الشيخ أحمد الكاملي المغربي المراكي المالكي البصير
أبي العلا زمانه، وابن جلا عصره وأوانه، هو في ميدان البيان أوحد في بيانه، وكأنما حشر عالم الفصاحة بين فكره ولسانه، فلا ريب أنه إنسان طرف الأدب ومقلة مآقيه، وفارع هضبة الأرب وراقي مراقيه، زرت على المعارف أطواقه، وما اهتاجت إلا للعوارف أشواقه، وهو من لطف الطبع أرق من الصهباء في رونق الصبا، ما ذاق إنسان طعم مفاكهته إلا مال إليه وصبا، ذو مذاكرة يتسلى بها المهموم، ومحادثة يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم، وشعر يشعر بأنه ابن النظم والنثر، ونثر يزدري بنثر اللآلي والدر، غير أنه مكفوف البصر، دميم الخلقة لا يحسن إليه النظر، أنقر الوجه كثير السمن، قصير القامة تارك للفريضة والسنن. حضر إلى الشام في سنة تسعين، ورؤيته تحكم بأنه لم يتجاوز من العمر الخمسة والثلاثين، فقصده للزيارة الصدور والأعيان، وكان لا يدخل عليه أحد قبل الاستئذان، وكان مظهراً للعظمة والإجلال، والانفراد بالأدب والعلم والمال، فكثرت في الناس شهرته، ودارت بين الأهلين سيرته، ونظر إليه العموم بعين الإجلال، واختلفت فيه آراء أولي الكمال، وتمنعت عنهم معرفة حقيقته، لعدم تمكنهم من الاجتماع به إلا بعد إرادته:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فكان يكلم كل إنسان، بما كلمه به بأفصح بيان، فكل من ذاكره بفن من الفنون، يظن أنه فرد ذلك الفن المصون، وكان يحفظ من القصص والحديث، ما يوهم أنه لم يترك شيئاً من قديم وحديث، وكان كثيراً ما يتكلم بلسان العرفان، ويتمايل عند كلامه تمايل النشوان، ويذكر بديع عباراتهم، ورفيع إشاراتهم، فيخاله من له بهذا الفن بعض إلمام، أنه الشيخ الأكبر أو شيخ بسطام، وكنت أنا وبعض أحباب لي من الأدباء نجتمع به في غالب الأيام، ولم نقصده مرة إلا وقيل لنا ادخلوا بسلام، فيحدثنا ببديع الغرائب، وأعجب العجائب، وبما اتفق له في رحلته، من حين خروجه من بلدته، مما يدهش العقول، ولم يوقف له على تأييد منقول، فيقول بأنه رحل إلى الهند والصين، وبلاد الترك والعجم والممالك الأوربية، ومكث مدة سنين حتى تعلم ألسنة الجميع، ونظم في كل لسان ونثر من كل بديع، وكان يسرد لنا من قصائده بكل لسان لا نفهمه، ولا ندريه ولا نعلمه، ويحكي لنا ما اتفق له في هذه الممالك من غريب الخبر، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. غير أن لوائح المين عليه لائحة، ونوافح الوضع عليه نافحة، ثم إنه من أعجب العجاب، أنه له قوة وفصاحة تدعو السامع إلى الإصغاء له كالإصغاء إلى الصواب، وكلنا يقول عند الخروج أنه ليس له عن الباطل خروج.
