أحمد باشا والي ومشير دمشق

أماكن الإقامة
  • دمشق - سوريا

نبذة

أحمد باشا والي ومشير دمشق الشام الوزير الكبير، والوالي المشير، من بهر بحسن تدبيره واهتمامه، وظهر في الناس ظهور البدر ليلة تمامه، ونهج أوج مناهج التقوى والعبادة، وكان على مرور أيامه من الكمال على زيادة، مع أدب باهر، ومذهب مستقيم طاهر، ونفس زكية، وفكرة علية، دخل دمشق سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، وكان والياً على القطعة السورية، ومشيراً على الفرقة العسكرية، فكانت له السيرة الحسنة والأوصاف المستحسنة، وأخذ الطريقة الخلوتية، عن الشيخ المهدي المغربي القاطن في الخضيرية، فسلك سلوك أهل الوصول، وتمسك من السنة بالفروع والأصول

الترجمة

أحمد باشا والي ومشير دمشق الشام
الوزير الكبير، والوالي المشير، من بهر بحسن تدبيره واهتمامه، وظهر في الناس ظهور البدر ليلة تمامه، ونهج أوج مناهج التقوى والعبادة، وكان على مرور أيامه من الكمال على زيادة، مع أدب باهر، ومذهب مستقيم طاهر، ونفس زكية، وفكرة علية، دخل دمشق سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، وكان والياً على القطعة السورية، ومشيراً على الفرقة العسكرية، فكانت له السيرة الحسنة والأوصاف المستحسنة، وأخذ الطريقة الخلوتية، عن الشيخ المهدي المغربي القاطن في الخضيرية، فسلك سلوك أهل الوصول، وتمسك من السنة بالفروع والأصول، وذلك بعد أن كان لا يصرف عمره إلا بين ريحان وراح، وأخدان تسعى له بجلب المسرات والأفراح، وقد ركب في فعاله وأقواله هواه، وأعطى نفسه ما تحبه وتهواه، فأضرب عن جميع ما كان عليه صفحاً، ومحا بحسناته سيآته وازداد فلاحاً وربحاً، فصار لا يصرف نقد عمره في غير أنفس الأعمال، ولا يحرك لسانه إلا بذكر أو صلاة على سيد ذوي الكمال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر بأحسن خطاب، أو حكم بحق على مرتكب خلاف الحق والصواب، ولم يزل يترقى أمره، ويعظم ويسمو قدره، إلى أن سلبته حلاوة الطاعة الإقبال على دنياه، وأفاضت عليه معرفة أن الإنسان هو الذي يعمل لما ينفعه في أخراه، فأهمل النظر في أمور السياسة، وتنبهت عيون ذوي الشقاوة والخساسة، ولم يزل يتفاقم هذا الحال، ويعظم أمر الجهال، إلى أن وقعت فتنة بين الدروز والنصارى في جبل لبنان واشتد بسببها الضرب والطعان، وعاثت طائفة الدروز وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهل الذمة السنات، وأخذوا البنين والبنات من حجور الأمهات، وخربوا القرايا والبلدان، وسفكوا الدماء وحرقوا العمران، ونهبوا الأموال ومالوا عليهم كل الميل، وبادرت لمساعدتهم والغنيمة معهم دروز الجبل الشرقي تجري على خيولها جري السيل، ولم يروا في ذلك معارضاً ولا منازعاً، ولا مدافعاً ولا ممانعاً، والنصارى بين أيديهم كغنم الذبح، هم وأموالهم وأولادهم وبلادهم غنيمة وربح، ودام هذا الأمر واستقام، إلى ابتداء ذي الحجة الحرام، سنة ست وسبعين بعد الألف والمائتين، وقد هرب كثير من النصارى إلى الشام، ظانين أن الحكومة تحميهم من الدروز اللئام، فصارت الدروز تدخل إلى الشام بأنواع السلاح، ويخاطبون الأشقياء بقولهم كنا نظن بكم الفلاح، لقد أخلينا البر من النصارى، وأنتم عنهم كأنكم سكارى، فاذبحوهم ذبح الأغنام، وأذيقوهم كأس الحمام، واغنموا ما عندهم من الأموال والأمتعة الكلية، وأن الحكومة بذلك راضية مرضية، ولو لم يكن لها مراد بذلك، ما مكنتنا من إذاقتهم كؤوس المهالك، والوالي ساكت عن هذا الأمر كأنه لم يكن عنده خبر، حتى ظن أكثر القاصرين أن هذا الواقع عن أمر شاهاني صدر:
يمضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وما زالت الأشقياء تتطاول أعناقها، وتتزايد لهذه الأفعال أشواقها، والدروز في كل وقت يجددون لهم همة، ويتواردون عليهم أمة بعد أمة، وقد قامت لديهم الأفراح، وزالت عنهم برفع القيد الهموم والأتراح:
أمور تضحك السفهاء منها ... ويخشى من عواقبها اللبيب
وصاروا يتكلمون بكلام، لا يليق إلا بالأشقياء اللئام، كقولهم حنا يقول لنخلة، إسماعيل الأطرش حرق زحلة، وأمثال ذلك خصوصاً مما يدل على التخويف والتهديد، وصارت الأولاد تقوله على طريقة الأناشيد، فذهب بعض النصارى إلى والي البلد، لينقذهم من هذا الهم والنكد، وكان ذلك يوم الاثنين من ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وسبعين من هجرة سيد الأنام، فأمر الوالي بالقبض على بعض الأولاد، فمسكوا منهم جملة وقيدوهم بالحديد وأمروهم بالكنس والرش تأديباً لهم عن هذا الفساد، فقامت عصبة جاهلية في باب البريد من الجهال الطغام، ونادوا بأعلى صوتهم يا غيرة الله ويا دين الإسلام، وكان الوقت قبيل العصر من ذلك اليوم المرقوم، وتلاحقت الأشقياء إلى حارة النصارى كأنه لم يكن عليهم بعد ذلك عتب ولا أحد منهم على فعله مذموم، وأقبلت عليهم الدروز أفواجاً أفواجا، واشتغلوا بالحرق والقتل والسلب والنهب أفراداً وأزواجا، فأنشأت في الحال خطبة وخطبتها في جامع كريم الدين في الميدان بحرمة هذه الأفعال، وأنها موقعة لأربابها في أودية النكال، وأنهم محترمون لا يجوز لهم التعرض بحال، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن تعرض لهم بسوء فقد باء بالخزي والنكال، فانكف أهل الميدان عن سفك الدماء، واجتلبوا ما قدروا على اجتلابه من الرجال والنساء، لحمايتهم من الأشقياء.
