محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزهري أبي بكر
تاريخ الوفاة | 555 هـ |
مكان الوفاة | قرطبة - الأندلس |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزّهري
من أهل قرطبة، يكنى أبا بكر.
حاله: نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعيّة وشهرة. قال ابن عبد الملك: كان أديبا بارعا، محسنا، شاعرا حلو الكلام، مليح التّندير، مبرّزا في نظم الطريقة الهزلية، بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزّجل. قلت : وهذه الطريقة بديعة يتحكّم فيها ألقاب البديع، وتنفسخ لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر. وبلغ فيها أبو بكر مبلغا حجره الله عن سواه؛ فهو آيتها المعجزة، وحجّتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدى فيها والمتمّم، رحمه الله. وقال الفتح فيه : «مبرّز في البيان، ومحرز السّبق عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله اشتمالا رقّاه إلى مجالس، وكساه ملابس، واقتطع أسمى الرّتب وتبوّأها، ونال أسنى الخطط وما تمالأها» .
شعره: قال الفتح : وقد أثبت له ما يعلم به رفيع قدره، ويعرف كيف أساء الزمن بغدره، قوله : [الكامل]
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السّمر زرق نطاف
وتجلّلوا الغدران من ماذيّهم ... مرتجّة إلّا على الأكتاف
وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال يستدعيه إلى مجلس أنس: [البسيط]
إني أهزّك هزّ الصّارم الخذم ... وبيننا كلّ ما تدريه من ذمم
ذا شاك من قطع أنس أنت واصله ... بما لديك من الآداب والحكم
وشتّ شمل كرام أنت ناظمه ... وردّ دعوة أهل المجد والكرم
ولو دعيت إلى أمثالها لسعت ... إليك سعي مشوق هائم قدم
وإن نشطت لتصريفي صرفت له ... وجهي وكنت من الأعوان والخدم
وما أريد سوى عفو تجود به ... وفي حديثك ما يشفى من الألم
أنت المقدّم في فخر وفي أدب ... فاطلع علينا طلوع السيّد العمم
فأجابه رحمه الله: [البسيط]
أتى من المجد أمر لا مردّ له ... نمشي على الرأس فيه لا على القدم
لبّيك لبّيك أضعافا مضاعفة ... إني أجبت ولكنّ داعي الكرم
لي همّة ولأهل العزّ مطمحها ... لا زلت في كلّ مجد مطمح الهمم
وإنّ حقّك معروف وملتزم ... وكيف يوجد عندي غير ملتزم؟
زفن ورقص وما أحببت من ملح ... عندي وأكثر ما تدريه من شيم
حتى يكون كلام الحاضرين بها ... عند الصّباح وما بالعهد من قدم
يا ليلة السّفح هلّا عدت ثانية ... سقى زمانك هطّال من الدّيم
وقال في غرض النّسيب : [السريع]
يا ربّ يوم زارني فيه من ... أطلع من غرّته كوكبا
ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خدّيه ماء الصّبا
قلت له هب لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما: مرحبا
فذقت شيئا لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي يا شقوتي لو أبى
وقال: [المنسرح]
جئت لتوديعه وقد ذرفت ... عيناي من حسرة وعيناه
في موكب البين باكيين ولا ... أصعب من موقف وقفناه
معانقا جيده على حذر ... فمن رآني مقبّلا فاه
نغّص توديعه لعاشقه ... ما كان من قبل قد تمنّاه
وقال يعتذر ارتجالا وأحسن ما أراد : [البسيط]
يا أهل ذا المجلس السّامي سراوته ... ما ملت لكنني مالت بي الرّاح
وإن أكن مطفئا مصباح بيتكم ... فكلّ من فيكم في البيت مصباح
وقال يهنّئ بعرس: [الكامل]
صرفت إليك وجوهها الأفراح ... وتكنّفتك سعادة ونجاح
فاقض المآرب في زمان صالح ... لا سدّ عنك من الزّمان صلاح
إن كان كالشمس المنيرة حسنها ... فالبدر أنت وما عليك جناح
لا فرق بينكما لرأي فاستوى ... زيّ النساء قلادة ووشاح
هل يوقد المصباح عندكما مهجا ... وكلاكما ببهائه مصباح؟
أحرزت يا عبد العزيز محاسنا ... كثرت فلم تستوفها الأمداح
يا من له كفّ تجود وأضلع ... مطوي على حفظ الوداد سجاح
ما ألقت الحاجات دوني قفلها ... إلّا ويمن يمينك المفتاح
في كل ما تنحو إليه ملاحة ... وكذاك أفعال المليح ملاح
ومن حكمه قوله : [الوافر]
كثير المال تبذله فيبقى ... ولا يبقى مع البخل القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظلّ الثناء له مقيل
وقال رحمه الله : [الوافر]
وعهدي بالشّباب وحسن قدّي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنيا كأني ... أفتّش في التّراب على الشباب
وقال رحمه الله : [الرمل]
يمسك الفارس رمحا بيد ... وأنا أمسك فيها قصبه
وكلانا بطل في حربه ... إن الاقلام رماح الكتبه
قال ابن عبد الملك: أنشدت على شيخنا أبي الحسن الرّعيني، قال: أخبرنا الراوية أبو القاسم بن الطّيلسان، قال: سألته، يعني أبا القاسم أحمد بن أبي بكر هذا، أن ينشد شيئا من شعر أبيه المغرب، فأخرج لي قطعة بخط أبيه وأنشده. وقال:
أنشدني أبي رحمه الله لنفسه: [المنسرح]
أحسن ما نيط في الدّعاء لمن ... رتّب في خطّة من الخطط
خلّصك الله من عوائقها ... ودمت في عصمة من الغلط
مقرّبا منك ما تسرّ به ... وكل مكروهة على شحط
الكلّ بالعدل منك مغتبط ... وليس في الناس غير مغتبط
وليس يخليك من أنا لكها ... من عمل بالنّجاة مرتبط
فانفذ بعون لله مجتهدا ... بقلب صافي الضمير مرتبط
يا صاحب الأمر والذي يده ... نائلها للعفاة غير بطي
رفعتم يا بني رفاعة ما ... كان من المعلوات في هبط
ومنبر الحق من سواه بكم ... فها هو الآن غير مختلط
وانضبط الأمر واستقام لكم ... ولم يكن قبل ذا بمنضبط
أتيت في كل ما أتيت به ... فالغيث بعد الرجاء والقنط
جللت عمّن سواك منزلة ... فلست ممّن سواك في نمط
أنت من المجد والعلا طرف ... وكلّهم في العلا من الوسط
كتابته: وقفت من ذلك على أفانين. منها في استهلال شهر رمضان قوله:
سلام على أنس المجتهدين، وراحة المتهجّدين، وقرّة أعين المهتدين، والذي زيّن الله به الدّنيا وأعزّ به الدين. شرّف الله به الإسلام، وجعل أيامه رقوما في عواتق الأيام، وشهوره غررا في جباه الأعلام، وحلّ به عن رقاب الأمة قلائد الآثام، ونزّه فيه الأسماع عن المكاره وصان الأفواه من رفث الكلام. أشهد أن الله أثنى عليك، وأدخل من شاء الجنّة على يديك، وخصّك من الفضائل بما يمشي فيه التّفسير حتى يكلّ، ويسأم ذلك اللسان ويملّ، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظّلّ، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله، ويهتزّ العرش لجلاله، وترتج الملائكة في حين إقباله، وتدخل الحور العين في زينتها تكريما، وتلتزم إجلاله وتعظيما، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطا مستقيما، وتغلّ الشياطين على ما خيّلت، وتذوق وبال ما كادت به وتخيّلت، ويشمّر التّقيّ لعبادة ربّه ذيلا، وتهبط الملائكة إلى سماء الدنيا ليلا، وينتظم المتّقون في ديوانه انتظام السّلك، ويكون خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتفتح الجنّة أبوابا، ويغفر لمن صامه إيمانا واحتسابا، جزاء من ربك عطاء حسابا، وبما فضّلك الله على سائر الشهور، وقضى لك بالشّرف والفضل المشهور. فرضك في كتابه، ومدحك في خطابه، حيث قال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، يعني تكبير الناس عليك، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك، حين لثمت بالسحاب، ونظرت من تحت ذلك النّقاب، وقد يمتاز الشّيب وإن استتر بالخضاب، حتى إذا وقف الأئمّة منك على الصّحيح، وصرّحوا برؤيتك كلّ التصريح، نظرت كل جماعة في اجتماعها، وتأهّبت القرّاء لإشفاعها، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها، وتضرعت الألباب، وطلبت المواقف أواخر الأعشار والأحزاب، وابتدئت ألم ذلك الكتاب، عند ما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح، والله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، فأمّلك المسلمون في سرّ وجهر، وحطّت أثقال السيئات عن كل ظهر، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر، فنشط الصالحون بك صوما، وهجر المتهجّدون في ليلك نوما، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما. فيا أيها الذي رحل، رحل بعد مقامه، وقام للسّفر من مقامه، ورأى من قضى حقّه ومن قصّر في صيامه، فمشى الناس إلى تشييعه، وبكوا لفراقه وتوديعه، وندم المضيّع على ما كان من تضييعه، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه، فعضّ على كفّه ندما، وبكت عينه ماء وكبده دما. رويدا حتى أمرح في ميدان فراقك، وأتضرّع إلى حنانك وإشفاقك، وأتشفى من تقبيلك وعناقك، وأسأل منك حاجة إن أراد الله قضاءها، وشاء نفوذها وإمضاءها، إذا أنت وقفت لربّ العالمين، فقبلك من قوم وردّك في وجوه آخرين. إن تثني جميلا، فعسى يصفح لعهده وإن أساء، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخرا، وأملت الأداء باطنا وظاهرا، وكنت على ذلك لو هدى الله قادرا، وإنما علم، من تقصير الإنسان ما علم، وللمرء ما قضي عليه به وحكم، وإن النفس لأمّارة بالسّوء إلّا من رحم، فإن غفر فبطوله وإحسانه، وإن عاقب فيما قدّمت يد العبد من عصيانه، فيا وحشة لهذه الفرقة، ويا أسفا على بعد الشّقة، ويا شدّ ما خلّفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه، وراقب إعظاما لكربه، وشرحت إلى أعمال البرّ قلبه. ومع هذا أتراك ترجع وترى، أم تضمّ علينا دونك أطباق الثّرى؟ فيا ويلتا إن حلّ الأجل، ولم أقض دينك، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك، فأغرب، لا جعله الله آخر التوديع، وأيّ قلب يستطيع.
