رضوان النّصري الحاجب المعظّم
حسنة الدولة النصرية، وفخر مواليها.
أوّليّته: روميّ الأصل، أخبرني أنه من أهل القلصادة، وأن انتسابه يتجاذبه القشتالية من طرف العمومة، والبرجلونيّة من طرف الخؤولة، وكلاهما نبيه في قومه، وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محلّ أصالته من داخل قشتالة إلى السّكنى بحيث ذكر. ووقع عليه سباء في سنّ الطفوليّة، واستقرّ بسببه بالدار السلطانية، ومحض إحراز رقّه، السلطان دايل قومه، أبو الوليد المارّ ذكره، فاختصّ به، ولازمه قبل تصيير الملك إليه، مؤثرا له مغتبطا بمخايل فضله، وتماثل استقامته، ثم صيّر الملك إليه فتدرّج في معارج حظوته، واختصّ بتربية ولده، وركن إلى فضل أمانته، وخلطه في قرب الجوار بنفسه، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه، وجعل الجوائز السّنيّة لعظماء دولته على يده، وكان يوجب حقّه ويعرف فضله، إلى أن هلك، فتعلّق بكنف ولده، وحفظ شمله، ودبّر ملكه، فكان آخر اللّخف، وسترا للحرم، وشجى للعدا، وعدّة في الشّدة، وزينا في الرّخاء، رحمة الله عليه.
حاله وصفته: كان هذا الرجل مليح الشّيبة والهيئة، معتدل القدّ والسّحنة، مرهب البدن، مقبل الصورة، حسن الخلق، واسع الصدر، أصيل الرأي، رصين العقل، كثير التجمّل، عظيم الصبر، قليل الخوف في الهيعات، ثابت القدم في الأزمات، ميمون النّقيبة، عزيز النّفس، عالي الهمّة، بادي الحشمة، آية في العفّة، مثلا في النزاهة، ملتزما للسّنّة، دؤوبا على الجماعة، جليس القبلة؛ شديد الإدراك مع السكون، ثاقب الذّهن مع إظهار الغفلة؛ مليح الدّعابة مع الوقار والسكينة، مستظهرا لعيون التاريخ، ذاكرا للكثير من الفقه والحديث، كثير الدّالّة على تصوير الأقاليم وأوضاع البلاد، عارفا للسياسة، مكرما للعلماء، متركا للهوادة، قليل التصنّع، نافرا من أهل البدع؛ متساوي الظاهر والباطن، مقتصدا في المطعم والملبس.
مكانته من الدين: اتّفق على أنه لم يعاقر مسكرا قطّ ولا زنّ بهناة، ولا لطخ بريبة، ولا وصم بخلّة تقدح في منصب، ولا باشر عقاب جاز، ولا أظهر شفاء من غائظ، ولا اكتسب من غير التّجر والفلاحة مالا.
آثاره: أحدث المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها بعد، وسبّب إليها الفوائد، ووقف عليها الرّباع المغلّة، وانفرد بمنقبها، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدرا وظرفا وفخامة، وجلب الماء الكثير إليها من النهر، فأبّد سقيه عليها، وأدار السّور الأعظم على الرّبض الكبير المنسوب للبيّازين، فانتظم منه النّجد والغور، في زمان قريب، وشارف التمام إلى هذا العهد. وبنى من الأبراج المنيعة في مثالم الثّغور وروابي مطالعها المنذرة، ما ينيف على أربعين برجا، فهي ماثلة كالنجوم ما بين البحر الشرقي من ثغر بيرة ، إلى الأحواز العربية. وأجرى الماء بجبل مورور، مهتديا إلى ما خفي على من تقدّمه، وأفذاذ أمثال هذه الأنقاب يشقّ تعداده.
جهاده: غزا في السادس والعشرين من محرم عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة بجيش مدينة باغة، وهي ما هي من الشّهرة، وكرم البقعة، فأخذ بمخنّقها، وشدّ حصارها، وعاق الصريخ عنها، فتملّكها عنوة، وعمّرها بالحماة، ورتّبها بالمرابطة، فكان الفتح فيها عظيما. وفي أوائل شهر المحرم من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة غزا بالجيش عدو المشرق، وطوى المراحل مجتازا على بلاد قشتالة، لورقة، ومرسية، وأمعن فيها.
ونازل حصن المدوّر، وهو حصن أمن غائلة العدو، مكتنف بالبلاد، مدّ بالبسيني، موضوع على طيّة التجارة، وناشبه القتال، فاستولى عنوة عليه منتصف المحرم من العام المذكور، وآب مملوء الحقائب سبيا وغنما.
وغزواته كثيرة، كمظاهرة الأمير الشهير أبي مالك على منازلة جبل الفتح، وما اشتهر عنه فيه من الجدّ والصبر، وأوثر عنه من المنقبة الدّالة على صحة اليقين، وصدق الجهاد، إذ أصابه سهم في ذراعه وهو يصلّي، فلم يشغله عن صلاته، ولا حمله توقع الإغارة على إبطال عمله.