لنصرة الحق قد قاموا بأسرهم ... وربهم باليد العليا لهم نصرا
صانوا الحريم مع الأطفال واحتسبوا ... على الغريم برب للورى فطرا
لما استقلوا بميدان الوغى كملا ... من كل قرم يفوق الليث لو زأرا
فالله بالمدد العلوي أيدهم ... من كل سوء ومن عاداهم خسرا
هم الكرام لهم في كل حادثة ... غوث الصريخ وبذل وافر وقرى
جزاهم الله خيراً عن جميع بني ... دمشق والأجر عند الله لن يترا
والوالي ما زال على إهماله، وسكوته وعدم سؤاله، غير أنه عين للمحافظة أربعة من الأعيان، اثنين من المدينة واثنين من الميدان، فقام من كان من الميدان حق الحماية، وقصر من عداهما في البداية والنهاية، غير أن سعادة الأمير المعظم، والكبير المفخم، حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل كامل همته في ذلك، وبذل أمواله ورجاله في خلاص من قدر عليه من المهالك، واستقامت النار تضطرم في حارة النصارى سبعة أيام، والناس فوضى كأنه لم يكن لهم إمام، فلما أحضروا من أحضروه من النصارى إلى الميدان، وقد امتلأت البيوت أخذنا نطوف عليهم نهنيهم بالسلامة ونطيب قلوبهم بالأمن والأمان، وكنا ما نرى منهم غير دمع سائل، وبصر جائل، وقلب واجف، ورجاء قليل وبال كاسف، وهذه تقول أين ولدي؟ وهذه تقول قد انفلق كبدي، وهذه تقول مالي، وهذه تقول كيف احتيالي؟ والرجال منهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وقد ذهب عنهم البهاء والجمال، وأوقعهم المقدور في الضيق والنكال، فلم نستطع الصبر عن البكاء والنحيب، وكدنا مما رأينا أن نذهل عن نفوسنا ونغيب، فيا لها من مصيبة ما أعظمها، ونكبة ما أجسمها، قد أبكت ذوي الرحمة بدل الدمع دما، وكادت أن تثبت لهم بعد الإبصار العمى، ثم ذهبنا جملة كبرى من الميدان لعلنا نجد حياً نخلصه ونقيه، وننقذه من أيدي من يريد قتله ولا يبقيه، فلم نجد غير من أمضى عليه حد الحسام حكمه، وأنفذ فيه جور الأيام ظلمه، فمنهم من استولى القضاء المحتوم، ومنهم من قد بلغت الروح الحلقوم، وما ترى في محلتهم من مغيث سوى كلب عقور أو شقي خبيث، والأرض رويت من دمائهم، وتعطلت الأماكن من أسمائهم، وعاد صبح جمالهم عاتماً، وأقامت محلاتهم عليهم مآتماً، فخروا على الوجوه والأفواه، وصعقوا على الصدور والجباه، وغدوا صرعى تسفى عليهم الشمال والجنوب، بعد أن وقعوا في أسنة المكاره والخطوب، صرعى على وجه الأرض، معفرين كأنه يوم النشور والعرض، قد افترشوا التراب بدلاً من الأرائك الحسان، وتضرجوا بالدماء بعد التضمخ بالمسك والزعفران، وغدا مصرعهم من نجيعهم مشوباً بالحمرة والسواد، ولبست نساؤهم لأجلهم ثياب الحزن والحداد، وصارت لحومهم للوحوش ولائم، والطيور عليها ما بين هابط وحائم، والنار تلعب ألسنتها في تلك القصور، وقد جعلتها رماداً بعد زينتها بالولدان والحور:
النار في ضرم والدمع منهمل ... لعظم خطب له الأحزان تتصل
لا الدمع يطفىء نار الحزن من كبد ... ولا لحر لظاها ينشف البلل
مصيبة عظمت حتى لقد صدعت ... قلب اللبيب فأضحى وهو منذهل
ولما علم دروز الجبل الشرقي أن أهل الميدان، قد أدخلوا النصارى في حصن الأمان، ووضوهم في أماكنهم مع عيالهم، واجتلبوا لهم سرورهم بقدر الإمكان وراحة بالهم، تجمعوا وتحزبوا وتوجهوا إلى الشام، إلى أن وصلوا إلى أرض القدم بالكبرياء والعظمة والاحترام، ثم أرسلوا خبراً إلى الميدان إما أن تسلمونا النصارى لنذيقهم كؤوس المنية، ونبيدهم بالكلية، وإما أن ننشر بيننا راية القتال، ونطوي بساط السلم واستقامة الحال، فبرز أهل الميدان إليهم بروز الأسد، وقالوا لهم بلسان واحد ليس لكم على قتالنا من جلد، أظننتم أنكم تصلون إليهم، وتحكمون بما تريدون عليهم، إن ذلك أمر محال، إياكم أن تتوهموه بحال، إننا وحق من أحيا الأشباح بالأروح، لا نسمح لكم منهم بقلامة ظفر وليس لكم في مطلوبكم من نجاح، وكثر القيل والقال، وكانت