وقال في استهلال شوال:
ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوّال قد طلع، وكرّ في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهرا ثم رجع. ما لي أراه رقيق الاستهلال، خفيّ الهلال، وروحا تردّد في مثل انملال؟ ما باله أمسى الله رسمه، وصحّح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه؟ على وجهه صفرة بيّنة، ونار إشراقه ليّنة، وأرى السحاب تعتمده وتقف، وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلّا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام، أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغرّ والليالي البيض، وقلن: كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل: كيف نجدك لا فضّ فاك، هذا على الظّن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التّصديق. وليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرّياح، وصحب برد الصّباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرّواح، وطواها بتجربته طيّ الوشاح؟ ما ذاك إلّا أنّه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطا وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النّظر ما زرع، ووقع في شركها وحقّ له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنّقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكلة يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدّت لذيذ السّماح، فتعرّضت بالعشيّ وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنّا به من الانقطاع، ويمسّنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر، وقال: تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجدا شديدا، وأذاقه مع الساعات شوقا جديدا، وأصبح بها دنفا، وأمسى عميدا، حتى سلب ذلك بهاه، وأذهب سناه، وردّه النحول كما شاه، ولقي منها مثل ما لقي غيلان من ميّته، وجميل من بثينته، وحنّ إليها حنين عروة إلى عفراء، وموعدهما يوم وهب ناقته الصّفراء. على رسلك أني وهمت، وحسبت ذلك حقّا وتوهّمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفصّ فيما ظننت، إنه لقي رمضان في إقباله، وضمّه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثّر ذلك في وجهه الطّلق، وأضعفه كما فعل بسائر الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشي الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلّاهم من كل باب، فارتفعت همّة الإسلام، وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه كدور المرآة، ولون كصفا المهراة، وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السّنّة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنّة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنّة، ثم خطبوا حمدا لله وشكرا، وذكروه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشّاب في كفّيه، ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرّؤية ذو عينين، وتذكّر العاشق موقف البين، وشقّ المتنزّه بين الصّفين، فنقل عينيه من الوشي إلى الدّيباج، ووجوه كضوء السّراج، وعيون أقتل من سيف الحجّاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زيّنت العيون بالتكحيل، والشعور بالتّرجيل، وكرّر السّواك على مواضع التّقبيل، وطوّقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومدّ بالغالية على مواضع السجود، وأقبلت صنعاء بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحنّاء، وأثني على الحسن وهو أحقّ بالثناء، وطلّقت التّوبة ثلاثا بعد البناء، وغصّ الذّراع بالسّوار، وتختّم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدّايات بالأطفال الصّغار، وامتلأت الدّنيا سرورا ، وانقلب الكلّ إلى أهله مسرورا. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ تلألأت الدنيا برقا، وامتدّ مع الأفقين غربا وشرقا، وردّ لمعانه عيون الناظرين زرقا، ولولا أنه جرّب حتى يدرى، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصيّ، وازدانت به آل غالب وآل لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بعده، أو الفضل فهو لابس برده، أو الفخر فهو واسطة عقده، أو الحسن فهو نسيج وحده، الذي رفع لواء العليا، وعارضت مكارمه صوب الحيا، وحكت محاسنه زهرة الحياة الدنيا. فأما وجهه فكما شرقت الشمس وأشرقت، وغربت كواكب سمائها وشرقت، وتفتّحت أطواق الليل عن غرر مجده وتشقّقت.
