الشيخ الفاضل راشد بن علي النعامي الحنبلي من آل جريس
عالم ناقد، متَّبع ماجد، ذو يد طولى في علم القرآن والحديث، مقتد بالسلف الصالح في كل أمر قديم وحديث، معتصم بالسنّة الصحيحة والقرآن، عامل بما فيهما مذعن لهما كمال الإذعان، وله في ذلك كتب ورسائل، دالة على أنه مجتهد بسائر الفروع والمسائل، وفقنا الله وإياه للصواب، وفتح لنا وله للوصول إلى ما يرضيه أحسن باب، إنه محسن كريم وهاب، توفي في أوائل القرن الثالث عشر.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
الشيخُ، الفاضلُ، راشد (له تأليف، المسمى: "مُثِير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" طبع في القاهرة سنة 1379 هـ، 48 صفحة، وبه مقدمة الناشر، صديقنا ومعاصرنا، الأستاذ محب الدين الخطيب، وأضاف إليها ترجمة الشيخ راشد - رحمه الله - التي تحتوي على 27 سطرًا، بقلم محبنا الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، لخصها من هذا الكتاب، أعني: "التاج المكلل"، ولكن مؤلف الكتاب المذكور، لم يذكر هذه الرسالة، لعله لم يوفق بالعثور عليها.) بن علي، الحنبليُّ، النعاميُّ، من آل جريس.
عالم ناقد، مُتَّبِعٌ ماجد، ذو يد طولى في علم القرآن والحديث، مقتدٍ بالسلف الصالح في كل أمر قديم وحديث، لم أره ولم يرني، ولم أعرفه ولم يعرفني، بيد أنه راسلني منذ شهر صفر سنة 1298، ثمان وتسعين بعد الألف والمئتين من إسلامبول، وذكر أنه من قطر نجد، ومولده النعام، وموطنه الشريف ذاك المقام، وظهر لي من مهارقه الشريفة: أنه ذو علم نافع، وفَهم لامع، وفضل ساطع، يقتدي بالسنة الصحيحة والقرآن، ولا يقلد أحدًا من الأحبار والرهبان، له شغلة وافية بالتفسير، وهمة عالية في درك الحقائق من حديث البشير والنذير، يلوح من كتبه أنوار الفضيلة والاستقامة، وأنه من أهل المجد والكرامة - حفظه الله، وأحله يوم القيامة في دار المقامة -.
وقد طلبت منه الترجمة للتحرير في هذا الكتاب، كما طلب مني جملة صالحة من مؤلفاتي التي أحسن الظنون بها أولو الألباب، واستجازني، فأتحفته بتفسيري "فتح البيان"، وكتابي "إكليل الكرامة"، و"ظفر اللاضي"، وغير ذلك مما كان هنالك، وأجزته، وكتب إليّ خطًا جوابًا على طلبي لترجمته الشريفة، فوددت أن أثبت تلك الخطوط مرتبًا مع إجازتي له؛ إشاعةً لآدابه في مطاوي كتابه، وإذاعة لعلو همته في أسوة السنة السنية، الظاهرة الواضحة من مراسلاته البهية، وهذا يرشدك إلى أن الدنيا - وإن كانت ملئت بالجور والمظلمة، والآفات والملحمة -، ولكن فيها من خبايا في زوايا، ومن العلم والدين، وحب التقوى وإيثار الحق على الخلق، وترك التقليد، وقوة اليقين بقايا، وسمعت أنه ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو على ذلك أينما كان وعند من كان قائم ودائم، وعن مفطرات الديانة والأمانة والتقاوة صائم، كَثَّر الله في الزمان من أمثاله، وصانه عن تبعات الزمن وأهواله.
وهذا الخط، وهو خطه الأخير، الذي جاءني منه عند بلوغ هذا المختصر إلى هذا الموضع، فذكرته أولاً، وسائرها آخرًا، قال - حفظه الله تعالى -:
[1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى حضرة جمال الدنيا والدين، حاملِ لواء سنة سيد المرسلين، وجوهرة عقد العلماء المحققين، الدالِّ على منهاج المتقين، شيخِ الإسلام والمسلمين، الذي شهدت مساعيه بفضله، فصدق أقوالَه السنيةَ بشريف فعله، شيخنا الإمام، وقدوتنا في حِنْدِس الظلام، نخبة آل الرسول، وابن الزهراء البتول، مجدد آثار العلوم الدارسة، وموضح معاني كتاب الله، حتى لا يمتري فيه دارسُه، سلطان أهل الحديث، فلا أحد ينافُسه، حسنة الدهر على الأنام، الذي أشرقت بشمس طلعته الليالي والأيام.
الشيخ العالم بعلل أقوال الرجال، فلم يبق للمشبهين مجال.
السيد الأجل، والسند الأكمل محمد صديق حسن خان المحترم، لا زالت أيامه بطاعة الله معمورة، وصفاته في الملأ مذكورة، آمين.
سلام عليكم، عددَ شوقنا إليكم، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فبينما نترقب لتشريف جوابكم البهي، واقتطاف زهر روض علمكم الزهي، إذ في أبرك الساعات بزغ بدرُ بريدِ رسالتكم الغراء، في سماء شمائلكم الزهراء، وبصحبتها أبكار الرسائل الشريفة، الدالة على معاني الشريعة المنيفة، فاستقبلناها بالابتهاج والسرور، وقبلنا أذيالها بالفرح والحبور، ووردنا عذبَ زُلالها، وأروينا لظى ظمئنا من حسن دلائلها ورقة دلالها، مع ما اشتملت عليه من المتانة والرصانة المشيدة لأركان الديانة، فرفعنا أكفَّ الدعاء إلى الله أن يَمُنَّ علينا ويمتعنا ببقائكم، وأن يجعلكم من الفائزين يوم العرض الأكبر برضاء مولاكم، وشفاعة جدكم - صلى الله عليه وسلم - وإيانا وجميع المسلمين.