ترتيب خدمته وما تخلّل عن ذلك من محنته: لمّا استوثق أمر الأمير المخصوص بتربيته، محمد، ابن أمير المسلمين أبي الوليد نصر، وقام بالأمر وكيل أبيه الفقيه أبو عبد الله محمد بن المحروق، ووقع بينه وبين المترجم عهد على الوفاء والمناصحة، ولم يلبث أن نكبه وقبض عليه ليلة كذا من رجب عام ثمانية وعشرين وسبعمائة، وبعثه ليلا إلى مرسى المنكّب، واعتقله في المطبق من قصبتها بغيا عليه، وارتكب فيه أشنوعة أساءت به العامّة، وأنذرت باختلال الحال، ثم أجازه البحر، فاستقرّ بتلمسان، ولم يلبث أن قتل المذكور، وبادر سلطانه الموتور بفرقته عن سدّته، فاستدعاه، فلحق محلّه من هضبة الملك متملّيا ما شاء من عزّ وعناية، فصرفت إليه المقاليد، ونيطت به الأمور، وأسلم إليه الملك، وأطلقت يده في المال. واستمرّت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، والتأث الأمر، وظهر من سلطانه التنكّر عليه، فعاجله الحمام فخلّصه الله منه، وولي أخوه أبو الحجاج من بعده، فوقع الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، فرضي الكلّ به، وفرحت العامّة والخاصّة للخطة، لارتفاع المنافسات بمكانه، ورضي الأضداد بتوسّطه، وطابت النفوس بالأمن من غائلته، فتولّى الوزارة وسحب أذيال الملك، وانفرد بالأمر، واجتهد في تنفيذ الأحكام، وتقدّم الولاة، وجواب المخاطبات وقوّاد الجيوش، إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة، فنكبه الأمير المذكور نكبة ثقيلة البرك، هائلة الفجأة من غير زلّة مأثورة، ولا سقطة معروفة، إلّا ما لا يعدم بأبواب الملوك من شرور المنافسات، ودبيب السّعايات الكاذبة. وقبض عليه بين يدي محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب، وقد شهر الرّجال سيوفهم فوقه يحفّون به، ويقودونه إلى بعض دور الحمراء، وكبس ثقات السلطان منزله، فاستوعبوا ما اشتمل عليه من نعمة، وضمّ إلى المستخلص عقاره، وسوّغ الخبر عظيم غلاته. ثم نقل بعد أيام إلى قصبة ألمرية محمولا على الظّهر، فشدّ بها اعتقاله، ورتّب الحرس عليه إلى أوائل شهر ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته. ووجد فقد نصحه، وأشفق لما عدم من أمانته، والانتفاع برأيه، وعرض عليه بما لنوم الكفّ والإقصار عن ضرّه، فعفا عنه، وأعاده إلى محلّه من الكرامة، وصرف عليه من ماله، وعرض الوزارة فأباها، واختار بردّ العافية، وأنس لذّة التخلّي، فقدم لذلك من سدّ الثغور، فكان له اللفظ، ولهذا الرجل المعنى، فلم يزل مفزعا للرأي، محلّى في العظة على الولاية، كثير الآمل والغاشي، إلى أن توفي السلطان المذكور غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، فشعب الثّأي، وحفظ البلوى، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي عبد الله، وقام خير قيام بأمره، وجرى على معهود استبرائه، وقد تحكّمت التجربة، وعلت السّنّ، وزادت أنّة الخشية، وقربت من لقاء الله الشّقّة، فلا تسأل عمّا حطّ من خل، وأفاض من عدل، وبذل من مداراة. وحاول عقد السلم، وسدّ أمور الجند على القل، ودامت حاله متصلة على ما ذكر، وسنّه تتوسّط عشر التسعين إلى أن لحق بربّه. وقد علم الله أني لم يحملني على تقرير سيرته، والإشادة بمنقبته داعية، وإنما هو قول بالحق، وتسليم لحجّة الفضل، وعدل في الوصف، والله، عزّ وجلّ، يقول: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا.
وفاته: في ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان من عام ستين وسبعمائة، طرق منزله بعد فراغه من إحياء ثلث الليل، متبذّل اللّبسة، خالص الطويّة، مقتضيا للأمن، مستشعرا للعافية، قائما على المسلمين بالكلّ، حاملا للعظيمة، وقد بادره الغادرون بسلطانه، فكسروا غلقه بعد طول معالجة، ودخلوا عليه وقتلوه بين أهله وولده، وذهبوا إلى الدايل برأسه، وفجعوا الإسلام، بالسائس الخصيب المتغاضي، راكب متن الصبر، ومطوق طوق النزاهة والعفاف، وآخر رجال الكمال والستر، الضافي على الأندلس، ولوئم من الغد بين رأسه وجسده، ودفن بإزاء لحود مواليه من السبيكة ظهرا. ولم يشهد جنازته إلّا القليل من الناس، وتبرّك بعد بقبره. وقلت عند الصلاة عليه، أخاطبه دون الجهر من القول لمكان التقية: [الطويل]
أرضوان، لا توحشك فتكة ظالم ... فلا مورد إلّا سيتلوه مصدر
ولله سرّ في العباد مغيّب ... يشهّد بخافيه القضاء المقدّر
سميّك مرتاح إليك مسلّم ... عليك ورضوان من الله أكبر
فحثّ المطا ليس النعيم منغّص ... ولا العيش في دار الخلود مكدّر
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.