الشيخ الإمام العالم الأديب أحمد بن علي اليافي
فاضل لا يبارى، وعالم في ميدان الفضائل لا يجارى، قد عكف من صغره على العلم والعمل، وحاز منهما على البغية والأمل، وله من النثر والنظام، ما تستعذب الأسماع تلاوته على مرور الليالي والأيام، ومن ذلك ما قدمه للتهنية لخليل أفندي المرادي حين ولي إفتاء دمشق الشام فقال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه مقامة يافوية، لمن حفه الله بكل فضل ومزية، حكى عبد الله بن مسلم فقال ما زلت مذ نيط علي الإزار، وبلغت خمسة أشبار، مقبلاً على الأعلام والعلوم، وراغباً في تحصيلها بالحدود والرسوم، راغباً عن الأعلام والرسوم، فسايرت العلماء، وسامرت الأدباء، حتى صار لي ذلك شنشنه، وذكرت به في جميع الألسنة، فبينما أنا راتع في تلك الرياض، ووارد عذب تلك الحياض، أجتني من تلك الأثمار، وأقطف من هاتيك الأزهار، إذ هتف بي هاتف، وأنا في خلال أشجارها طائف، فراعني كمال الارتياع، وقرع مني صماخ الأسماع، وقال لي أين أنت عما نقل من الإجماع، قلت يا ذا وعلى ماذا الإجماع، قال على وجوب معرفة الله، عز وتعالى عن الأشباه، وعلى معرفة صفات الإكرام والجمال، ومعرفة صفات التنزيه والجلال، فتأملت الهاتف بحقيقة النظر، فإذا هو علامة البشر، والعقل الحادي عشر، فقلت أرشدني إلى من يفهمني ذلك، ويخرجني من ربقة المهالك، فقال اقصد علامة الأنام، ومفتي الخاص والعام، القاطن بمحمية دمشق الشام، فلعمر الله إنه فاضل مجيد، يرشدك إلى معرفة التوحيد، ففوضت عنان السفر، ورحلت لأنظر حقيقة الأمر، فما زلت كأني تائه، أجوب الربا والمهامه، وأجد السير والسرى، وأتصفح وجوه البلاد والقرى، أسمع الثغام والبغام، وأقد ظهران النعام، حتى توسمت ربى مدينته، ولاحت لي أنوار طلعته، بعثت رائدي وسفيري، كما هو دأبي في مسيري ليتحقق لي الخبر، وأميط عني وعثاء السفر، فمكثت هنيهة، وأنا على أحسن هيئة، فحضر وقال أنا لك البشير، فقد استشرفت على العالم النحرير، هذا سيبويه النحو والرضي، وابن هاني في شعره وبيانه المضي، إلى أن قال: فلما رأيته تبسم، وكان قد تلثم، تأمله ناظرين وتوسمه خاطري، فإذا هو البحر الغطمطم الزخار، والحبر الذي لا يشق له غبار، سلالة الأطهار، ونتيجة الأخيار، غصن الدوحة النبوية، وفرع العترة الهاشمية، منجا كل صادي، وملجا كل حاضر وبادي، العلامة الفهامة، سيدي وأستاذي، وقدوتي وملاذي، محمد خليل المرادي، فقلت له يا مولى الخلق على العموم، عهدي بك في بلاد الروم، ولقد بلغنا المنى والمرام، لما رجعت لمحمية الشام. جزاك الله عن المسلمين جزيل المرام. وبلغك والمؤمنين حسن الختام. ثم ذكر هذه القصيدة:
بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر ... لإعلاء أمر الله ذي الطي بالنشر
وكاد حنيف الدين يجنح للخفا ... بغيبة هذا البدر بالعجب والكبر
فأشرق في افق المرادي مؤيداً ... بتقرير أحكام من النقل والفكر
فهاك من الشطرين خدمة قاصر ... إليك بتاريخين من بعد ذا السطر
فأحيا حياء الأكرمين خليلنا ... بمنصب إفتاء وقد حاز للنصر
فلا زال والمجد المؤثل مجده ... لإعلاء دين الله بالنهي والأمر
ليهنك قد وافى المرادي دمشقنا ... بيوم منى إذ كان في جمعة النحر
فخير قدوم سر قلب أولي التقى ... وعمهم إذ طاب باليمن والشكر
أيا ابن الذين استأثروا صهوة العلا ... ودانت لهم أهل الفضائل بالقسر
سلالة آل البيت من نسل ماجد ... فمن ذا يباهي قدركم من ذوي القدر
لك العذر يا من لج في كنه وصفه ... ويا من تسامى الشام فيك على مصر
وشرق وغرب والجنوب وشمأل ... لعمرك فضل الكل فيك بلا فخر
فبالشمس والليل البهيم وبالضحى ... وبالبلد المأمون أقسم والفجر
وياسين والأحزاب فاطر مع سبا ... وبالكهف والإسرا والنحل والحجر
وبالنجم والأنعام رحمن واقعه ... وأولي حديد ثم خاتمة الحشر
بأنك هادينا إلى الله بالتقى ... وتنفيذ حكم الله رغم أولي النكر
وأنت الذي نرجوك فينا مجدداً ... لأحكام دين الله في غابر الدهر
أياديك بيض في الندى موسوية ... ولكنها تسعى على قدم الخضر
فلا زلت للوراد كعبة قصدهم ... تطوف وتسعى فيك بالبيض والصفر
بجاه النبي المختار والآل ذي التقى ... عليهم صلاة الله ما غرد القمري
وما أحمد اليافي يهني مؤرخاً ... بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر
توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.