والمؤلفات الشريفة التي ذكرتموها موجودة بمصر، نستجلبها بحول الله تعالى، نسأل الله أن ينفعنا ببركات ما فيها من العلوم الشريفة.
وأما ترجمة المحب الفقير، فليس ممن ينتظم في سلك المجالسين، فضلًا عن العلماء المحققين، وإنما يعد هذا الداعي لكم من سقط المتاع، وممن يباع ولا يبتاع، فلا أهمية لبيان اسمه، وخمولُه دالٌّ على عدم كفاءته لأن يكون مذكورًا في صحف العلماء، والأجدرُ به أن يثبت في ديوان الجهلاء، إلا أن علو همتكم العلية، أنقذه الله بها من وَهْدَة الجهل الرديَّة، فأوجبت على نفسي الظالمة أن ألبي دعوتكم برسم اسم الفقير، وهو هذا: الفقيرُ إلى الله، راشد بن علي بن عبد الله بن محمد بن سليمان النجديُّ قُطْرًا، النعاميُّ مولدًا وموطنًا، السلفيُّ معتقدًا، وفي هذه كفاية. وأما إثبات بقية النسب، فلا حاجة للفقير به؛ نظرًا لقوله تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101]، ولست بمعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامَكم"؛ فقد علمنا من أنسابنا ما يكفينا عن نشره في دواوين الإسلام، ونقطة علمنا بأنسابنا: أنا من تراب، والترابُ من الماء، وفي سورة الحِجْر بيان ذلك، والمصيرُ إليه متعين، وكذلك في سورة الحجرات.
فإن مننتم علينا بـ "التاج المكلل" بعد فراغ طبعه، كان ذلك من أعظم المنن الصديقية على الداعي لكم، وأما كتبكم التي نحب جلبها من طرفكم، إن شاء الله تجعلوها لديكم في حيز الأمانة إلى وقت الميعاد الذي ذكرتم بحول الله تعالى.
إما أنا نأتي إلى "هندستان"، أو إلى بعض الأماكن التي يحسن جلبُ المؤلفات الشريفة إليها، وأرجو أن يكون ذلك قريبًا، وإن أحببتم تفرضوا فرصة من وقتكم السعيد، ولو زاحتكم أشغال الليالي والأيام إلى "شرح نونية" ابن القيم، فالداعي لكم يرى هذا من حسناتكم، وامتنانكم على كافة أهل السنة والجماعة، فاغتنموا دعواتهم الخيرية، ما دام في الأرض من يحب السنة والجماعة، والله ولي التوفيق.
أما أمركم إلى مدير الجوائب، المحب سليم أفندي في شأن طبع التفسير الشريف، فنعم ما استحسنتم، يَسَّرَ الله ذلك بمنِّه وكرمه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله صحبه وسلم، 10 ذي الحجة سنة 1298.
[2]
الحمد لله الذي أرشد العقول إلى توحيده وهداها، وثبت كلمة الإيمان في قلوب أهل الإيقان على أمواج الامتحان، باسم الله مجراها ومرساها، وأضل قلوب المنافقين عن الدين، فلم تجبه لما دعاها، فسبحانه من جبار عظيم لا يُماثل ولا يُضاهي، جل ربًا، وعز ملكًا وتعالى إلهًا، ناصرُ المسلمين بفضله، وخاذل الباغين بعدله، وجاعل العز في الدنيا والآخرة لمن أطاعه وتمسك بحبله، أحمده على تأييد دينه، وتأبيد أصله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم أنبيائه، وسيد رسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المقتدين بقوله وفعله، وعلى خلفائه القائمين بإحياء فرائض شرعه ونفله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأهدي السلام الوافر، والثناء الجميل المتظافر، والدعاء المقبول المتكاثر، إلى قرة عين أهل السنة ومسرة الخاطر، وارث مكارم الأخلاق كابرًا عن كابر، أعني: من طاب بوجوده الزمان، واشتهر صيته بكل مكان، سلالة الفضلاء الأكرمين، وخلاصة السعداء الميامين، أهل الحجج الواضحة والبراهين، محيي شريعةِ جَدِّه سيدِ البشر، مجددِ القرنِ الثالثَ عشر.
حضرة الملك المفخم، التقي الأواب الأمجد النواب السيد محمد صديق حسن خان بهادر نواب بهوبال المعظم، لا زالت السعادة تضرب عليه خيامها، والسيادة تلقي إليه زمامها.
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدة ... حتى أُضيفَ إليها ألفَ آمينا
ثم إن معروض الداعي لكم بظهر الغيب، كثير الخطايا والزلل والعيب، محرر هذه الأحرف، لمَّا مَنَّ الله علينا في هذه السنة المؤرخة بزيارة بيته الحرام، ومسجد نبيه سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والمسجد الأقصى بأرض محروسة الشام، عنّ لنا أن نسيح إلى الآستانة العلية، مدينة "القسطنطينية"؛ لأجل التفرج في بلاد الله، ورؤية تخت السلطنة السنية الإسلامية، فاجتمعنا فيها بأديبها، وحافظِ عربيتها بعد ما أَفَلَت شمسُها بمغيبها، حضرة محرر الجوائب صاحب الرفعة أحمد أفندي فارس، ومديرها نجله، الذي فاق أبناء عصره بأدبه وذكائه سليم أفندي.
