الشيخ أمين مفتي الحلة الشافعي العراقي
خاتمة المحققين في عصره، ونادرة المدققين في مصره، طلب العلوم وهو شاب، والتف هو والكمال في برد والقذال ما شاب، بحث وحقق وناظر ودقق، وتولى إفتاء الحلة سنيناً، وسل من الحق على من حال عنه سيفاً سنيناً، ورق طبعاً وصلب ديناً، حسنت سيرته في إفتائه طمعاً في ثواب الله وإرضائه، وتولى تدريس المدرسة العلوية، فأقر عيون العلوم النقلية والعقلية، ولقي الإجلاء من علماء العراقين، وألف في النحو وغيره ما هو قرة عين، وتناهت إليه رياسة التدريس في بلده، مع زكاء عرقه وأصالة محتده، ولقد قال فيه الشيخ عثمان بن سند:
يا فاضلاً عشق النسيم طباعه ... والفضل لف عليه منه إهابه
كنت امرأً ألف العلوم وما نعي ... بمشيبه المبيض منه شبابه
صفت الشباب عن اقتراف جريمة ... كالسيف صين عن الفلول غرابه
وبالجملة فهو من الذين نزلوا من الإتقان مكاناً علياً، ومن الأتقياء الذين عاد بهم الفضل صبياً، والأسخياء الذين سقوا رياض الآمال بالمكارم والحاملين حوزة الدين بسيوف من السنة صوارم، والأئمة الذين صيروا الصمت حلية، ونزهوا المسامع عن غيبة وفرية، توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف ولقد رثاه الشيخ عثمان سند بقوله:
سقى قبره للرحمة السحب الوطف ... فما هو إلا الكهف خر به كهف
فيا قلب لا تبرح من الرزء قد قضى ... هزبر هو الإكليل للمجد والطرف
قضى غير أني ما قضيت من الأسى ... وأودى فأودى السؤدد العود والعرف
كريم الأيادي لا يغيب عطاؤه ... سقام المعادي لا يطاق له عسف
به أنشبت قوس المنايا سهامها ... وما هو إلا الشمس غيبها الكسف
وكيف وأنوار الأمين محمد ... وما هو عن توصيفها يقصر الوصف
علوماً له أبقى تلوح كأنها ... هي التاج للأيام والقلب والشنف
غدت تحف الرضوان تقدم روحه ... لينشق ريحان الجنان له الأنف
فيا قبره واريت أفضل وارد ... إليك بأعمال هي الخالص الصرف
نعوه فكان العلم أعظم نادب ... معارف منه زانها البحث والكشف
فإن غيبوه في الثرى لم تغب له ... فضائل تزهو من تلألئها الصحف
فيا دافنيه قد دفنتم مرزءاً ... له ترزأ الأموال في الكربة الكف
ويا نعشه أمسيت للبدر داره ... ولو أن نور الشمس من فوقك السجف
ويا حاملي نعش به القطب طالع ... لروح وريحان وحور به زفوا
فتى كان يحيي بالتلاوة ليله ... إذا جن ليل قال للطرف لا تقف
نعوه إلى التدريس فاحتقب الأسى ... وقال انقضى لما قضى معه الظرف
تسامى إلى التدريس والشيب ما بكى ... شباباً له التقوى عن الذائم الزعف
إذا سابق النظار يوماً لغاية ... من العلم لم يسبقه في حلبةٍ طرف
ولولا تعزينا بمن مات قبله ... لما كف عن نثر الدموع لنا طرف
وإن الليالي مودعات قسيها ... سهاماً لها الرامي النوائب والحنف
على أن في أبنائه الغر إذ قضى ... غناء إذا ما البحث عز له كشف
سقى قبره مزن الرضى أنه مضى ... وما كف عن بذل الجميل له كف
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.