البيداء قد امتلأت من الفرسان والأبطال، وتجمع الصفان، وتقابل الصنفان، وارتفع العجيج وعلا العجاج، وكثر الضجيج من كل الفجاج، وأشهر كل سلاحه، واعتقد أن في قتل عدوه فلاحه، وأن شرر الموت ينقدح من ألحاظه، ويفصح بصريح ألفاظه، فلما رأى الدروز ما كان، من المشاة والركبان من أهل الميدان، علاهم الوجل، وقد خاب منهم الأمل، وضاق بهم من الأرض فضاؤها، وتضعضعت من أركانهم أعضاؤها، فتنازلوا عن العناد إلى الوداد، وقالوا نحن العين وأنتم لها بمنزلة السواد، وليس لنا عنكم غنى، وأنتم لنا غاية المنى، ونزيلكم عندنا مصون، ومن كل ما يضره مأمون، والذي وقع منا كان هفوة مغفورة، وسقطة هي بعفوكم مستورة، فقابلوها بالسماحة والغفران، ونحن وإياكم أحباب وإخوان، ثم تفرقوا بعد الوداع، وانقاد كل منهما للسلم وأطاع، وتفضل الله وأنعم، وحسم مادة الشر وتكرم.

ولا زال أهل الميدان في الليل والنهار، يحرسون النصارى من الأشقياء والأشرار، إلى السادس والعشرين من محرم الحرام، دخل الشام محمد معمر باشا ومعه أربعة آلاف جندي من عسكر النظام، وفي غرة محرم سن سبع وسبعين، دخل خالد باشا المصري للنظر في أمر هذه الخيانة، وكان قبل دخوله بيوم قد سافر أحمد باشا المذكور أولاً إلى بيروت متوجهاً إلى الآستانة، وفي حادي عشر المحرم الحرام، دخل ناظر الخارجية فؤاد باشا إلى الشام، مرخصاً من قبل الدولة وباقي الدول، مهما شاء أجرى ومهما أراد فعل، ومعه عوضاً عن أحمد باشا المترجم المذكور عبد الحليم باشا المشير المشهور، واجتمع بالشام من العساكر السابقة واللاحقة نحو ثلاثين ألفاً، ثم بعد ثلاثة أيام، أمر بعقد مجلس عام، وطلب فيه مأخوذات النصارى ومسلوباتهم، ومغصوباتهم ومنهوباتهم، وذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم، وشدد غاية التشديد، وأكد أعظم تأكيد، ولما أصبح صباح الجمعة سادس عشر المحرم، وجد الناس أثمان الشام قد امتلأت من العساكر، وقد أغلقوا أبياب البلد ولم يعرف أحد ما الأمر إليه صائر، فدخل على الناس من الهم والكدر، ما هو عبرة لمن اعتبر، وهذا أول الامتحان على ما سلف من القباحة والعصيان، حمانا الله من شر الفساد والطغيان، ووقانا من حيف الزمان، ثم إن الحكومة أرسلت لكل ثمن مأموراً لتحصيل المسلوبات، وجمع المنهوبات، وقد حصل التنبيه بأن من عنده شيء فليأت به ولا يخفيه، فبادر الناس بالإحضار، وصار من عنده شيء كأنه قد اشتعلت به النار، ودخل على الناس من الوجل ما يستصغر عنده حضور الأجل، وصار بعض الناس يلقون ما عندهم في الطريق ليلاً للتستر والكتم، وذهب شعورهم لما اعتراهم من الخوف والوهم، وصاروا يقبضون على بعض الناس ويحبسونهم في التكية، ولا يعلمون ما يجري عليهم من البلية، واستدام جمع المسلوبات إلى ثاني وعشرين محرم، ثم صارت النصارى تتشكى للحكومة على بعض الناس، وتفاقم الأمر واشتد الالتباس، فهذا يقول هذا قتل ولدي، ويقول الآخر قتل والدي، ويقول الآخر أخذ مالي، ويقول الآخر تعرض لأطفالي، وزال الائتلاف وزاد الاختلاف، والعساكر تقبض على من يتهم سواء كان من الأصناف أو من الأشراف، حتى اجتمع في التكية نحو ثلاثة آلاف، ثم إنه في غرة صفر أعيد أحمد باشا السر عسكر من الآستانة إلى الشام، معزولاً من منصبه ومفوضاً أمره إلى فؤاد باشا يحكم عليه بما رام، فصار إلى الحبس صاغرا، وقد تحول إلى الذل بعد أن كان ناهياً آمرا، عضته أنياب الاعتقال، ورضته تلك النوب الثقال، وعوض بخشونة العيش من اللين، وكابد قسوة خطب لا تلين، تذكره عهد عيشه الرقيق، ومراحه بين النعمان والشقيق، وحن إلى سعد زرت عليه جيوبه، واستهدى نسيم عيش طاب له هيوبه، وتأسى بمن باتت له النوائب بمرصاد، ورمته بسهام ذات اقصاد، وضيم ليس له خلاص، وقد أعلمه الحال بأنه حان حينه ولات حين مناص، وعظمت عليه القضية، وأترعت له كؤوس المنية، واسودت بعد