ولولا حيا يغلب عليه، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عمّ آفاق الدّجا وطبّق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، وقد عجم الأبنوس على العاج، وأدار جفنا كما عطف على أطفالها النّعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلمّ بالفؤاد إلمام الطّيف، ويتلقّاها السّحر تلقّي الكريم للضيف. لو جرّدها على الرّيم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقّت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفح عرف النّسيم في جنباتها، يتفنّن أفانين الزهر، ويتقلب تقلّب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرّف ما شهر بخطّه، ولا جرّ من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرىء على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلّف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر يتفنّن للبلاغة فنونا، ولا يتقبّلها بطونا ومتونا، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاما موزونا، ولا نمّق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قسّ بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغاظ زيد بن علي هشاما بما أغاظ، وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله، وخرج الودق من غلاله، فتدارك النّعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها، ذلك الشريف الأجلّ، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزّهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها، وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفّت الثياب بالثياب، وضمّ الرّكاب بالرّكاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنّوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلّمت، وجرت كلاما وبه تكلّمت، فقلت: تقبّل الله سعيك، وزكّى عملك، وبلّغك فيما تودّه أملك، ولا تأمّلت وجها من السّرور إلّا تأمّلك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظّك على ما صمت وصلّيت، ووافقتك لعلّ وساعدتك ليت، وهنّاك عيد الفطر وهنّأته، وبدأك بالمسرات وبدأته، وتبرّأ لك الدهر مما تحسد وبرّأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام وعزّ في ازدياد، والسّنّة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضّحى، ودام الفطر والأضحى.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة، وتردّد إليها غير ما مرة، وأقام بها، وامتدح ابن أضحى وابن هاني، وابن سعيد وغيرهم من أهلها. قال ابن سعيد في «طالعه» :
وقد وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة، واجتماعه بجنّته بقرية الزاوية من خارجها، بنزهون القليعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع، وكان لبس غفارة صفراء: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلّا أنّك لا تسرّ النّاظرين، فقال لها: إن لم أسرّ الناظرين، فأنا أسرّ السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين منك، يا فاعلة يا صانعة. وتمكّن السّكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج منها إلّا وثيابه تقطر، وقد شرب كثيرا من الماء، فقال:
اسمع يا وزير ثم أنشد : [السريع]
إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال
وذات فرج واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيالي
غرّقتني في الماء يا سيدي ... كفّره بالتغريق في المال
فأمر بتجريده، وخلع عليه ما يليق به، ولم يمرّ لهم بعد عهدهم بمثله.
ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة، إلّا بعد ما أجزل له من الإحسان، ومدحه بما هو في ديوان أزجاله.
محنته: جرت عليه بابن حمدين محنة كبيرة عظم لها نكاله، بسبب شكاسة أخلاق كان موصوفا بها، وحدّة شقي بسببها. وقد ألمّ الفتح في قلائده بذلك، واختلّت حاله بآخرة، واحتاج بعد انفصال أمر مخدومه الذي نوّه به.
وفاته: توفي بقرطبة لليلة بقيت من رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، والأمير ابن سعد يحاصر قرطبة رحمه الله.
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.
محمد بن عيسى بن عبد الملك بن عيسى، أبو بكر ابن قزمان:
إمام الزجالين بالأندلس. وله شعر. وقد يلقب بابن قزمان الأصغر، تمييزا له عن عمه محمد بن عبد الملك (كاتب المتوكل صاحب بطليوس) . وهو من أهل قرطبة. كان يتردد إلى إشبيلية. وتناقل الناس أزجاله في أيامه، حتى قيل: روي له ببغداد أكثر مما كان يروى له بالأندلس. وقالوا: كان في أول شأنه مشتغلا بالنظم المعرب، فرأى نفسه يقصر عن أفراد عصره، كابن خفاجة وغيره، فعمد إلى طريقة لا يجاريه فيها أحد منهم، فصار إمام أهل الزجل المنظوم بكلام العامة في الأندلس.
له (إصابة الأغراض في ذكر الأعراض - ط) بالتصوير الشمسي وهو جزء من ديوان أزجاله. وكان أزرق العينين أشقر الشعر .
-الاعلام للزركلي-