السيد زاهد أفندي بن السيد محمد نجيب بن موسى الحسيني العمري الشهير بالالثي
أديب للبديع من القول منسوب، وأريب بألف من ذوي البدائع محسوب، وإن تكلم أزرى كلامه بعقود الجمان، أو تكمل قلت هذا ملك في صورة إنسان، تتستر الملاحة في غلائله، وتتقطر الرجاحة من شمائله، تمسح خلاله قذى العيون، فما تراه إلا وهي نقية الجفون، وطلعه كالروض صقلت يد الصبا ديباجة وجهه الوسيم، وتلقت النفوس قبوله تلقي النشوان برد النسيم، غرائب أحاديثه زاد النفوس وَقُرَطُ الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع، تفعل بالألباب فعل بنات الدنان، وما السحر لعمري إلا سحر ذلك البيان، فلله دره من همام وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في نقوش البراعة، قد اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من عالي الإرب إلى أقص حده، للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع، وله حسب طرَّزكُمّ الأحساب، ونسب تباهت بنسبته الأنساب، ألا وإن القلوب أجمع، قد جبلت على محبته، فلم يكن لها في سواه مطمع، فلذلك كان مقره من العين السواد، ومحله من القلب حبة الفؤاد.
ولد في رجب الفرد، وكان الطالع طالع اليمن السعد، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، من هجرة سيد الخلق النبي الأمين، ونشأ في حجر والده فلما بلغ سن التمييز، أرسل به إلى المؤدب لتعلم القرآن العزيز، ثم بعد أن أتمه وأتقن آدابه، أخذ في إتقان الخط والكتابة، ثم أكب على الطلب والتحصيل، فلازم الأساتذة ملازمة المدلول الدليل، إلى أن بلغ مطلوبه، وحصل مراده ومرغوبه، من كل علم رفيع، وفن بديع:
همام علا في الورى قدره ... إلى غاية جل أن توصفا
فتىً قد تأثل من دوحة ... سمت في سما المجد والاصطفا
وإن بيني وبينه من الوفاق، ما انعقد على إحكامه الاتفاق، ومن المخاطبات الرقيقة، والمراجعات الأنيقة، ما يزري بلطف النسيم، ويشغل الصب عن الوسيم، ولا يستغرب ما بيننا من كامل المحبة والوداد، لأن هذا الاتفاق موروث عن الآباء والأجداد، وإنه له نظم رقيق، ونثر بديع أنيق، وحافظة تميل إلى الصواب، ولافظة أعذب من عود الشيوخ إلى الشباب، وقد حضر شيوخ عصره، الكائنين في بلدته ومصره، كالشيخ هاشم البعلي، والشيخ عبد الله الحلبي، والشيخ محمد الطنطاوي، وتفقه في مذهب الإمام أبي حنيفة، وجلس في نيابة محاكم الشام الشرعية مدة طويلة، وجلس في محكمة الباب باشكاتب القسمة.
وفي عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر توجه إلى محروسة الآستانة ونزل عند الشهم المحترم أحمد عزت بك بن المرحوم هولو باشا، وكان وقتئذ الكاتب الثاني في المابين ومبلغ الإرادة السلطانية، فاجله واحترمه لصداقة قديمة بينهما، ومكث عنده نحواً من ستة أشهر على الرحب والسعة، واستحصل له في هذه المدة على معاش كل شهر عشر ليرات عثمانية، وعلى نيابة قضاء دوما. وغب حضوره إلى الشام ذهب إلى محل نيابته، وذلك في غرة جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة، وكان في مدة نيابته حسن السيرة، ممدوح السريرة، لم يسمع عنه ميل إلى باطل، ولا تفرقة في الحق ما بين عالم وجاهل، ولا رشوة وإن جل قدرها، ولا تعصب لقضية وإن كان من الأعاظم أهلها، وكان يهوى قبل المرافعة إجراء المصالحة، وعدم المشاحنة والمشاححة، فإذا لم يتمكن بذل وسعه في مصادقة الحق ومجانبة الباطل، ولا يحكم إلا بعد النظر والتحري ومراجعة كتب الأفاضل، وعلى كل حال فمناقبه كثيرة، وبدائهه وبدائعه شهيرة، بأنواع المديح جديرة، ثم أنه بعد تمام نيابته في دوما جلس عضواً في مجلس استئناف الجزاء في العادلية، وفي أثنائها ذهب إلى الآستانة فوجهت عليه نيابة بعلبك، ولم يمض عليه بها مدة إلا ومرض فحضر إلى الشام ولم يزل مريضاً إلى أن اختارته المنية في شعبان سنة ألف وثلاثمائة وعشرين ودفن في تربة باب الصغير رحمه الله تعالى.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.