البياض أيامه، وقوضت من عراص الحياة خيامه، فوضع في الحبس كغيره، ولم يدر عاقبة أمره أينتهي إلى شره أم إلى خيره، وفي ثاني صفر يوم الأحد عمل فؤاد باشا مجلساً خصوصياً خفياً لم تمسه يد الإعلان، وقد اجتمع فيه العلماء والصدور والأعيان، لم يطلع أحد على ما حصل من المذاكرة فيه، ولا علموا بظواهره ولا خوافيه، غير أنهم علموا بأن فؤاد باشا قد قسم ذوي الجنايات إلى ثلاثة أقسام سالب ومهيج وقاتل مرتكب للإعدام، ولم يعلموا غير ذلك، والله أعلم بما هنالك، فلما أصبح الناس يوم الاثنين ثالث صفر وجدوا سبعين رجلاً قد صلبوا مفرقين في البلد، من أهل الشام الذين كان أكثرهم عليه في الوجاهة يعتمد، وفي خامس صفر تعاظم الشر، وتفاقم الضر وطم الغم، وانتشر وعم، حيث حبس عالم الشام وفاضل الأنام الشيخ عبد الله الحلبي في دار البلطجية، وعمر أفندي الغزي في التكية، ومفتي دمشق طاهر أفندي، وأحمد أفندي الحسيبي، وعبد الله بك العظم، وسعيد بك بن شمدين آغا، وعبد الهادي أفندي العمري وأحمد أفندي العجلاني نقيب الأشراف، وصالح آغا المهايني وغيرهم من الصدور، كل واحد بمحل بمفرده لا يدخل عليه أحد غير خدمة ولاة الأمور، وكانوا يستنطقونهم في كل يوم، لينظروا ماذا يترتب عليهم من اللوم، وفي سابع صفر أمر فؤاد باشا بتفريغ بعض البيوت لسكنى النصارى المصابين، ففرغوا من بيوت القيمرية والقنوات وباب توما والسماكة والشاغور، وبعض بيوت باب المصلى بمقدار ما يكفيهم أجمعين. وفي تاسع صفر عادت العساكر إلى الأثمان طالبين من الناس أربع نمر، لإدخالها في العسكرية الشاهانية ذات القدر والخطر، فجمعوا من الناس عدة وافية، وفي خامس عشر صفر كتبوا على مشايخ الحارات سندات بتقديم الأنفار الباقية، وفي حادي وعشرين من صفر فرق على بعض الناس أوراق رسمية، إما بتقديم أولادهم للعسكرية أو بدفع بدل مائتي ليرة عثمانية، وشددوا عليهم في الطلب، وما نجا إلا القليل من العاجزين عن الدفع واستجاروا بالهرب، وفي ثاني وعشرين من شهر صفر حكم فؤاد باشا على أحمد باشا بالإعدام، وعلى جملة من أمراء عساكر النظام، فأخذوهم إلى القشلة القريبة من المولوية، وأعلموهم بما حصل من الأمر عليهم بالقتل فاستسلم أحمد باشا لهذه القضية، وكان صائماً وفي يده دلائل الخيرات فصلى ركعتين ثم سلم نفسه للممات، فعرضوا عليه الماء قبل إزهاق نفسه المطمئنة، فقال لا أفعل لا أفطر إلا في الجنة، فصفوهم وجعلوهم هدفاً للرصاص، وكانوا متأملين إن حسن اعتذارهم ينتج لهم الخلاص، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا راد لما حكم به وقضاه، وفي ثالث وعشرين من صفر فر فؤاد باشا إلى بيروت لمراد، وصحبته جملة من المحبوسين، فمنهم من نفاه ومنهم من أدخله للخدمة العسكرية ذات الإسعاد، وفي رابع ربيع الأول صلبوا اثني عشر رجلاً من دروز وإسلام، وفي سادس ربيع الأول قبضوا على أبي يوسف الكحال الدرزي من الحقلة ونفوه بعد أن حبسوه مدة أيام، وفي عاشر ربيع الأول قبضوا على سعيد بك جنبلاط في بيروت وصحبته بعض دروز الجبل الغربي، وفي ثاني وعشرين من ربيع الأول فرضوا على أهالي الشام خمسة آلاف فراش وخمسة آلاف لحاف وخمسة آلاف وسادة، وفي رابع وعشرين من ربيع الأول رجع فؤاد باشا إلى الشام، وفي سادس وعشرين منه أمر على ترجمانه إبراهيم بك كرامة بالحبس ثم نفاه بعد أن أذله الإذلال التام، وحينما انتقل النصارى إلى البيوت التي فرغها لهم ذلك الوزير الكبير، عين لكل فرد منهم خرجاً يكفيه من كبير وصغير، وسافر كثير من النصارى إلى بيروت واسكندرية، ليتسلوا عن مصيبتهم القوية، وفي غرة ربيع الثاني أنزلوا ورقة بدل العسكرية من مائتي عثمانية إلى مائة عثمانية، وفي رابع ربيع الثاني أحضروا علي بك العظم ومحمد صالح أفندي بن الشيخ عبد الله الحلبي ووضعوهما في الدائرة الحبسية، وفي خامس ربيع الثاني نهار