدليه، خفض له الخافض كل المقامات الرفيعة، ورفعه الرافع على المرسلين جميعاً. بلغ بالمعز منار العلا وسار بالمذل إلى لا حول ولا؛ فكان ﷺ بالسميع البصير يسمع ويبصر، وبالحكم العدل يحذر وينذر حفه اللطيف بالإحسان، وأطلعه الخبير على ما في الأكوان. حياه الحليم بالخلق العظيم، فبشر بالغفور البرية، وقام بالشكور في وظائف العبودية، فرفع العلي مكانه وعظم الكبير شأنه، وحفظه الحفيظ بحفظ (إذا نامت عيناي فلا ينام قلبي)، وأقاته المقيت بقوت (أبيت عند ربي). إحتسب بالحسيب عن الأغيار، فخلع عليه الجليل خلعة الوقار، وأكرمه الكريم بدوام المشاهدة وأدناه، وعصمه الرقيب من الأعداء وحماه، والمجيب أجاب دعاءه ونداه، فعرف بالواسع حقائق الفروع والأصول، وكلم بالحكيم الناس على قدر العقول. ألف بالودود بين العالم، وأشار بالمجيد (أنا سيد ولد آدم). أرسله الباعث رحمة للعالمين، وأشهده الشهيد على جميع المرسلين، فدعا إلى الله بالحق على بصيرة، وكان بالوكيل على أحسن سيرة وأطيب سريرة، صلوا عليه.
الحزب الرابع
المحصي لشؤون المبدىء المعيد، فاستيقظ بالمحيي المميت لمرتبة الخلق الجديد. أحياء الحي بالحياة الأبدية، فقام بالقيوم لإرشاد البرية، ودام بالواجد يثني على الماجد حتى شهد الواحد في وجوده، والأحد في سجوده. فهو ﷺ فرد الوجود، ونور الصمد الذي لم يزل عند العارفين المشهود. أيده القادر بقدرته، فأقام الدين، والمقتدر بسطوته فانتصر على الكافرين. قدمه المقدم على جميع البشر، وأخر المؤخر أعداءه فَوَلَّوْا إلى سفر. فهو ﷺ بالأول أول، وبالآخر عليه المعول؛ قدس بالظاهر الظواهر، وبالباطن السرائر، خاطبه الوالي (فإنك بأعيننا)، وقال بشهود المتعالي لصاحبه (لا تحزن إن الله معنا) أبره البار بالوسيلة، وفتح به التواب باب التوبة فهي لأمته نعمة جزيلة، أنعم عليه المنعم بالقرآن، فهدم بالمنتقم سور الطغيان، سماه العفو بالرؤوف لرحمة قلبه، وأشهده مالك الملك ذو الجلال والإكرام مفاتيح غيبه، فبين بالمقسط الأحكام، ورفع بالجامع الأوهام. أغناه الغني بمشاهدته عن السوى وزكاه المغني بقوله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]. أعطاه المعطي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنعه المانع من إفشاء سر القدر. آمنه الضار بآية {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}[الرعد:11]، ونفعه النافع بأن رفع عن أمته تجليات مسخه وخسفه. فهو ﷺ نور النور القديم، والهادي إلى الصراط المستقيم بالبديع بديع الذات والصفات. وبالباقي الممد لجميع المخلوقات. أورثنا الوارث به الكتاب المبين، فأرشدنا بالرشيد إلى مراتب اليقين. اللهم إنا نسألك بصبره يا صبور، أن تجعلنا من أهل الحضور، وأن توصلنا بأسمائك الحسنى إليه، وأن تجمعنا في الدنيا والآخرة مع مشاهدتك عليه. صلوا عليه.