فلما تجاذبنا أهدابَ مِرْط الأدب، أفضى بنا الحديث إلى التعطر بنشر الثناء عليكم، فاستكشفنا غمام علمه عن حضرة سيادتكم، فأسفرت ليلتنا حينئذ عن التشرف باستنشاق نسيم ذكركم العاطر، ومطالعة رَيَّا روضِكم الزاهر، فمن أعظم ما انشرحت به صدورنا، وتم به سرورنا، تفسيركم للقرآن الشريف، المسمى: "فتح البيان في مقاصد القرآن"، و"الروضة الندية شرح الدرر البهية"، و"لقطة العجلان"، ورأيت أسماء مؤلفات حضرتكم الشريفة مقيدة في حجم كتاب لطيف، اسمه "قرة العيان ومسرة الأذهان" وهو كاسمه، إلا أني وقفت على الأسماء، ولم أقف على الأشخاص غير الكتب المذكورة.
فجرَّدْتُ همتي لامتطاء بازل ألزم إلى السفر إلى حضرتكم، لأجل أخذ الإجازة بمؤلفاتكم الشريفة التي رأينا بعضها ولم نر باقيها، وحيث إن طريقتكم تلك هي درتي المفقودة، وضالَّتي المَنْشودة، بشرني صباح الظفر بها، لم أتمالك حتى عجلت لكم كتابي شوقًا إلى التشرف بمشاهدة حضرة سيادتكم، والتزود من أنوار علمكم.
ولي أصحاب، ينيفون على خمس مئة ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال، كلنا على معتقدكم الطاهر المطهر، ومؤلفات مشائخنا مطابقة لما أنتم عليه وما نحن عليه، فالحمد لله الذي نصر الحق بكم على حين فترة من أنصاره {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] ألا! وإني أنا وأصحابي الآن نعتقد: أنك مجدد هذا القرن، وكنا قبل نحسب أن هذه الطريقة السلفية لنا، ليس لنا فيها مشارك في الدنيا حتى وقفتُ على بعض مؤلفاتكم الشريفة، فازددت بها فرحًا وسرورًا، ودعوت الله أن يمن علي بلثم أعتابكم، والاقتباس من أنواركم؛ فإنها أنوار نبوية، فنرجو من الله ثم منكم أن لا تقطعوا عنا الجواب، وترسلوه سريعًا لتطمئن به قلوبنا، وإن رأيتم ترسلون ما تيسر من مؤلفاتكم الشريفة لأجل بثها في بلادنا، وتجعلونها وقفًا لله - عز وجل - لينتفع بها إخوانكم المسلمون، ويجري لكم ثوابُ ذلك - إن شاء الله تعالى -، وأرسلوا لنا الجواب، وما تيسر من الكتب التي هي مؤلفاتكم إلى مدير مطبعة الجوائب، بمدينة قسطنطينية، ونحن جالسون بها ننتظر الجواب الذي ترسلوه، ونحن إذا تحققنا منكم الإذن بأنا نتشرف بزيارتكم لأجل أخذ الإجازة عنكم مبادرين إلى هذا المقصد الشريف من غير تسويف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، 5 صفر الخير 1298
كتبتُ ولو قدرتُ لكنتُ طيرًا ... أطيرُ إليكمُ قبلَ الكتابِ
ولو قلمي بِما في الصدر يَدْري ... بَكى قلمي إلى يومِ الحسابِ
[3]
سلامُ الله الأسنى، وتحياتُه الحسنى، تهدى إلى من قرب للخطاب المستطاب قابَ قوسين أو أدنى، ثم يعود السلام الوافر الجزيل، والثناء المتظافر الجميل، والدعاء المتكاثر المقبول، إلى فرع دوحة آل الرسول، ونجل الزهراء البتول، محيي رميمِ الشريعة، ومجددِ دارسِ رسومِ معانيها المنيعة، العالمِ الرباني، الراقي في معارج الأصول إلى أعلى ذرا المباني، حضرة الملك الأواب، الشيخ الناطق بالصواب.
شيخ الإسلام محمد صديق حسن خان النواب، لا زال في نصرة العابدين لرب الأرباب، المبشرين يومَ الفزع الأكبر بجنات مفتحة لهم الأبواب، والملائكة للسلام والتهنئة بالنعيم المقيم، يدخلون عليهم من كل باب، آمين، اللهم آمين.
أما بعد: فقد قرع أبوابَ مسامعنا، وطلعَ في أندية مجامعنا، أنوارُ شمس علمكم المنيرة، وهَبَّت على روضات قلوبنا رياحُ مودتكم المثيرة، وذلك لما تشرفنا بتسريح سوائم النظر في رياض مؤلفاتكم الزاهرة، فاقتطفنا من ثمارها ما هو نِعْمَ الزادُ إلى الدار الآخرة، ولم نزل على هذا الاعتقاد السلفي الصالح، ولم نحسب أن بالدنيا أحدًا غيرنا على هذا الاعتقاد، لأجل كثرة انفتاح ثنايا الطريق وكثرة سالكيها، والإعراض عن الطريق المستقيم وقلة الراغبين فيها،
فلما وقفنا على فحوى ما أبرزته فكرتكم المنيرة، ورأينا الحقَّ معكم كالشمس في الظهيرة، علمنا وتحققنا: أن لله عِبادًا فُطَنا ... طَلَّقوا الدُّنيا وخافوا الفِتَنا
هذا مع ما أعطاكم الله ومنحكم من شرفَي الحسب والنسب، لم يبلغنا أنكم بذلك مغترين، بل لله من الشاكرين، ولأجل دلالة مؤلفاتكم على صدق ما روي عنكم، أحبتكم قلوبنا بظهر الغيب، ولم نحببكم إلا لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا.