السبت عند طلوع الشمس نفوا الذوات المرقومين جميعاً إلى الماغوصة ذات الغم الشديد، وفي ثاني يوم سافر فؤاد باشا وصحبته جميع العسكر الجديد، وفي يوم الثلاثاء من ربيع الثاني وضعوا في كل ثمن مجلساً مخصوصاً لجمع السلاح من أهل الشام، وبعد تمام جمعه نقلوه إلى القلعة ووضعوه تحت الحرس بكل اهتمام، وفي يوم الأحد ثالث عشر ربيع الثاني أخذوا محمد سعيد بك بن شمدين آغا الكردي وكيخية السر عسكر وهو أحمد باشا الشهيد وتفكجي باشي والشيخ عبد الرزاق القوادري وديوان أفندي وشيخ قرية دوما وغيرهم إلى بيروت تحت الحفظ، وفي سابع عشر ربيع الثاني انفصل معمر باشا والي الشام، وولى مكانه رشدي أفندي الشرواني مفتي مجلس فؤاد باشا قائمقام لا بالأصالة، وبهذا التاريخ حضر فرمان سامي من الدولة مضمونه أن فؤاد باشا مفوض الرأي في عرب ستان لا يحتاج إلى مخابرة الدولة، وفي حادي وعشرين من ربيع الثاني طرحت الحكومة المال القديم المكسور وقسطوه على ثلاث دفعات، في كل مدة ثلاثة أشهر قسط، وكل قسط بمقدار كامل الترابية، وفي خامس وعشرين من ربيع الثاني يوم الجمعة وجهت رتبة إفتاء دمشق الشام على محمد أمين أفندي الجندي، عوضاً عن طاهر أفندي المنفي إلى الماغوصة، وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني سافر والي الشام الأسبق معمر باشا إلى الآستانة لفصله من منصبه، وفي يوم سادس وعشرين من ربيع الثاني أغلق فؤاد باشا المحاكمة والتفتيش على التهمة، بحيث لو اشتك واحد من النصارى بأن فلاناً قتل ولدي أو والدي أو أخذ مالي لا يقبل منه، لأن القضية من وقتئذ انتقلت إلى البدل بالمال، وقد ألقى الباشا المرقوم خطابه على العموم بقوله قد عرف الناس أجمعون أن الحادثة المؤلمة التي حصلت في مدينة دمشق كانت جناية عظيمة مخالفة للشرع الشريف، وللقانون المنيف، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى.، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى حضر إلى الشام معتمدون من طرف الدول الأجانب الأروباوية، لينظروا بما حصل على النصارى وبما حصل من المجازاة على الأشقياء ذوي التعدي، ثم إنه في هذا التاريخ أرسل فؤاد باشا إعلانات لسائر الأثمان ليقرأ على العموم، بحيث لا يجهله أحد، ونصها حرفياً: هو معلوم لدى الجميع أن الواقعة المؤلمة التي حصلت في دمشق لم يسبق لها مثال، ولا ذكر لها نظير في التواريخ القديمة ولا الحديثة، وهي مادة فاضحة منافية لأحكام الشريعة المحمدية العادلة، ومخالفة للإنسانية والمدنية، وبما أن الله سبحانه قد كلف عباده العدل والإحسان، وأمرهم أن يتجنبوا الجور والغدر، وبما أنه فرض على ذمة ولي الأمر إنفاذ الأوامر الإلهية على الدوام، فقد تعلقت الإرادة السنية بأن تجري على الفور المعاملات التي يقتضيها الحال في هذا الباب، فأصحاب الجنايات قد لقوا تأديبهم وتربيتهم جزاء لقبائحهم وذنوبهم التي ثبتت لدى التحقيق بالبراهين الكافية، والذين أفلتوا من المجازاة الدنيوية فإنهم ينتظرون بالندم عقاب الآخرة على ارتكاباتهم، ثم لا يخفى أنه من آثار تلك الواقعة، هو أن المظلومين المصابين هم محرومون أموالهم وبيوتهم وأشياءهم، وأن كثيراً من التبعية السلطانية لا محل لهم ولا مأوى يتعيشون من الإعانة المعطاة لهم من طرف الدولة العلية، ولما كان استحصال الأسباب لإصلاح أحوال هؤلاء المصابين ورفع اضطرابهم من أخص مرغوبات الدولة العلية كان يجب على أهالي دمشق وأهالي الإيالة قاطبة صرف الهمة والجهد في هذا الباب، لأجل تطهير وطنهم من هذه النقيصة التي عرضت له، وبناء عليه ينبغي أن يعطى هؤلاء المصأبين المسيحيون مبلغاً كافياً من الدراهم لأجل تعمير بيوتهم وترميمها، ولأجل سد احتياجاتهم الضرورية، وتيسير لوازمهم، ومع أن أمر تحقيق متلفاتهم هو مباشر فيه الآن، ومعلوم أن إيفاء جميع تضميناتهم دفعة واحدة من