مُشَاقَة
(1214 - 1305 هـ = 1800 - 1888 م)
ميخائيل بن جرجس بن إبراهيم بن جرجس بن يوسف بتراكي مشاقة:
طبيب. ولد في قرية (رشميا) بلبنان، ورحل إلى دمياط، فاشتغل بالتجارة، وعاد فسكن (دير القمر) بلبنان (سنة 1820) وأقامه الأمير بشير الشهابي بعد بضع سنين مديرا عند أمراء حاصبيا.
وأولع بصناعة الطب فرحل إلى القاهرة (سنة 1845) ولازم مدرسة (قصر العيني) وأخذ شهادتها. وعاد إلى دمشق، فجعل فيها (نائب قنصل) للولايات المتحدة (سنة 1859) .
وصنف 14 كتابا، منها 7 جدلية مطبوعة، أكثر أبحاثها كنائسية، و (الرسالة الشهابية في الموسيقى - ط) و (مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان - ط) وكان اسمه (الجواب على اقتراح الأحباب) فغيره الناشر، و (التحفة المشاقية) مطول في الحساب، و (المعين على حساب الأيام والأشهر والسنين) وتوفي بدمشق .
-الاعلام للزركلي-
الدكتور ميخائيل مشاقة
الدكتور ميخائيل مشاقة 1800 – 1888م.
هو من أفراد القرن التاسع عشر، ونابغة من نوابغه ذكاء وفطنة وهمة، ولد في قرية رشميا من أعمال جبل لبنان، من عائلة ذات نسب جليل يتصل بيوسف بتراكي الذي هو جد جد صاحب الترجمة، وأصله من كورفو ببلاد اليونان، ولقب بمشاقة لاحترافه تجارة مشاقة الحرير، وكان والده جرجس في بلاط الأمير بشير الشهابي الكبير أمير جبل لبنان إذ ذاك، ومن المقربين منه، فنقل بيته إلى دير القمر مركز الإمارة ليكون قريبا من مكان عمله.
وكان ميخائيل نبيها ذكيا متوقد الذهن، فتمكن من القراءة في مدة وجيزة، وكان له ميل طبيعي إلى الرياضيات، فتلقن الحساب البسيط عن أبيه، ثم تعلم مسك الدفاتر.
وكان على صغر سنه يجالس كبار القوم ويستفيد من أحاديثهم، فسمع من يهود دير القمر أنهم يعرفون أوان الخسوف والكسوف قبل حدوثهما، فمال إلى استطلاع كيفية ذلك فلم يستطع، فازداد قلقه، وكان يعتقد مثل اعتقاد أكثر أهل تلك الأيام من أن علم الفلك ينبئ صاحبه بالغيب.
وفي سنة 1714م قدم بطرس النحوي خال صاحب الترجمة من دمياط إلى دير القمر، وكان بارعا في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية والطبيعية، فانتهز ميخائيل تلك الفرصة وطلب إلى خاله أن يدرسه علم الفلك، فسر بطلبه وأخذ يدرسه باجتهاد، فاكتسب منه جانبا كبيرا بمدة قصيرة، فأحبه خاله محبة شديدة، وأعجب بذكائه وفطنه.
وفي سنة 1817م ذهب ميخائيل إلى دمياط وتعين كاتبا في محل عمه هناك، وكان كبير النفس لا يقنع بأقل من الاستقلال، فما لبث زمنا حتى تعاطى التجارة بنفسه، واكتسب ثروة صغيرة واتفق أنه طالع سنة 1818م كتاب سياحة الفيلسوف فولني وآراءه، فوقع في حالة التردد من أمر الدين، وصار ذلك شاغلا لأفكاره.
ومن غريب أخلاقه وحميدها أنه لم يكن يرى شيئا أو يسمع به إلا أحب استطلاع كنهه، وكانت له ثقة تامة بقواه العقلية؛ ولذلك كان يعتقد أنه يقدر أن يتعلم كل ما يريده.
ويحكى أنه حضر عرسا في مدينة دمياط كانت تصدح فيه الموسيقى، فسأله أحد الحاضرين عن لحن هل يعرفه، فأظهر البعض الآخر استخفافا به لأنه لا يعرف الألحان، فثارت في رأسه الحمية، وعزم من تلك الساعة أن يدرس فن الموسيقى، ففعل وتمكن منه، حتى ألف فيه رسالة بديعة بعد أن أتقن الضرب على سائر آلاته.
وفي سنة 1820م ظهر في دمياط وباء الطاعون، فرجع ميخائيل إلى دير القمر وهو لا يفتر عن المطالعة، وكان يطالع الجبر والمقابلة بنفسه.