وقد حررنا إلى حضرتكم العلية كتابًا في بوصطة النمسا في تاريخ خامس شهر صفر، وأخبرناكم أنا بالآستانة العلية، منتظرين لورود جوابكم الشريف، ويكون العنوان إلى إدارة مطبعة الجوائب باسم محبكم الفقير، ويبلغنا - إن شاء الله تعالى -.
ولأجل شفقتنا على الاجتماع بكم، وأخذِ الإجازة عنكم، صرنا منتظرين لجوابكم، هل نحظى بذلك من حضرتكم، أم الوقتُ متضايق عن ذلك، وكذلك مؤلفاتكم الشريفة، إذا كانت لديكم كلها موجودة أو مطبوعة - بمطبعة بهوبال المحروسة - تبعثون بها إلينا في الآستانة العلية، وأجرة نقلياتها نسلمها إلى من تريدون، أو تجعلونها وقفًا لوجه الله تعالى في قطعة جزيرة العرب، بخطة "نجد" لأجل أنهم موافقون لما أنتم عليه من اتباع الكتاب والسنة، فهذا هو اللائق بمقامكم الشريف، ويبقى لكم أجرها وأجر من انتفع بها، ولأجل انشراح صدورنا بمودتكم عرضنا لكم الكيفية، وإن اقتضى نظركم إرسالها إلينا بالآستانة العلية عن حضرتكم، فيكون إيصالها إلى مطبعة الجوائب، حتى نتسلمها منها عن يد مديرها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، 15 صفر الخير سنة 1298
[4]
الحمد لله الذي أقام لنصر دينه إمامًا هاشميًا، أرغمَ به أنفَ كلَّ كافر في الدنيا، فجرد صارم عزمه لتكون كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، فأكرِمْ وأنعِمْ به صِدِّيقًا ثانيًا مَرْضِيًا، أحمدُه على ما مَنَّ به علينا من إقامةِ مجددٍ لشرع نبيه، ومحيٍ سنة صفيِّه، ولم يتخذ من دون الله وليًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ قائلها الدرجات العلياء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة بكرة وعشيًا، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فأهدي السلام الجزيل الشرعي الوافر، والثناء الجميل المتظافر، والدعاء المتكاثر، ورحمة الله وبركاته، ما لاح بارق وطار طائر إلى قرة عين أهل السنة ومسرة الخاطر، وارثِ مكارمِ الأخلاق كابرًا عن كابر، سلالةِ السادة الفضلاء الأكرمين، وخلاصةِ الهداة القادة الميامين، صاحبِ الحجج الواضحة والبراهين، واسطةِ عقدِ محاسن الفخر في نحر هذا العصر، وإكليلِ المعالي، فوق رأس الأيام والليالي، محيي السنة، قامعِ البدَع، المؤيَّدِ من لَدُنِ العزيز بدلائل من كتابه وسنة نبيه كالفجر إذا انصدع، فلم تَأخذه في الله لومة لائم، ولم يألُ جهدًا في إظهار رسوم الحق وإقامة تلك المعالم، حتى أشرقت شمسُه على العالَمين، ورجمَ بثواقب فهمه مَرَدَة الشياطين الغاوين والمبتدعين، فهل يُقاس مَنِ استدلَّ بآراء الجاهلين، بمن استدل بمشكاة الوحي المبين؟
شيخُ الإسلام وعالِمُه الرباني، وإمامُ السنة المحمدية وأبو بكرها وصِدِّيقها الثاني، فهو خليفة أيده الله بالسيف والقلم، ورفع به منارَ الحق حتى يميز كَنارٍ على عَلَم، وسلك منهج جده فخر الكائنات، ومن أشبه أباه فما ظلم.
حضرة السيد السند الأواب، أبي الطيب النواب، محمد صديق حسن خان، ملك محروسة بهوبال المحترم، لا زالت السعادة تضرب عليه خيامها، والإمامة الإسلامية تُلقي إليه زمامها، والشريعة الغراء بنصره رافعة أعلامَها، وبأمره منفذة أحكامها.