الأهالي هو خارج عن دائرة الإمكان، وأن أمر تسوية ذلك من طرف الخزينة هو مما لا يساعد عليه الوقت ولا الحال، ومن ثم قد حصل القرار على طرح ضريبة فوق العادة على أهالي مدينة دمشق نفسها، وأهالي النواحي الأربع التي في جوارها، والقضاوات التابعة لها، وعلى طلب إعانة من بعض المحلات، وقد أعلنت صورة طرح ذلك وطريقة استيفائه في قرار مخصوص، فالدراهم المطلوبة الآن ضريبة فوق العادة، ربما ظهرت في أول الأمر كثيرة، إلا أنها تظهر لا محالة قليلة، إذا قيست بالجناية الواقعة، وحسبت القسامة الشرعية عن المقتولين الذين لا يعرف قاتلوهم، لأنه في دمشق لم يتلف المال فقط، بل أريق دماء كثيرين أيضاً كما لا يخفى، وبما أن أمر التعمير وتضمين الضرر الذي لحق بمسيحي دمشق هو من مقتضيات معدلة الشرع والقانون، تكون الدراهم التي تعطى لذلك إيقاء وظيفة وخدمة عائدة إلى المعدلة، وتكون المساعي التي تصرف وجوباً لإصلاح أحوال المصابين واسطة لتطهير ذلك القطر من وصمة الدم المظلوم الذي التطخ به، ووسيلة لزوال عارض الكساء الذي اعترى صنائعه وتجارتهن وبما أن باب الدعاوى والمحاكمات من جهة الوقوعات السابقة قد أضحى من الآن فصاعداً مغلقاً كما تبين في إعلان آخر، فمهما بذل طمعاً في استحصال كذا نتيجة لا يكون شيئاً كثيراً، وإذا كان ما طرح على كل إنسان مطابقاً لقاعدتي العدل والحقانية، لا ينبغي لأحد أن يستصعب أداء ما يلحقه من ذلك، بل يليق بكل إنسان أن يسمح بخسارة شيء من فخره وراحته بواسطة الحصة التي يؤديها حباً بدفع هكذا بلية، فإنه لا يخل برفعة واعتبار من كانت عادته ركوب جواد مسوم مثلاً إذا ركب برذوناً، ولا باعتبار من اعتاد تناول الأطعمة النفيسة المتفننة أن يقتات بالطعام البسيط، والإنسان العاقل يجب عليه أن ينظر إلى المصيبة التي أصيب بها جاره، ولا يلتفت منعكفاً على خسارته المالية، وليعلم أن تأدية ما توزع من هذه التضمينات في المدة المعينة هو فرض لابد منه، وعلى موجبه يكون إجراء العمل، ومن أظهر أدنى رخاوة أو تهاون في ذلك لا يمضي أدنى وقت عن إجراء تربيته وتأديبه، ولكي يكون ذلك معلوماً لدى الجميع قد نشر هذا الإعلان، لإصلاح أحوال سوريا فأعلموه واعتمدوه كل الاعتماد. انتهى، ثم إن فؤاد باشا تاسع جمادى الأولى عين في كل ثمن من أثمان دمشق مجلساً مؤلفاً من أعضاء ورئيس، لكي يطلبوا أنفاراً ودواب لتعزيل حارة النصارى من التراب، لتيسير عمارتها وإعادتها، ونظير ذلك في القرى المجاورة لدمشق من مسافة عشرة أميال إلى سور البلد من النواحي الأربع، وأرسلوا كذلك مأموراً بأن يقطع الأخشاب اللائقة للعمارة، ويحضرها إلى محلة النصارى، وفي غرة جمادى الثانية حصل الأمر بعد الأنفس، وقد تمت دفاتره في غاية رمضان، فانتهى في مدة أربعة أشهر، وفي سابع عشر من جمادى الثانية أرسلوا جملة من العساكر إلى أربع قرايا حول الشام سكانها من الدروز، وهي صحنايا والأشرفية وجرمانة والدرخبية، فقبضوا منهم على نحو مائة شخص، وحرقوا جرمانه، ووضعوا الأشخاص في الحبس، وفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الثانية دخل الشام واليها أمين باشا، وفي يوم الأربعاء ثاني رمضان توفي عمر أفندي الغزي في قلعة الماغوصة، وفي عشرين من رمضان وجهت النقابة إلى الشيخ أحمد الكزبري، وفي ختام رمضان توفي جناب أحمد أفندي النقيب في رودس، وفي عاشر شول فرض على الشام ألفان وثمانمائة كفية منضا بولاد للعساكر الشاهانية، وفي سادس وعشرين من شوال جمع فؤاد باشا جملة من أهل البلد وتلا عليهم ما قر قراره عليه من فرض أموال العمارة حارة النصارى، وأنه سينشر لها قانوناً مخصوصاً مفصلاً، وفي غاية شوال سافر فؤاد باشا ومعه حرمه إلى بيروت، وفي عشرين من ذي القعدة الحرام أرسل فؤاد باشا القانون الموعود بذكره وسماه قرار الضريبة، وإعانة فوق العادة المطروحة الآن على