وبعد ذلك انتدبه الأمير بشير الكبير ليكون مدبرا عند أمراء حاصبيا، فأكرموا مثواه ووهبوه بقاعا واسعة في جهات الحولة ونهر اللدان وقرية في قضاء القنيطرة؛ وهذا يدلنا على مقدار ما كان من إعجابهم به وبأعماله، ولكنه أصيب بمرض سنة 1828م فاضطر لأن يعود إلى دير القمر للمعالجة، فتعالج خمسة أشهر كان في أثنائها يلاحظ العلاج الذي كان يتناوله، ويود لو أنه يعرف صناعة الطب جريًا على طبيعته - كما قدمنا، فحالما نقه من مرضه عكف على مطالعة ما وصلت إليه يداه من الكتب الطبية حتى فهم أكثرها، ولكنه عجز عن إدراك كثير من مصطلحاتها، وكان المتقدم ذكره قد عاد إلى دير القمر فأفهمه إياها، واستعان أيضا بطبيب آخر إيطالي كان هناك.
وفي سنة 1831م جاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير بجنوده لافتتاح عكا، وكان بينه وبين الأمير بشير تحالف، فجاء الأمير لمعاضدته في ذلك الحصار، وقدم ميخائيل مشاقة برفقة الأمير؛ ومن ثم انضم إلى الجنود المصرية ورافقها إلى دمشق وحمص يطبب جرحاها والمصابين بالكوليرا (الهواء الأصفر)، ثم رجع إلى دير القمر، وقد لحقه بسبب حروب إبراهيم باشا خسائر جسيمة مالية، حتى اضطر للتطبيب بالأجرة، وكان قبل ذلك يطبب مجانا، ونزح إلى دمشق وأقام فيها، واغتنم وجود الدكتور كلوت بك الشهير هناك مع الحملة المصرية، فطالع ما نقصه من الطب عليه، فتمكن من تلك المهنة حتى ولته الحكومة رئاسة أطباء دمشق.
ولم يكن يقنع بعلم دون آخر، فلما تمكن من الطب طلبت نفسه شيئًا آخر، فدرس المنطق وتوسع فيه، وعندما خرجت الجنود المصرية من سوريا تعين مترجما للسير وود الذي أرسل قنصلا لدولة إنكلترا في دمشق.
وفي سنة 1846م قدم الديار المصرية وواظب على ممارسة العمليات الجراحية في مدرسة قصر العيني حتى نال الدبلوما الطبية مع لقب دكتور، ثم عاد إلى دمشق، وتحركت أفكاره في أثناء ذلك حركة دينية، فجعل يتردد بين الديانة المسيحية وما ذهب إليه فولتير حتى وقع على كتاب البينة الجلية، فأخذ يراجع فيه وفي غيره لعله يهتدي إلى ما يريح ضميره من التردد، ثم أخذ يطالع كتبا جدلية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت، وجرى بينه وبين البطريرك مكسيموس مظلوم إذ ذاك مجادلات طويلة انتهت بانحيازه إلى طائفة البروتستانت، وصار من أكبر المدافعين عنها وعن تعاليمها تكلما وكتابة.
وفي سنة 1859م تعين فيس قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق، وفي السنة التالية كانت الثورة المشهورة، بل المذبحة المعلومة في دمشق وغيرها من سوريا، فأصاب الدكتور مشاقة جراح كثيرة، ولولا مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري ما نجا من القتل، ولكنه تمكن بمساعدته من الالتجاء إلى مكان طبب فيه جراحه حتى شفي.
وبقي هذا الرجل عاملا في الطب والسياسة والديانة والفقه والحساب وسائر أنواع العلوم حتى كانت سنة 1870م، فأصيب بفالج بجانبه الأيمن، فانقطع عن أشغال القنصلية، فأحيلت لولده نصيف بك.
أما هو فلم ينفك عن العمل في بيته، ولم يكن يخلو منزله من الزائرين على اختلاف الأجناس والطبقات لمشاهدته وتحقق ما سمعوه عنه، وقد أتيح لنا الحظ بزيارته سنة 1883م في منزله بدمشق، فإذا به رجل ذو هيبة ووقار يجلله الشيب، يلبس العمامة والجبة، طويل القامة، كبير الجثة، لطيف الحديث، واسع الاطلاع، كثير الترحيب بزائريه كسائر أهل دمشق، وقد اطلعنا على كثير مما كتبه ولم يطبعه من المؤلفات، وفي جملة ذلك رسالة في الألحان الموسيقية العربية، ومطول في الحساب والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين، مذيل بجداول لمدة مائة سنة تحتوي على مطابقة أيام الشهور العربية والرومية والقبطية والعبرانية والهجرية، ومواقع كسوف الشمس والقمر لطول دمشق وعرضها، وغيرها.
أما الكتب التي طبعت من مؤلفاته فأكثرها ديني جدلي، وفي جملتها كتاب سماه البرهان على ضعف الإنسان، جوابا لصديق له كان تابعا لتعاليم فولتير، وقد طبعت مجلة المشرق رسالته في الصناعة الموسيقية.
ومن مؤلفاته (الجواب على اقتراح الأحباب)، وفيه ترجمة أسرته وحوادث أيامه، قد طبع مؤخرا باسم (مشهد العيان).
وكانت وفاته في السادس من شهر يوليو (تموز) سنة 1888م في دمشق الشام، وله من العمر تسع وثمانون سنة، قضاها في العمل والاجتهاد وخدمة بني الإنسان.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 195 – 198.