وهذا دعاء للبرية شامل، كيف وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يبعثُ اللهُ على رأسِ كلِّ مئةِ سنة لهذهِ الأمة مَنْ يجدِّدُ دينها". وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدوله، يَنْفونَ عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين"، فالعلمُ المشار إليه في هذا الحديث هو علم التوحيد، ولأجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، وكل علوم القرآن العظيم والسنة الشريفة راجعةٌ إلى هذا العلم العظيم. وإني أحمد الله تعالى على ما أولاكم به من مجانبة أهل البدع المضلة، واتباعِ آرائهم الفاسدة، ومَنَّ عليكم باتباع القرآن العظيم، والذكر الحكيم، والسنة المطهرة الشريفة، فأيُّ علم تُعْقَدُ عليه الخناصر غيرُ علمهما، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ولست مزكيًا لكم لترضوا عن أنفسكم، ولكن مهنئًا لكم لتحمدوا الله على هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة، التي مَنْ فاز بها فقد أفلح في الدارين، فنسأل الله الكريم كما مَنَّ عليكم بهذا الميراث النبوي، أن يمنَّ علينا وعليكم جميعًا بالعمل به، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، فإن من شرط قَبولِ العمل أن يكون خالصًا صوابًا، فالخالصُ ما كان لوجه الله، سالمًا من الشرك، والصوابُ ما كان على هديه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم لا يخفى عن علمكم الشريف، بينما أنا أترقب لأخباركم السارة في أبرك الساعات، تشرفت بورود كتابكم الكريم، المتوَّج أعلاه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، المؤرخ 22 صفر سنة 1298، فقبلت لثامه إكرامًا، وتلقيته باليمين احترامًا، وسرحت سوائم النظر والأفكار في رياض معانيه التي تُخْجِل حدائقَ الأزهار، وأحطت علمًا بما أودعتموه من لطائف الإشارات، وحسن أسلوب التخلص من هاتيك العبارات، حيث لاح منها أنكم - أيدكم الله - مرجحون عدمَ إرسال ما لديكم من مؤلفاتكم الشريفة إلى مدينة القسطنطينية، لأجل طوارىء الموانع التي أشرتم إليها علينا، وأخرى لم تطلعوا عليها (الموانع التي ذكرت عن المؤلف، راجعة إلى الفتنة التي حدثت بعد تزوجه بالملكة، وإيذائه من جراء ذلك من قبل الأسرة الملكية وحاشيتها، ثم تدخل بريطانية في هذه الفتنة لأمور سياسية، يطول شرحها.)، أو اطلعتم فأعرضتم عن التصريح بها إعراضًا حسنًا، وقد لاح لي هذا البارق قبل ورود كتابكم الشريف إلينا، فإذا كان الأمر كذلك، فأمرُ الله ورسوله ثم أمرُكم مطاع، ونحن إن شاء العالي [...] إلى شاسع الأمصار، وتطلب الإجازة من بعيد البقاع والأقطار، وأطراف تلك المدن والديار، وأما الآن، فقد زال ذلك الانضباط، وطوي ببساط هذا الارتباط، وتقاعدت الهممُ عن طلبه، وتقاصرت الأفهام عن السعي في تحصيل رتبه، وقلَّ طالبوه، وكثر فاقِدوه، وعزَّ ناصروه، وغاب ناقدوه.
كأنْ لم يكنْ بين الحَجون إلى الصَّفا ... أنَيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
بيد أنه بقي من آثارهم بقية نزرة في زوايا ممن تحمل عنهم خبايا، وقد ابتهج خاطري بوجود طالب هذا الشأن في هذا الزمان المقترب بالساعة والافتنان، فلله الحمد على ذلك حمدًا يملأ الأكوان، ويفضي بقائله إلى نعيم الجنان، وقد أجبت هذا الشيخ العلامة نخبة مَن بنجد وتهامة إلى مطلوبه، وأسعفته بتحصيل مرغوبه، وإن كنت لست أهلًا لأن أُجاز، فكيف أن أُجيز، وليس بواديَّ ماء ولا كلاء، فضلاً عن الذهب والإبريز، ولكن امتثالَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بَلِّغوا عني ولو آيةً"، فهذا هو الغاية في تبليغ الرواية، فأجزته برواية كتب السنة المطهرة من الأمهات الستّ وغيرها من بقية علوم الشريعة الحقة، من تفاسير القرآن العظيم، ودواوين الإسلام من شروح علم الحديث وأصوله، وكتب الأدعية المأثورة والأوردة المسنونة، وأجزته أن يروي عني جميع ما تجوز لي، وعني - رواية ودراية - من مقروء ومسموع، ومجاز ومناولة، ووجادة وكتابة ووصية ومراسلة، وما ألفته وجمعته من علوم التفسير والحديث وفقهِ السنة وأحكامها، وما نظمته ونثرته باللسان العربي والفارسي، بشرطِه المعتبر عندَ أهل الأثر - كثر الله سوادهم، ورفع عِمادهم -.
كما أجازني بذلك جماعةٌ من أهل الحديث والقرآن، وعصابةٌ من العلماء الفحول الأعيان، منهم: الشيخ الأجل المعمَّر، المرحوم أبو الفضل، عبدُ الحق الهندي، المتوفَّى بمنى في سنة 1286 - رحمه الله تعالى - كما أجازه بذلك جماعة من شيوخ الإسلام، منهم: الإمام الهمام، حسنة الليالي والأيام، المجتهد المطلق، العلامة الرباني سهيل القطر اليماني، القاضي محمد بن علي الشوكاني - رضي الله عنه -، بسنده المذكور في ثبته المسمى، بـ "إتحاف الأكابر في إسناد الدفاتر"، ومنهم: الشريف العلامة، قدوة أهل الفضل والكرامة، مجدد العصر، ومجتهد الدهر، السيد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير اليماني - رحمه الله تعالى - ومنهم: العالم الكبير، والحبر البحر النمير، الحاج المجاهد الغازي، الشهيد، الحافظ محمد إسماعيل الدهلوي، حفيد مسند الوقت، الشيخ الأجل، أحمد وليِّ الله المحدثِ الدهلوي. إلى غير هؤلاء من الأئمة، وكما أجازني بذلك شيخنا الصالح النقي، عين الإنسان، وإنسان العين، القاضي حسين بن محسن السبعي، الحديدي اليماني، تلميذ السيد الإمام الفهامة، محمد بن ناصر الحازمي، تلميذ الإمام الشوكاني، وشيخنا المهاجر إلى الله تعالى بقلبه وقالبه، نزيل مكة المكرمة - حرسها الله تعالى - المتوفى بها في سنة 1282 العالم الصالح، محمد يعقوب الدهلوي - رحمه الله -.