لي حيلة فيمن ينم ... م وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
لكنه بين العموم مستور، وحقيق أمره عند غيرنا ليس بمشهور، وكان يصرف من المال صرف الأعيان، وكل منا في معرفة ذلك مدهوش وحيران، ثم بعد أن ارتفع بيننا الحجاب، وصارت حالتنا معه حالة الإخوان والأحباب، جعل في بعض الأحيان يتحدث بالغلمان والشراب، ويتواجد لهم تواجداً موقعاً في الارتياب، فدلنا صريح مقاله، على حقيقة حاله، ولم نقدر على ترك مجالسته، لما عنده من ذكائه وحفظه وفصاحته، ثم إنه استخدم غلاماً يزري بالقمر، في ليلة أربعة عشر، فأكثر الناس عليه القيل والقال، وأخرجوه عن دائرة الاعتدال، وعرفوا ما أكنه وأسره، وسلبوه ما كان عنده من الفرح والمسرة، وأسمعوه ما كدر صفوه، وأخرجوه من دائرة المروءة والنخوة، وعلموا حاله، واستقذروا أوحاله، فلما عرف ذلك أخذ غلامه وسافر إلى سنوس، وهو من تزكية الناس له مأيوس، فغاب مدة طويلة ثم حضر، فلم يجد من الإقبال الذي كان له من أثر، فمكث مدة ثم ذهب بغلامه إلى الاسكندرية، فلم تمض مدة طويلة إلا وقد بلغنا عنه أخبار دنية، وهو أنه كان من أهالي الاسكندرية رجل يقال له الأحمدين، وقد اشتهر في التجارة والغنى اشتهار الفرقدين، فاجتمع بالمترجم المذكور، وسمع من كلامه المزدري بعقود النحور، من وعظ ورغائب، ودعوى وصول إلى أعلى المراتب، وكان الرجل من أهل الصلاح، والطاعة والنجاح، فتعلق به تعلق الأرواح بالأشباح، ولازمه ملازمة النور للمصباح، ولم يزل يسحره ببديع كلامه، ويعده بالوصول إلى مرغوبه ومرامه، وأنه سيرى سيد الأنام، في اليقظة لا في المنام، فيسأل له المطلوب، ويوصله لكل مرغوب، فصدق الرجل قوله، وأضاف إليه قوته وحوله، وانقاد إليه أشد الانقياد، وقدمه على الأهل والمال والأولاد، فلما عرف المترجم منه زيادة حبه، وأنه استولى على عرش لبه وقلبه، صار يقول له إن رسول الله صلى الله عليه يريد أن يريك ذاته الشريفة غير بعيد، ولكن يأمرك أن تعطيني من المال كذا وكذا لأعطيه لمن أريد، ولا زال يأخذ منه من المال، ويعده ببلوغ الآمال، إلى أن قال له إن قصدي أن أزور الشام وآتيك بعد مدة من الأيام، فكتب الرجل لبعض أحبابه أن يتلقوه بالإكرام ويبذلوا الهمة في إكرام جنابه، فكان يصرف من مال الأحمدين، والناس يستغربون ولا يعلمون هذا المال من أين، إلى أن ذهب هذه المرة إلى الاسكندرية، وصارت أكاذيبه على الأحمدين غير خفية، تعلق به تعلق الدائن بالمديون، وقال له لقد أخذت مالي بالأكاذيب والمجون، واشتكى عليه لحاكم البلد، فأحضره وسأله فانكسر ذلك وجحد، فأثبت ذلك عليه، وحجز على ثيابه ومتاعه، فلم يجد شيئاً من المال لديه، فلما عرف الحاكم بذلك. أضمر له الإيقاع في المهالك، فأعلم بذلك أمير مصر القاهرة، وأرسل إليه تفصيل هذه القضية الباهرة، فأمر بنفيه إلى فاس، ونفي غلامه إلى طنجة، بعد ذاك البهاء والبهجة، وبعد ذلك لم نقع لهما على خبر، ولم نقف لهم على نقل أثر، ومن كلامه وبديع نظامه:
قدس الله عالماً جئت منه ... وسقته سحائب الأنوار
طالما جبت فيه بين أملا ... ك كرام ضحاضح الأسرار
ثم أهبطك المليك كما أه ... بطني لمنازل الأغيار
ليتم مراده فله الحكم ... علينا سبحانه من باري
فاصبري وتجلدي واحمدي الل ... هولا تجزعي من الأكدار
واعلمي أن كلنا قاسا ما سو ... ف تقاسين من خطوب ضواري
في وعاء من التراب كثيف ... ذي ظلام مضيق من هار
كل ما نحن فيه يسهل لولا ... أن نار الحجاب ذات استعار
غيرت بهجتي فانطبخت الط ... ين فصار الجميع كالأحجار
وإلى الله أشتكي من حجاب ... عاقني عن مناهل الأبرار
ومن كلامه:
يا كريم لقد فعلت كما تع ... لم كل صغيرة وكبيرة
عالماً أنها ذنوب وأني ... مستحق من العذاب سعيره
غير أن الكريم بشر قلبي ... بنعيم فلا عدمت بشيره
توفي حدود الألف والثلاثمائة.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.