أهالي ولاية الشام، فأرسلوه إلى مجالس الأثمان ورؤساء النواحي ليعملوا بمقتضاه مع التشديد ببذل الهمة، وهذا القانون مؤلف من إحدى وعشرين مادة مفصلة، وأنا أذكرها لك مجمله، لطول تفصيلها المخرج لنا عن نهج الاختصار المطلوب. ونص مقدمته: بما أن أناساً كثيرين من التبعة السلطانية المسيحيين قد نهبت أموالهم واحترقت بيوتهم في خلال المصيبة التي ألمت بهم، في الوقعة المؤلمة المعلومة التي نشبت في دمشق، فكان من مقتضى المعدلة السنية النظر في تضمين أضرارهم، وإصلاح أحوالهم، فلهذا حصلت المبادرة لتخمين كمية هذه التضمينات وتعيينها، على وجه الحقانية، وسيظهر مقدارها، وكيفما كان لابد أن يتبين أن ذلك مبالغ جسيمة، وكما أن هذه الوقعة نشأت في البلدة المذكورة بالمشاركة مع القرى الواقعة بأطرافها، فكذلك أهالي بعض القضاوات كانوا مشتركين في الوقعة المرقومة، وفي الوقوعات التي حدثت في سائر جهات الولاية، ولهذا أضحى يلزمهم أيضاً أن يتحملوا جميع هذه التضمينات، التي لو أخذت بتمامها من دمشق ونواحيها والقضاوات التابعة لها لما كان شيئاً مغايراً للعدل، نظراً للجناية الواقعة، لكن بما أن هذا موجب لخراب الأهالي بالكلية الذي لا يمكن تجويزه، فالسلطنة السنية مع ما هي فيه من أنواع المصارف والمشكلات صارت مضطرة أن تعطي خزينتها الجليلة، من أصل هذه الدراهم، المقدار الخارج عن درجة تحمل الأهالي، وهكذا من كون تحصيل المبلغ المقتضى أخذه من الأهالي في دفعة واحدة موجبة لزيادة التضييق عليهم، رئي أن يتحصل منهم جانب في دفعة واحدة، والباقي يعطى من خزينة الدولة على شرط أن يتحصل فيما بعد من الأهالي بالتدريج، في الأوقات المناسبة المعتدلة، على أن تلك الدراهم التي ينبغي أخذها منهم دفعة واحدة تتحصل في أقرب وقت، لكي يعطى لكل من مصابي المسيحيين المتعيشين من الإعانة مقدار على الحساب من أصل تضميناتهم، ويحصل التشبث حالاً في مقدمة أسباب إصلاح أحوالهم وإعادتها، ويغلق مع هذا باب كبير دعاوي الجناية، ويستحصل أمر حسن الائتلاف المهم المطلوب دوامه بين الأهالي، وكما أن أهالي تلك المحلات المشتركين في هذه الوقوعات، والمتداخلين بها يجب عليهم أن يؤدوا إتاوة فوق العادة لأجل التضمينات، والسلطنة السنية قد اختارت من الفداية أنواعاً كثيرة في سبيل إصلاح هذه المصيبة ومحو آثارها، فهكذا يجب على سائر أهالي المملكة بحسب حميتهم المجبولين عليها أن يعطوا على غير معنى المجازاة، إعانة على مقدار درجة تحملهم لأجل دفع هذه البلية التي عرضت على وطنهم العمومي، وبما أن الملكية التي يقتضي إعطاؤها من طرف خزينة الدولة لأجل عموم التضمينات، والحصة التي يجب على الأهالي إيفاؤها مع المبالغ المقتضي أخذها بالتدريج، سوف تعرف مقاديرها في ختام تخمين التضمينات، فقد نفذ الحكم الفصل من لدن مأمورية فوق العادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة. لعادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة.
المادة الأولى إن المبلغ الذي تعين أخذه دفعة واحدة من إيالة الشام، على حساب عموم تضمينات الوقوعات السابقة، بشرط أن يستثنى من ذلك الأهالي المسيحيون، وأولئك الأشخاص المعلومون الذين شوهدت منهم الخدمة في الوقوعات المذكورة، بلغ لدى الحساب تسعين ألف كيس، فمن ذلك مبلغ خمسة وثمانون ألفاً وسبعمائة وسبعة وستون كيساً ينبغي طرحها على المحلات المتداخلة في الوقوعات المعلومة، التي هي أولاً نفس مدينة دمشق، ثانياً قرى النواحي الأربع، ثالثاً قضاوات بعلبك والبقاع وحوران وجيدور وجبل الدروز الشرقي وحاصبيا وراشيا، ويكون تحصيلها منهم جزاءً نقدياً وضريبة فوق العادة، وأربعة آلاف ومائتين وثلاثة وثلاثون كيساً تتمة المبلغ، ينبغي تحصيلها على صورة الإعانة من قضاوات حمص وحماة وحصن الأكراد ومعرة النعمان وعجلون والقنيطرة وايكى قيولى.