وشيوخ هؤلاء الأئمة مذكورون في ثبتهم، وثبتنا الفارسي، المسمى بـ "سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند"، وتمام ذلك كله في كتاب "النفس اليماني والروح الريحاني في إجازة القضاة بني الشوكاني"، للقطب الشهير، مفتي اليمن، السيد الجليل العلامة عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل - رضي الله عنهم -، فإنه - رحمه الله تعالى - من شيوخ مشايخنا الكرام.
ومن فوائد هذا المقام: أن من المقرر في مصطلح الحديث، أن الإجازة: مصدر مزيد مشتق من المصدر المجرد، وهو الجواز، بمعنى: الإباحة، فكأن المجيز أجاز للمجاز، وأباح له أن يروي عنه، وأذن له في ذلك، وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى أنها أقوى من العرض؛ لأنها أبعدُ من الكذب، وأنفى عن التهمة وسوء الظن، وأقربُ إلى التخلص عن الرياء والعجب، فليرو عني المجازُ كلَّ ما أشرتُ إليه وعوَّلت عليه على كل حال، وليبلغه من يراه أهلًا لتحمل هذا المعنى، وأوصيه وإياي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإنه ملاك الأمر فيما ظهر وبطن، وكل الصيد في جوف الفرى.
وها أنا أسأل من فضل المجاز، الراقي إلى الحقيقة من المجاز، ألا ينساني من خالص دعواته، في خلواته وجلواته، ومواضع إجاباته المثمرةِ بلوغَ المرام، المنتجة حسنَ الختام، قاله بلسان بيانه، راقمًا بيراع بنانه، الفقير إلى الله الغني الباري، عبده وابن عبده وأَمَته "صِدِّيقُ بن حسن بن علي الحسينيُّ، القنوجيُّ، البخاري - غفر الله زَلَلَه، وأصلح خَلَلَه، وتقبل عملَه، وبلغه أملَه، وذلك في يوم الجمعة، لعله الثامن من شهر جمادى الأولى من شهور سنة ألف ومئتين وثمان وتسعين الهجرية، في بلدة "بهوبال" المحمية، صانها الله وأهلها عن كل رزيَّة وبليَّة، بجاه عريض الجاه سيدِنا محمد خير البرية، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[5]
الحمدُ لله الذي مَنَّ علينا باتباع نبيه وصفيه محمدٍ سيدِ البشر، وأقامَ لسنته ناصرًا كما أمر، فجددَ شريعة الإسلام، وأحيا دارسَها إرغامًا لمن خالفها وكفر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من سقر، وأشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدًا عبده ورسوله، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله السادة الغرر، وأصحابه ومن آوى ونصر.
أما بعد: فإن أفضل سلام أبرزته دقائقُ الأفهام، وقيدته سوابق الأقلام، في ميادين طروس أهل الإسلام، ورحمة الله وبركاتُه، يُهدى إلى مَنْ سمت فوق العلا درجاتُه، ونورت الدنيا حياتُه، وجلت غياهبَ المشكلات علومُه ومؤلفاته، فجعلها الله حرزًا لعهده الرباني كما شهدت لها به آياتُه، فأبرز دلائل الربوبية والإلهية التي نزل بها القرآن، ودعا إليها أهل الإيمان والإيقان، فابتهجت بها قلوب المؤمنين، ونزهوا خالقهم عما لا يليق بجلاله من أقوال المشركين، قاصمِ ظهورِ زخارف المبتدعين، بمرازبِ الوحي المبين، وقاطعِ رقابِ شُبَهِ الغاوين بصوارم البراهين، سلطانِ الأئمة المحدِّثين، وإمامِ الحنفاء المسلمين، شيخِ الإسلام ومجدِّده، ومرمِّمِ صرحِه ومشيِّده.
الإمامِ السيدِ الهمام، شيخِنا حضرة محمد صدِّيق حسن خانَ، ملك بهوبال، المحترم، لا زالت الخلافة تجرُّ به ذيولَ افتخارها، وشرعةُ الإسلام بأنوار بصائره ليلُها كنهارها، آمين.
ثم إنه غير خفي عن علمكم الشريف: أن الداعيَ لكم بظهر الغيب قد تشرف بإشراق شمس كتابكم الكريم، المستحقِّ للتبجيل والتكريم، وفي طيه الصحيفة الغراء المنيفة التي أعربت براعةُ استهلالها، عن معان تُخجل البدورَ ليالي كمالها، فأبدت محاسن نسقها بلاغة لعبت بأولي الألباب ولا لعبَ الراح بالأرواح، وتجلت عرائس جناتها رافلة في حلل بيانها، مبشرة بنقش الإجازة الشريفة على أوجانها، فاغتنينا بالتشرف بها عن عقود لآلىء البحرين ومرجانها. فلله، هي شمسٌ من جبين مُنْشيها طالعة، بخلود جنات الهموم بأنوارها الساطعة، فوالذي أنزل سورةَ العصر، لكأني قد أُوتيت ملكَ مصر، كيف وهي ضالتي المنشودة، ودُرَّتي المفقودة، فنسأل من حبا منشيها الجلوس على تخت الخلافة الإسلامية، وأورثه دواوين الأسرار الربانية، أن يمتعنا ببقائه، وأن يمنَّ علينا بالتشرف بلقائه، وأن يعيد علينا من بركات علومه الشريفة، وأن يجعله من الآمنين يوم الفزع الأكبر والخِيفة، وأن يؤيد به دينَه القويم؛ ليهدي عباده إلى الصراط المستقيم، إن هذا دعاء للبرية شامل، فاستجبه يا إله العالمين، ويا خير الناصرين.