الحزب الخامس
هذا وإن نسب المختار ﷺ رفيع، وجاهه عريض منيع، فهو ﷺ محمد بن عبد الله الذبيح، ابن عبد المطلب بن هاشم الرجيح، ابن عبد مناف بن قصي بن حكيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس صاحب النهي والأمر، ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، نسب صاحب الشريعة والتبيان ومذ تعلقت الإرادة القديمة الأقدسية ببروز جوهرة كنز الحضرة الخفائية لطلوع فجر الأسماء والصفات، وإشراق صبح طلعة الذات، انسلخ من ليل الأزل نهار الأبد، وأشرقت شمس التكوين في الوجود فوحد الواحد الأحد. فظهرت شؤون الألوهية، ونفذت أحكام الربوبية، وأسفر جلال العزة عن جمال العظمة، واستوى الرحمن على العرش فأسبغ على مظاهره نعمه، وسرى سر القيومية في الأكوان، فأتم نظامها بتكوين الإنسان، فكان آدم عليه السلام المشهود، ومحمد ﷺ المقصود، وعند وجود التكاثر، وقع التحابب والتنافر؛ فجاء التنبيه لأهل التنزيه والتشبيه، من الكاف والنون، عن سير الغيب المكنون، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون}[البقرة:156]، صلوا عليه.
الحزب السادس
ثم لما صدرت بالظهور الإرادة، ولبس الكون حلة السعادة، والتقطت صدفة آمنة الدهر، جوهرة النهي والأمر، تكلل وجه الزمان بالفرح، واتَّسع صدرُ الأَوانِ وانشرح بقدوم يوم الدين، وقامت قيامة المشركين، فذبح يحيى العلوم اذدوقية كبش الجهل ونسخت براهين المشاهد الحقية شريعة العقل، ووقع التسليم، في جميع الأقاليم. وانفتحت أبواب جنات الشهود، وسرت عين الحياة في الوجود، ونطقت دواب نفوس ذاك العالم، وقالت: أثمرت والله شجرة آدم، واستأنست وحوش إيجاش بر الإنسان، واطمأنت حيتان بحور القلب والجنان، وبشر بعضها بعضاً بالحال، وبتحويل المشهد للكمال. وأصبح كل ملك من ملوك النفس الأمارة أخرس، وسريره منكس، ونادى ملك الإلهام في عالم الملك والملكوت إن الوجود تقدس، وإن الصبح تنفس، وإن السلك للسالك، والملك للمالك، فقد أشرقت شمس الكمال، فلا أفول ولا زوال، {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}[البقرة:281] فقد آن ظهور رسول الله، من له حاجة فليسأل الله.
هذا محل دعاء
وأرسل الله رياح الطلق بشرى بين يدي رحمته، ولمعت بوارق شريعة محمد وطلعته، وسمعت آمنة القلب ما أزعجها، فجاء طائر الأمن فأبهجها، ثم التفتت إلى جهة اليمين، وإذا هي بقدح من حق اليقين، ملآن من لبن المعارف، فشربته وزالت عنها الرواجف. وجاءت مريم الحقيقية، وآسية النفس المرضية، والحور العين الإلهامات الروحية، ومد ديباج العقل الأبيض بين الأرض والسماء، فتميزت به جميع الأشياء ووقفت في الهواء موارد المعارف، بأباريق العوارف من فضة نقاء المواهب اللدنية مملوءة من عطر معاني الحقائق الذوقية لتطييب الوجود، واستقبال ذلك المولود. وجاءت رسل البشائر على صفة الطيور، مناقيرها زمرد السرور، وأجنحتها ياقوت الظهور وكشف الله عن بصر آمنة الوهم، فرأت ما يُحير الفهم، ثم رأت من اسم العلام، ثلاثة من الأعلام، علماً في المشرق أزهر، وعلماً في المغرب أنور، وعلماً على البيت العتيق المطهر، إشارة بأن نبوته ﷺ شرقية، وولايته غربية، ورسالته عامة لجميع البرية، والثلاثة مجموعات في ذاك المظهر، والله أعز وأكبر. فعند ذلك سطعت الأنوار، وأشرقت الأقطار، ورفعت الأستار، وولد النبي المختار ﷺ صاحب الجلال والوقار.