السيد إسماعيل بن أسعد الشهير بالخشاب الأزهري
البليغ النجيب، والنبيه الفصيح الأديب، نادرة الزمان، وفرد الأوان، نشأ في حجر والده بيد أنه لم يمل قلبه إلى صنعته لأنه كان نجاراً، بل تولع في العلوم والمعارف فحفظ القرآن ثم جد بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، وأنجب في فقه الشافعية والمعقول وبقية العلوم، ثم تنزل في حرفة الشهادة في المحكمة الكبرى لضرورة المعاش، وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ، وتولع بذلك، وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية، وما تكلموا فيه من الحقائق، حتى صار نادرة عصره في المحاورات والمحاضرات واستحضار المناسبات، ونظم الشعر الرائق، ونثر النثر الفائق، وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السجايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيراً من أرباب المظاهر، والرؤساء والأمراء والتجار، وتنافسوا في صحبته؛ وتفاخروا بمجالسته، وارتاحوا لمنادمته، وتنقلوا على طيب مفاكهته، وحسن مخاطبته، ولطف عباراته، ورقيق إشاراته، وكان الوقت إذ ذاك غاصاً بالأكابر، وذوي الفضائل والمفاخر، والناس في أرغد عيش، وأمن من المخاوف والطيش، وللمترجم قوة استحضار مؤنس، بحسب ما يقتضيه حال المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور في الخطاب، ويجذب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب، ولما وردت الفرنساوية إلى مصر تعلق بغلام من رؤساء كتابهم وكان بارع الجمال، حسن التيه والدلال، عالماً ببعض العلوم العربية، مائلاً إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح اللسان، مليح البيان، يحفظ كثيراً من الأشعار التي بها يتفاخر، فلهذا مال كل منهما للآخر، فعند ذلك قال المترجم الشعر الرائق، ونظم الغزل الفائق، فمما قاله فيه، من بديع نظمه وقوافيه، قوله رحمه الله تعالى:
ملكته الروح طوعاً ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك
فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك
إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك
فجاءني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك
في حلة من أديم الليل رصعها ... بمثل أنجمه في قبة الفلك
فخلت بدراً به ضاءت نجوم دجى ... في أسود من ظلام الليل محتبك
وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك
وله في آخر يسمى ريج:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر
وهات على نغم المثاني فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر
وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنى الراح بالتبر
وهاك عقوداً من لآلي حبابها ... فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر
ومزق رداء الليل وامح بنورها ... دجاه وطف بالشمس فينا إلى الفجر
وأصل بنار الخد قلبي وأطفه ... ببرد ثناياك الشهية والثغر
أريج ذكي المسك أنفاسك التي ... أريج شذاها قد تبسم عن عطر
معنبرة يسري النسيم بطيبها ... فتغدو رياض الزهر طيبة النشر
وبي ذابل الأجفان كالبيض طرفه ... مكحلة أجفانه السود بالسحر
رشا فاتك الألحاظ عيناه غادرت ... فؤادي في دمعي دماً سائلاً يجري
طويل نجاد السيف ألمى محجب ... شقيق المها زاهي البها ناحل الخصر
رقيق حواشي الطبع يغني حديثه ... عن اللؤلؤ المنظوم والنظم والنثر
يعير الرماح اللين عادل قده ... ويزري الدراري ضوء مبسمه الدر
وتحكيه أغصان الربا في تمايل ... فيرفل في أثواب أوراقها الخضر
وفوق سنى ذا الجبين غياهب ... من الشعر تبدو دونها طلعة البدر
ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي يوم جد النوى يسري
تباكى لتوديع فأبدى شقائقاً ... مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر
ولما نظم الشيخ حسن العطار موشحته التي يقول فيها شعراً:
أما فؤادي فعنك ما انتقلا ... فلم تخيرت في الهوى بدلا
فاعجب
يا معرضاً عن محبة الدنف ... ومغرماً بالجمال والصلف
ومن به زاد في الهوى شغفي ... أما كفى يا ظلوم ما حصلا
حتى جعلت الصدود ... والمللا مذهب
فتش فؤادي فليس فيه سوى ... شخصك أيها المليح ثوى
قد ضل قلبي لسكنه وغوى ... وهكذا من يحب معتدلا
لم يلق إلا تأسفاً ... وقلى مشرب
وهي طويلة مذكورة في ديوانه عارضه المترجم المذكور بقوله في معشوقه الذي ذكرناه:
يهتز كالغصن مال معتدلا ... أطلع بدراً عليه قد سدلا
غيهب
يزري بسمر الرماح إن خطرا ... ساحر جفن أمهجتي سحرا
علم عيني البكاء والسهرا ... فكيف أبيغ بحبه بدلا
وليس لي عنه جار ... أو عدلا مهرب
وضاح نور الجبين أبلجه ... أغيد عذب الرضاب أفلجه
وجه غرامي عليه متجه ... فلست أصغي لعاذل عذلا
كلا وعنه فلا ... أحول ولا أرغب
وبقيتها في ديوانه، وقال فيه أيضاً وهو مما يعتني به:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق نور البدر في صفحة النهر
إلى آخرها ولم يزل المترجم على حالته، ورقته ولطافته، مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور، والتكسب وكثرة الإنفاق والحزم في الأمور، إلى أن ابتلي بحصر البول مع الحرقة والتألم واستدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أياماً. وتوفي في يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن في الحسينية. وما أحسن ما قال القائل:
فلا سرور سوى نفع بعافية ... وحسن ختم وما يأتي من الشغب
وأمن نكر نكير القبر ثمة ما ... يكون بعد من الأهوال والتعب
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
(000 - 1230 هـ = 000 - 1815 م) إسماعيل بن سعد بن إسماعيل بن مذكور بن بكر بن عبد الله الوهبي المصري، أبو الحسن، المعروف بالخشاب: من أدباء مصر. عين مدوّنا للحوادث اليومية في عهد احتلال الفرنسيين لمصر. مولده ووفاته في القاهرة. له شعر حسن جمع في ديوان سمي (ديوان الخشاب - ط) وله (تاريخ حوادث وقعت بمصر من سنة 1120 إلى دخول الفرنسيين - خ) في التيمورية .
-الاعلام للزركلي-