ومن خصوص الوارد إلينا من رسائلكم الشريفة التي هي جواب عن رسائلنا السالفة - ثلاثة كتب - سوى الإجازة الشريفة، فأولها كتابكم الشريف، المؤرخ 22 صفر سنة 1298، وثانيها المؤرخ 10 ربيع الأول سنة 1298، لم نجبكم عنه لأجل اكتفائنا بكتابنا الذي طلبنا به من حضرتكم الشريفة إرسال الإجازة.
وثالثها كتابكم المؤرخ 9 جمادى الأولى سنة 1298، وبِطيِّه الإجازةُ الغراء المؤرخة 8 جمادى الأولى سنة 1298. هذا الذي تشرفنا به من رسائلكم الكريمة، وأما تلويحكم في الكتاب الأخير، أن الداعي لكم قد انتقد الموضع الذي في التفسير من قوله عز وجل {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] الآية. فمعاذ الله! إني لم أنتقد، ولكن معتقد! كيف يتجاسر أبو الحصين، على وادي أسامة أبي الشبلين؟! أم كيف يسوغ للبعوضة أن تطن في أذن الفيل؟! أم كيف صبابة الأنهار تحاكي زواخر البحار؟! هذا من المحال، ولو تصدى لذلك - فحولُ علماء الرجال لجاؤوا شيئًا إدًّا.
ولكن موجب سؤالي لحضرتكم؛ لأقتبس من أنواركم، وأرتويَ من تيار بحاركم، فاحملوا الداعي لكم على الاسترشاد لأجل علو الإسناد، فهل مثلي يحظى بمثلكم، ويكتفي بالمؤلفات، بل لا أكتفي إلا بالسؤال، فإن دواء العيى: السؤال، فاللهُ يُمتعنا ببقائكم، شفيتم العليل، وبردتم الغليل بإيضاح ما أشكل، ولقد تلقيت قولكم بالقبول قبل أن نراسلكم، واعتقدت ثقتكم، ومثلي من يعتقد ويعتمد على استدلالكم.
فوالله! إن تفسيركم الشريف جليسي، وفي الخلوات هو أنيسي، ولأجل استغنائي به عن غيره، واعتمادي عليه، لا عجب إذا راجعتكم عَمَّا لم يتضح لفهمي القاصر، لأجل أن بضاعتي مُزجاة، وما كُلُّ مَنْ حمل السلاح بطل، وما كل ذات المخلب السبع، فأين الشحم من الورم، {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، إنه حميد مجيد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، 28 جمادى الثانية سنة 1298.
[6]
أستودعُ نسماتِ الأسحار عاطرَ تسليماتٍ أضاء نور سناها، وتلألأ بين الخافقين محياها، تُهدى ورحمةٌ وبركاتٌ ممن خلق كلَّ نفس وسوَّاها، إلى من جرد صارَم علمه النبوي على ظلماتِ الجهل فجلاها، وضربَ هامَ بنيان الضلال بمرازب الوحيين فهدّ بناها، وجَنَّدَ جنودَ كتبه الشريفة على كتاب بدع المبتدعين فأفناها، وجَدَّدَ منهاج الشريعة الغراء وحمى حماها، شيخِ الإسلام، شيخِنا الإمام، جمالِ الدنيا والدين، الذي ليس له في فضله مباري، أبي الطيب، محمد صِدِّيق بن حسن بن علي البخاري، لا زالت حياته الدنيا طيبة برضا مولاه، وآخرته صالحة يوم لقاه، آمين.
أما بعد: فإن الداعي لكم بظهر الغيب، كثيرُ الزلل والعيب، قد سير إلى حضرتكم كتابًا جوابًا لكتابكم الشريف الذي بطيه الإجازةُ الشريفة، التي طوقتم بها جِيدَ محبكم العاطلَ، الداعي لكم على الدوام، وإنه عنكم ليس بغافل، نؤمل أن كتابنا المزبور قد تشرف بتقبيل الأنامل الكريمة، وبهذا الكتاب نبين للحضرة البهية: أنا إلى حال التاريخ لم نبرح القسطنطينية، وقد منَّ الله عليّ ببعض مؤلفاتكم الشريفة المطبوعة بالجوائب، بالأحرف الدونمية، "لقطة العجلان"، و"حصول المأمول من علم الأصول"، و"خبيئة الأكوان" مع "التفسير الشريف"، فكانت تلك سميري في الخلوات، لأتسلى بها حتى استكمل جميع ما التمسناه منكم من المؤلفات، وإني أرجو الله تعالى أن يمنَّ بها علينا قبل الممات.