المادة الثانية محصلها تسهيل تأدية مبلغ التسعين ألف كيس بأن يحسب منها ثمن الأخشاب وأجرة إزالة التراب من حارة النصارى، وكيفية جمع الأموال، وهكذا بقية المواد إلى آخرها كلها متعلقة بالبيان والتفصيل والتخصيص بمقادير مخصوصة على المحلات القريبة والبعيدة مما لا حاجة إلى ذكره، بعد معرفة إجمال المقصود وبيانه مما ذكرته. فلما علم الناس هذا الحال ضاق أمرهم لذلك، وصاروا يبيعون متاعهم وأثاث بيوتهم في هذه المصيبة التي كانت سماً قاتلاً على النصارى والمسلمين، فكأنه انتقام على أمر عظيم أصاب الناس جميعاً صالحهم وطالحهم، نسأل الله العافية وأن يلهم الجميع صبراً، وأن يعوضهم خيراً وأجراً. ثم بعد تمام هذه الأحوال، وترتيبها على هذا المنوال، وجهت الصدارة العظمى لفؤاد باشا وطلب إلى دار السلطنة المحمية فخاطب أهل سورية عموماً وخصوصاً بهذا الإعلان، وهو قوله:
يا أهل سورية إنني سأفارقكم نظراً لتوجيه خدمة الصدارة علي من إحسان حضرة ولي نعمتنا مولانا السلطان المعظم، وبما أن الوقائع المؤلمة التي نشبت أظفارها في العام الماضي بهذه الجهات، وكانت موجبة لنفور أهل العرض قد زالت ولله الحمد آثارها الرديئة، بظل ظليل التوفيقات السلطانية، واستقرت راحة المملكة وأمنيتها، وحصل التشبث باستحصال الأسباب الموجبة إصلاح أحوال الأهالي المصابين، ترونني الآن راجعاً إلى دار السعادة مصحوباً بالتسلية الوحيدة، وهي أنني أشاهدكم إن شاء الله تعالى في وقت قريب بحالة سعيدة، تنسيكم الحالة التعيسة التي أصابتكم قبلاً، وبما أن المأمورية المحولة لعهدتي، هي بدون استثناء خدمة لحصول آثار النية السلطانية الشفوقة تماماً نحو كافة التبعة الملوكية، وحال اجتهادي بذلك سأعتني بالأخص في أشغال هذه الجهات، لكوني من بعد الآن أعتبر ذاتي سورياً قلبياً، وعلى وفاق الأمر الواجب الإذعان الملوكاني، قد أحيلت محافظة صيانة المملكة واستودع إصلاح تأمين أحوال الرعية لعهدة مشير المعسكر السوري السلطاني، حضرة صاحب الدولة عبد الحليم باشا، وصفات المشار إليه وغيرته واستقامته الثابتة، تمنح الكفالة اللازمة للجميع، وكافة المأمورين الكرام أيضاً هم ومن بدوائرهم من كونهم سيصرفون الإقدام التام بهذه الخصوصات، لا ريب بأن الجميع يكونون مستريحي البال في ظليل الاقتدار السلطاني، إذ لا يحصل أدنى نقصان في آثار المراحم الملوكية التي صرفت حتى الآن نحو الأهالي المصابين، فيجب في مقابلة ذلك أن جميع الأهالي تكون حركاتها موافقة لآثار أفكار الحضرة السلطانية الخيرية، ويكون كل صنف من التبعة متمسكاً بقاعدة الاتحاد وحب الوطن وخدمته، والقيام بإيفاء أوامر الدولة والوظائف السلطانية بالتمام، كما هو المأمول بحميتهم، وبما أن حضرة المشير المشار إليه مأذون بإجراء التأديبات السريعة الشديدة بحق الذين يتجاسرون سواء كان شخصاً أو جمعية على وقوع أدنى حركة مغايرة للرضى العالي، اقتضى إشهار هذا الإعلان من مقام الصدارة العظمى، ليحيط الجميع علماً بما فيه ويتجنبوا مخالفته انتهى.
ثم إنه بعد ذلك استقامت الأحوال، وأخذ الكرب الشديد يميل نحو الاضمحلال، وابتدأت المحبة تعود بين عموم أهل الوطن، وزالت عن الجميع تواترات المحن، وتألفت القلوب، وتنحت الكروب، وكاد أن يعود الوداد إلى أصله، واضربت الظواهر صفحاً عما كان ذلك الكرب والغم من أجله، إلى أن أعاد الله المحبة القديمة، والراحة العميمة، وحقت كلمة العذاب على أهل الشقاء، ودارت عليهم والعياذ بالله دوائر البلاء. فالحمد لله على راحة العباد، وعود المحبة بين العموم والوداد، وقد تم الكلام على هذه الحادثة بالاختصار الغير المخل، ولو أردت ذكرها بتفاصيلها وتفاريعها لأدى ذلك إلى الإسهاب الممل. والله أعلم.

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.