وقد تشوش فكري من سماحتكم بطبع هذا التفسير الجليل بالمطبعة الحجرية في قرطاس ضعيف لا يليق بجلالة هذا التفسير العظيم، فهلا أمرتم بطبعه بمطبعة مصر القاهرة، في قرطاسها الذي هو حرز لدواوين الإسلام؛ فإن هذا التفسير جدير لعلماء القرآن والسنة أن يكتبوه بماء الذهب، فكيف بماء مركب، أم كيف مقداره العالي ينحط إلى هذا المنزل عن غيره من هذيان الأوائل والتوالي، وإني لست أمقت المطبعة البهوبالية المحمية، ولكن أمقت القرطاسَ والحجر، في جانب الأحرف الدونمية، التي قد رأى حضرتكم طبعها، فلأجل رغبتي في تخليد هذا التفسير تأسفت، إذ لم يطبع بالأحرف في كاغذ يليق به، سواء كان في بهوبال، أو غيره من البلاد، لأجل أن النسخ بالقلم بمناسبة قصور همم الطالبين الآن فيه صعوبة على البطالين، ولأجل مجاراة هممنا القاصرة نرغب للطبع لأجل سرعة إبرازه وحصول المقصود به سريعًا، فالمأمول ألا تؤاخذونا بإساءة الأدب مع حضرتكم بهذا الخطاب، وما هو إلا من المحبة الراسخة لكم لله، وفي الله، وسوف ينفع الله بكم وبمؤلفاتكم، وإني لأرجو الله أن يقر العين منا ومنكم بإعلاء كلمته، وكبت أعدائه أينما كانوا.
وهنا مسألة نعرض لحضرتكم الكريمة، وهي: أن الناس في آخر هذا القرن، كما قد تعلمون علاوة على ما قد علمتم، مصر والشام والعراق والحجاز والقسطنطينية وما والاها من البلاد، أظن جُلُّ أحوال أهل هذه البلدان ليست خافية عنكم، أن معتقدهم الذي هم الآن عليه مضادٌّ لما نحن وأنتم عليه، ويوجد فيهم فئات موافقون لما عليه أهلُ السنة والجماعة، لكنهم تحت القهر والخوف على أنفسهم من هيجان رعاع الناس، ولا بد أن الله سبحانه آخذٌ بأيديهم، ولكنَّ إقامتهم بين ظهرانَي ضدِّهم قد وقع معنا موقعَ الإشكال، واعترض معه جملة جعلناها سؤالًا مستقلًا، نلتمس من فضلكم الجواب سريعًا، وأرسلوا الجواب على العادة إلى مطبعة الجوائب على يد مديرها محبكم سليم فارس، وهو يبلغ إلينا - إن شاء الله -، كما قد كان؛ حيث إنه مأمون بين الطرفين، وهذا تهنئة لكم بشهر رمضان المعظم، نرجو أن الله يعفو عنا وعنكم وعن جميع المسلمين، آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، 27 رمضان سنة 1298.
ركونُ الورى إلفًا رأيناهُ يُعْرَفُ ... كما قيلَ أرواحٌ تميلُ وتَأْلَفُ
على الدينِ اُولى والدنية بعدها ... فنزرٌ على الأولى بقايا تخلَّفوا
تجدْ جُلَّ هذا الناس للمالِ دينُه ... وإيمانهُ عن علمِ مولاه يَصْدِفُ
تَواخَوا وصَدُّوا بل تعامَوا وأعرضوا ... لقد قَصَّروا علمًا، وفي الجهل أَسرفوا
فهذا اغترابُ الدين لا شيءَ غيرُه ... فبالله هل عينٌ على الدين تذرف
سَبَرْنا كرامَ الناسِ أهلَ درايةٍ ... ونشرِ علومٍ منهمُ العلمُ يُعرف
ولم يبقَ إلا منهم اليوم شعرةٌ ... من البُلْقِ بَيْضا في سوادٍ محرف
وهم فتيةٌ أنصارُ حقًّ وشيعة ... على الدين بالتقوى دوامًا توصفوا
تواصَوا وعَضُّوا بالنواجذ رغبةً ... على الملة السَّمحا جِهارًا وما خَفُوا
فمنهم لنا خِلٌّ، ولي منه خلةٌ ... أغوصُ بحارَ العلم منه وأغرفُ
عليمٌ حليمٌ، بل حكيمٌ ومرشدٌ ... كريمٌ سليمٌ ينتقي ويعنِّفُ
يجودُ بعليم من لديهِ لطالبٍ ... وما ملكَتْ كفاه بالمال يُتْحِفُ
عنيت به "الصديقَ" شيخي ملة ... صديقًا لأهل الدين والخبر يخلفُ
لقد كانَ فينا كالدليل لركبِه ... به نهتدي، بلْ في زواياه نعكُفُ
وقد كانَ كالبدرِ يُضاهي بنوره ... إذا ما أضا يعلو الدراري، وتخسفُ
فلا زالَ فينا حيثُ ما شاء منةً ... من الله بالتقوى كريمًا ومسعِفُ
له البسطةُ العظمى على الناس كلِّهم ... من الدين والدنيا وما شاءَ يَقْطِفُ
ودونَك من جُهْدِ المُقِلِّ تحيةٌ ... وتهنئةٌ بالشهر لا زلتَ تعرفُ
لك الأجر في ذا الشهر يبقى مضاعفٌ ... لك الضعفُ ألفًا، ثم يبقى مُضَعَّفُ
تقومُ الليالي بعدَ صومِ نهارِها ... بأكملِ وجهٍ في سرورٍ ومعرفُ
وأزكى صلاة للنبيِّ وعترةٍ ... كذا الصحبِ والأَتباعِ للدينِ يَقْتَفو
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.